اضغط هنا لمشاهدة الفيديو التوضيحي

علم مقاصد الشريعة:

         وهذا العلم علم من العلوم الأصيلة في دين الحق عز وجل، وهو يوضح الغايات والمرادات من هذه العلوم، والعلوم الشرعية فيها العلم بالله، وهذا يختص بدراسة ما عليه الحق عز وجل من المحامد والصفات والأفعال، وهو علم التوحيد.

والعلم بأحكام الله وهذا يختص بدراسة الأحكام الشرعية التي محلها الفقه.

وهنالك العلم بمراد الله وهذا محله المقاصد الشرعية، والمقاصد الشرعية هي علم عظيم جدًّا ويؤكد على حكمة الحق عز وجل، وأنه لا عبثية في صنعه جل جلاله.

علاقة علم المقاصد بأصول الفقه:

هذا العلم كان جزءا من أصول الفقه، وعلم أصول الفقه هو الذي أمد الناس بمعرفة هذه المقاصد، وقد كان جزءا من أبواب هذه الأصول يدرس في كتبها، ثم تطور كشأن كل علم إلى أن بلغ الذروة، فعلاقته بأصول الفقه كعلاقة الابن بالوالد، وكعلاقة الفرع بالأصل؛ لذلك يلزم أن نعرف أصول الفقه ابتداء، وسنعطيك أخي الكريم إلماعة خفيفة لا ندخل في تفاصيل هذه التعريفات المختلفة.

تعريف علم أصول الفقه:

نقول في تعريف أصول الفقه اصطلاحًا: أنه معرفة دلائل الفقه إجمالًا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.

فعلم أصول الفقه هو القواعد التي عن طريقها نفهم الفقه، فإذا أردت أن تكون مستنتجًا للفقه، فلا بد لك أن تعرف هذه القواعد التي عن طريقها تتعرف على الأحكام الشرعية وهو عبارة عن ضوابط عامة وقواعد عن طريقها يتوصل الإنسان إلى معرفة الفقه.

فإذا نظرنا في النصوص الشرعية كان هناك نص شرعي يطلب من الناس شيئًا محددًا كقوله: {وأقيموا الصلاة} فحينما ننظر في هذا اللفظ وننظر في إفاداته اللغوية وأنه أمر توصيفه أنه أمر الأمر هذا هل ينصرف للوجوب أم ينصرف للندب، وهناك قواعد تبين هذا الأمر وتوضح فرق النص الذي لا يحتمل إلا معنىً واحدًا في إفادة المراد وتفرق بينه وبين الظاهر الذي هو ترجح من بين احتمالات كثيرة، وهذا الصنيع هو الذي يعتبر من علم أصول الفقه، وهذه القواعد إذا وجدنا أن هناك نازلة من النوازل حدثت عند الناس، فالنازلة بمعنى حدث من الأحداث أو ظهور أمر لم يكن موجودًا في السابق ولا نص عليه، لأنه لم يكن موجودًا في السابق إلا أنه لمحنا أنه يشبه أمرًا منصوصًا عليه، فإذا أردنا أن نلحق هذا الأمر الجديد الذي هو فرع بالذي يشبهه مما هو منصوص عليه لتشابه الأوصاف وهو ما يعرف بالعلة، وهذا يسمى القياس، وهو من مباحث علم أصول الفقه، فهذه القواعد التي عن طريقها تتحصل أخي الكريم على المسألة الموضوع الفقهي المحدد.

أهمية علم أصول الفقه:

         هذا العلم له أهمية بكل تأكيد لأننا إذا أردنا أن نعرف حكم الحق عز وجل فلا بد لنا من وسيلة نعرف بها ذلك، وهذه الوسيلة هي بالأساس الخطابات الشرعية، ومعرفة الخطابات الشرعية تحتاج إلى معرفة القواعد ودلالات اللغة ودلالات الألفاظ، ومتى يكون اللفظ عامًّا؟ ومتى يكون اللفظ محصورًا في نقطة محددة خاصة؟.

ومتى يكون مطلقًا؟ ومتى يكون عامًّا؟ وهل هذا العام يقبل التخصيص أم لا؟ وهل اللفظ العام إذا وقع في جملة مثبتة هل يختلف عنه إذا وقع في جملة منفية أم لا؟.

وكل هذه التفاصيل من غيرها لا يستطيع الشخص الذي لا يعرف الفقه إلا أن يقدم للناس العبث والشريعة كلها جدية وانتباه وتدقيق، لذلك من أراد أن يعرف أن يستنتج فقها فلا بد له أن يمر عن طريق قواعد أصول الفقه، وهذا مما يجعل علم أصول الفقه علمًا مهمًّا للغاية.

وهنا نسأل سؤالًا: هل المقاصد الشرعية هي من علم أصول الفقه أم هي أمر مستقل ؟.

         نقول: هناك من يرى أن المقاصد هي جزء من الأصول وما ينبغي أن تنفك عنه بحال من الأحوال؛ لأنها في النهاية أيضا قواعد وضوابط عن طريقها يتوصل الإنسان إلى المسألة الفقهية.

