اضغط هنا لمشاهدة الفيديو التوضيحي
المقام والحال:
الأصل في المقامات جميعها ومراتب التزكية هو محاولة التحقق بمرتبة الإحسان التي حدثنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لما سئل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ()، و(هو باب المناظر كلها، فيه تهب نفحات الرحمن على المتعرضين لها بقوابلهم، فيأخذ العبد من استعماله في ظاهر أعماله بأركان العبادات إلى هذا المنظر العلى)().
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ)(). فوجدان حلاوة الإيمان هو ما يعبر عنه بحصول الحال ووجدانه.
المقام هو: (مَا يتحقق بِهِ العبد بمنازلته من الآداب بِمَا يتوصل إِلَيْهِ بنوع تصرف، ويتحقق بِهِ بضرب تطلب ومقاساة تكلف، فمقام كُل أحد موضع إقامته عِنْدَ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مشتغل بالرياضة لَهُ، وشرطه أَن لا يرتقى من مقام إِلَى مقام آخر مَا لَمْ يستوف أحكام ذَلِكَ المقام، فإن من لا قناعة لَهُ لا يصح لَهُ التوكل، ومن لا توكل لَهُ لا يصح لَهُ التسليم، وَكَذَلِكَ من لا توبة لَهُ لا تصح لَهُ الإنابة، ومن لا ورع لَهُ لا يصح لَهُ الزهد، والمقام هُوَ الإقامة كالمدخل بمعنى الإدخال، والمخرج بمعنى الإخراج، ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة اللَّه تَعَالَى إياه بِذَلِكَ المقام ليصح بناء أمره عَلَى قاعدة صحيحة)().
وأما الحال فهو: (نازلة تنزل بالعبد في الحين، فيحل بالقلب من وجود الرضا والتفويض وغير ذلك، فيصفو له في الوقت في حاله ووقته ويزول)، وقيل: (ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار)().
وقيل: (الحال: معنى يرد على القلب من غير تعمل، ولا اجتلاب، ولا تسبب، ولا اكتساب، من بسط، أو قبض، أو انزعاج، أو هيبة، أو اهتياج، ويظهر أثره على الجوارح قبل التمكن من شطح، ورقص، وسير، وهيام، وهو أثر المحبة لأنها تحرك الساكن أولًا، ثم تسكن وتطمئن؛ ولذا قيل فيها: أولها جنون، ووسطها فنون، وآخرها سكون.
وقد يكتسب الحال بنوعِ تعمِّل، كحضور حلق الذكر، واستعمال السماع، وقد يطلب اكتسابه بخرق عوائد النفس حين يعتريها برودة وفتور، وفرق وكسل، فينبغي أن يتحرك في تسخينها بما يثقل عليها من خرق العوائد، وقد يطلق الحال على المقام، فيقال: فلان صار عنده الشهود -مثلًا- حالًا)().
وربما كان أهم الفروق بين المقام والحال:
1-أن المقام يدوم ويثبت، والحال لا تدوم.
2-وفى عبارة رشيقة تدور بين شيوخ الطريق يتضح منها وببلاغة بعض الفروق الأخرى بين المقام والحال، حيث يقولون: (المقامات مكاسب، والأحوال مواهب، والمقامات ببذل المجهود، والأحوال من عين الجود)، فليست الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضات كالمقامات ()، وهذا الفرق أهم معيار نفرق به بين الحال والمقام، فما كان محض موهبة ليس للكسب فيه مدخل يعتبر حالا().
إلا أن قاعدة المذهب الصوفي للمحاسبي أن الرضا والمحبة والشوق والقبض والبسط أحوال لا مقامات، وأن الحال يدوم، وأنه ما لم يصر الحال صفة للعبد فلا يقع عليه اسمه().
فهناك ظواهر صوفية يختلف شيوخ الطريق في عدها مقاما أم حالا، بل اختلفوا في ظاهرتي المقام والحال نفسهما، فبينما الجمهور على أن الفارق الرئيسي بين المقام والحال هو أن المقام يدوم، والحال لا يدوم، يخالفهم المحاسبي فيرى أن الحال يدوم أيضا، فلم يبق فارق بينهما إلا كسبية المقام، ووهبية الحال.
والعلاقة وثيقة بين المقام والحال، من جهة أنها أمور تعرض للسالك، بعضها يستقر ويثبت، وبعضها ليس كذلك، ومن جهة أن بعض هذه الأمور قد تكون أحوالا في بدايتها ثم تستقر وتثبت فتصير مقاما، ومن ثم يعدها البعض من الأحوال بينما يعدها آخرون من المقامات، (الحال سمى حالًا لتحوله، والمقام مقامًا لثبوته واستقراره، وقد يكون الشيء بعينه حالًا، ثم يصير مقامًا، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول بغلبة النفس، ثم تعود تزول، ولا يزال العبد هكذا إلى أن تتداركه المعونة من الله، وتقهر النفس، وتنضبط المحاسبة؛ فتصير وطنه ومستقره ومقامه)().