اضغط هنا لمشاهدة الفيديو التوضيحي

كيفية رياضة النفس:

«إِذَنْ قَدْ عَرَفْتَ بِهَذَا قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْجَمِيلَةَ يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِالرِّيَاضَةِ وَهِيَ تَكَلُّفُ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عنها ابتداء لتصير طبعاً انتهاء وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ أعني النفس والبدن فإن كل صِفَةً تَظْهَرُ فِي الْقَلْبِ يَفِيضُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ إِلَّا عَلَى وَفْقِهَا لَا مَحَالَةَ وَكُلُّ فِعْلٍ يَجْرِي عَلَى الْجَوَارِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْتَفِعُ مِنْهُ أَثَرٌ إِلَى الْقَلْبِ والأمر فيه دور ويعرف ذلك بمثال وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية حتى يصير كاتباً بالطبع فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن فإن فعل الكاتب هو الخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع...

وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طالب فقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم وهو معنى قولنا أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها ثم تتداعى قليلاً قليلاً حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه وكذلك صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض...

فإذا عرفت أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ تَارَةً تَكُونُ بِالطَّبْعِ وَالْفِطْرَةِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِاعْتِيَادِ الْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ، وَتَارَةً بِمُشَاهَدَةِ أَرْبَابِ الْفِعَالِ الْجَمِيلَةِ وَمُصَاحَبَتِهِمْ، وَهُمْ قُرَنَاءُ الْخَيْرِ وإخوان الصَّلَاحِ؛ إِذِ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ جَمِيعًا فَمَنْ تَظَاهَرَتْ فِي حَقِّهِ الْجِهَاتُ الثلاثة حَتَّى صَارَ ذَا فَضِيلَةٍ طَبْعًا وَاعْتِيَادًا وَتَعَلُّمًا فهو في غَايَةُ الْفَضِيلَةِ وَمَنْ كَانَ رَذْلًا بِالطَّبْعِ وَاتَّفَقَ لَهُ قُرَنَاءُ السُّوءِ فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الشَّرِّ حَتَّى اعْتَادَهَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ من اختلفت فيه من هَذِهِ الْجِهَاتُ وَلِكُلِّ دَرَجَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بحسب ما تقتضيه صورته وَحَالَتُهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره». إحياء علوم الدين (3/ 59- 60).