وهناك من يرى المقاصد علما مستقلا بذاته، ويمكن أن يطبق الشخص عليه مبادئ العلوم المعروفة وهي المبادئ العشرة، من حيث حكمه ونسبته وفضله ومن أين استمد هذه؟ وكل ما يمكن أن تجرى على علم المقاصد.

فحينما سئل الذين قالوا بأنه يمكن أن يكون علما مستقلا: من أين يستمد؟ قالوا: يستمد من الأصول نفسها، ويستمد من علم الكلام والمنطق، ومن الدلالات اللغوية.

فعلاقة علم المقاصد أو المقاصد بأصول الفقه هي علاقة الفرع بالأصل لكن معروف أن لحظة انفصال الجنين تكون صعبة للغاية فإذا ما ظهر المقاصد كعلم مستقل فلا يخفي ملامح أصلي وهي ملامح علم أصول الفقه.

وهذا ليس جديدًا فكونه ينفصل علم عن علم ويتكامل هذا ليس أمرًا جديدًا

فإن تكن تغلب الغلباء أصولها *** فإن في الخمر معنىً ليس في العنب

فالمقاصد لها توصيفها ولها مذاقاتها ولها اختصاصها، وكأن هذه القاعدة التي يحاكم إليها الذي أنتج عبر أصول الفقه مهما يكن الأمر لا أرى في ذلك اشكالا سواء جعلنا علم المقاصد علما مستقلا أو جعلنا المقاصد علما غير مستقل، أو قلنا إنها جزء من أصول الفقه أو غير ذلك.

         فتطور العلوم ملحوظ وواضح جدًّا لذلك كان في البداية جزء من أبواب الأصول وبعد ذلك ألِّفَتْ فيه المؤلفات، ولا يزال يتطور إلى يوم الناس هذا، فإذا أدركت أن علاقة المقاصد بالأصول هي علاقة الفرع بالأصل، والابن بالوالد، وأن المقاصد تستمد من الأصول، وهذه الاشكالية التي تثار أنا لا أرى لها مبررًا بحال من الأحوال.

واختياري الشخصي لك ويمكن أن تناقشني في ذلك أن المقاصد يمكن أن يكون علمًا مستقلا، فإذا كانت هناك مساع لأن تكون الفتوى علمًا مستقلا لأن له أيضا توصيفات واحتياجات، ونحن نتكلم عن تاريخ هذا العلم وسنؤخر التعريف.

وقد يستحسن البعض أن نذكر التعريف أولا ثم بعد ذلك نتكلم عن التاريخ لكن نحن نريد أن نتسلسل تاريخيا ونختم بالتعريف لأننا منه ننطلق إلى دراسة مباحث وعناوين أخرى.

نشأة علم المقاصد وذكر نماذج منه في العهد النبوي وعهد الخلفاء:

         المقاصد بهذا الكلام الذي ذكرناه تشكل مرادات الشريعة، وقد ظهرت من العهد الأول بكل تأكيد على أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكانت المقاصد على أتمها.

المثال الأول:

فحينما قال النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة كما في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا أن قومك حديث عهد بشرك أو بجاهلية لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها من الحجر ستة أزرع فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة".

وهذا الحديث لو أننا نظرنا فيه بدقة نجد أنه يلاحظ النتائج والمقالات وبحث النتائج والمقالات هو من مباحث مقاصد الشريعة فعنده صلى الله عليه وسلم مطلب شرعي وهو جعل الكعبة على قاعدتها القديمة قبل تهدمها بالسيول الأبطحية وتقصر بالناس النفقة عن بنائها فهذا مطلب شرعي لكن هذا المطلب قد يؤدي إلى نتيجة ليست من مطلوبات الشريعة.

ومقصود الشريعة نشر هذا الدين في أنفس وفي آفاق الدنيا ولا بد أن تنتبه معي إلى أن القراءة هنا تمت بصورة شاملة، وملاحظة المقصد الرئيس هو نشر هذه الدعوة

         وهنالك مطلب جزئي أيضا داخل هذه الشريعة فأخر أمر بناء الكعبة على قواعد سيدنا إبراهيم لصالح انتشار هذه الدعوة، كيف ربط هذا بانتشار الدعوة؟ الناس كانوا يقدسون هذه الكعبة وعرفوها بهذا الوضع كأن هناك الأجيال التي بنت وانقرضت وجاء جيل لا يعرف أنها كانت على غير هذه الطريقة فإذا ما جاء داعية الدين الجديد وقاموا بهدم هذا البناء المقدس على طريقة الاهتبال السياسي يشاع في آفاق الدنيا أن هذا الدين الجديد لا يحترم المقدسات فيوجد في نفوس الناس انصرافا عن دراسة هذا الدين وعن التعرض له.

وتكون نتيجة كارثية، فطبقنا الجزء في مقابل الكل، فالقضية السالبة الجزئية في مقابل القضية الكلية وملاحظة المقال هذا يؤكد أن ممارسة أمر المقاصد ليس شيئا جديدا ولا مبتدعا ولا من بنات الأفكار، وإنما هو من صنيع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك أمثلة كثيرة منها:

المثال الثاني:

 ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين حينما قال: يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.

 وهو حديث مشهور وجاءت روايات متعددة منها ما جاء عن سيدنا جابر بن عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الانصاري: يا للأنصار وقال المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال أي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة، فسمعها عبد الله بن أبيّ فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، وكان هذا الصنيع فيه إشكال كبير جدا، وستكون تجلياته كارثية على المجتمع، فقال صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.

 لو نظرنا بدقة نجد أن وجود المنافقين بين المسلمين يشيعون الفتن ويخذلون الناس ويؤولون المسائل، وهذا الوجود له خطورة كبيرة جدا على الدعوة كلها وعلى استقرار المجتمع وبكل تأكيد بالنظرة الأولية لا بد من إزالة هذا الخطر عن هذا المجتمع الذي ينبغي أن يكون متماسكا.

ولكن النبي صلى عليه وسلم لنظرته الشاملة ولربطه الأمر بالمقاصد الحقيقية دائما قال له: دعه لا يتحدث الناس يقولون إن محمدًا يقتل أصحابه.

فإزالة خطر المنافقين مطلوب لأنه يفتك في عرض هذه الأمة، ولكن الذي ينظر إلى المسلمين من بعيد ينظر إليهم على اعتبار أنهم كتلة واحدة وأنهم مجموعة متماسكة وأنهم جميعًا أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا قام الحبيب بفضح هؤلاء المنافقين وضرب عنق أحدهم، فإن الرأي العام والخارجي لا يعرف هذه التفاصيل وإنما يشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، وهذا يبعد الناس عن الدخول في دين الله أفواجا.

كل ذلك لاحظه صلى الله عليه وسلم ففوت هذا الأمر وصبر على هذه المفسدة حتى لا يقود أمر إزالة هذه المفسدة إلى مفسدة أعظم، وهذا هو عين صنيع المقاصديين، فهم يستندون ويستقون من المشرع صلى الله عليه وسلم، وملاحظة المقاصد في العهد النبوي كانت هذه التصرفات المقاصدية موجودة.

المقاصد في زمن الصحابة رضوان الله عليهم:

والمقاصد في زمن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، فإذا دققت وبحثت تجد فيها فقها عظيما يمكننا (أن نختار لك) حادثة من هذه الحوادث وهذه الأحداث وهو كان على زمن الفاروق - وحينما نختار سيدنا الفاروق كمثال ومقاصدي من الطراز الأول لكننا لا نعني بذلك أن بقية الصحابة كانوا مقصرين في هذا الجانب فهناك استصلاحات ومقاصدية كبيرة عند الصديق وعند الفاروق وعند سيدنا عثمان وعند سيدنا علي سنتعرض إليها لاحقا في التفاصيل لكننا الآن نكتفي بما روي عن سيف عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن الزبير قال: بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بعد أن ولاه المدائن، وكان سيدنا حذيفة قد تزوج بامرأة كتابية فكتب إليه أن طلقها فقال سيدنا حذيفة: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام؟ وما أردت بذلك؟ فكتب إليه لا، بل حلال ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم، فقال: الآن فطلقها.

وجاءت هذه المسألة بروايات متعددة وهي صنيع مقاصدي لأن زواج الكتابيات مباح بنص القرآن: "والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم"

         هذه الإباحة جاءت بالقرآن لكن سيدنا عمر بن الخطاب نظر نظرًا مقاصديًّا إلى تجليات هذا الأمر، وإن كان حلالا وذلك واضح في اعترافه بقوله: "لا بل حلال"

         هذا التصرف الذي هو مباح أباحه القرآن قد يتسبب في نتائج على أرض الواقع وهو وجود إشكال مجتمعي، وهذا الإشكال المجتمعي متمثل في أن يتأخر في زواج نساء المسلمين لأن الناس قد انصرفوا إلى نساء أهل الكتاب.

         وعبارة خلابة هذه فيها حمولة دلالية لا بد من الوقوف عندها، ولا يعني ذلك أن نساء الفرنجة أفضل من المسلمات، لا، إنما هو لضوابط قد تضبط المرأة المسلمة في ذلك الزمن بلبس محدد، أو بضبط سلوك معين، وهذا غير مقيد عند الأخريات فتميل النفس إلى ذلك.

         فهذا التصرف من الفاروق كان مقاصديًّا، فالمقاصد أيضا كانت موجودة في العهود الأولى، وهي موجودة أيضا عند التابعين والأمثلة على ذلك كثيرة.

         لكن بعد كتابة الكتب إذا أردنا أن نتكلم عن تاريخ المقاصد فنحن نبدأ بالذين كتبوا في هذه المقاصد، فنجد ريادةً للحكيم الترمذي.

         وأترككم في رعاية الله وحفظه، وإن شاء الحق عز وجل نعود لتكملة مبحث تاريخ المقاصد ابتداءً وتوسطًا واكتمالًا، والسلام عليكم ورحمة الله.

اضغط هنا لمشاهدة الخريطة التوضيحية