اضغط هنا لمشاهدة الفيديو التوضيحي

مصدر التصوف الإسلامي وأصالته:

تتابع شيوخ التصوف على بيان أن طريق التصوف بحقائقه ومقاماته وأحواله ومواجيده مشيد على الكتاب والسنة، فالشيخ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي (ت 215 هـ) يقول: (ربما تنكت الحقيقة في قلبي أربعين يومًا؛ فلا آذن لها أن تدخل قلبي إلا بشاهدين من الكتاب والسنة)، ويقطع سهل التستري (ت 283 هـ) بأن (كلَّ وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فباطل)(). ومن ذلك قول أبى حفص النيسابوري (ت 270 هـ): (من لَمْ يزن أفعاله وأحواله في كُل وقت بالكتاب والسنة وَلَمْ يتهم خواطره فلا نعده في ديوان الرجال)()، ويقول الجنيد (ت 297 هـ): (من لَمْ يحفظ الْقُرْآن وَلَمْ يكتب الْحَدِيث لا يقتدى بِهِ في هَذَا الأمر، لأن علمنا هَذَا مقيد بالكتاب والسنة)()، ويقول أيضا: (مذهبنا هَذَا مقيد بأصول الكتاب والسنة)(). وسئل أَبُو الْحسن البوشنجي (ت 348 هـ) عَن السّنة فَقَالَ: (الْبيعَة تَحت الشَّجَرَة، وَمَا وَافق ذَلِك من الْأَفْعَال والأقوال)().

والحفظ كل الحفظ في موافقة الحق، يقول أَبُو الْقَاسِم النصرآباذي (ت 367 هـ): (مُوَافقَة الْأَثر حسن، وموافقة الْأَمر أحسن، وَمن وَافق الْحق في لَحْظَة أَو خطرة فَإِنَّهُ لَا تجْرِى عَلَيْهِ بعد ذَلِك مُخَالفَة بِحَال)().

وتأسيس الفكر الصوفي بتفاصيله على الكتاب والسنة هو منهج شيوخ الطريق منذ شاع التأليف في التصوف، على ما نجده عند متقدميهم كالسراج الطوسي (ت 378 هـ)، في جميع أبواب كتابه اللمع، حيث يكاد لا يخلو موضوع يطرحه من تأسيسه وتأصيله على الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، كما أنه عقد بابا لذكر نبذ من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله()، مؤكدا على أن لمحققي القوم مذهب في الاستنباط الصحيح والفهم الدقيق لنصوص القرآن والسنة ما يبزون به الفقهاء والمتكلمين().

وسنجد أن أبا طالب المكي (ت 386 هـ) يصدر كتابه قوت القلوب بذكر الآي التي فيها ذكر المعاملة، ثم الفصل الثاني في ذكر الآي التي فيها ذكر أوراد الليل والنهار()، ثم تتوالى فصول الكتاب السبع والأربعين في بيان معاملة المحبوب، ولا يخلو فصل منها من تأسيسه على آيات القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية، والآثار المروية.

وإلى نحو هذا الصنيع في تدشين طريق القوم على أصوله من الكتاب والسنة والآثار والأخبار، يسير الإمام أبو سعد الخركوشي (ت 407 هـ) في كتابه "تهذيب الأسرار"، والذي التزم بتصدير كل أبواب كتابه بحديث شريف مناسب للباب، ويرويه بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يشرع في موضوع الباب، موردا ما يستأنس له من الآيات الكريمة، وعلى نهج أفضل منه بنى الإمام القشيري (ت 465 هـ) رسالته الشهيرة بتصدير أبوابها بآيات مناسبة من القرآن الكريم، يعقبها بحديث شريف أو أكثر مما له اتصال بالباب يرويه بسنده.

وهو ما مضى عليه حجة الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، في منهج واضح جلى يصدر كل باب أو فصل من الكتاب بما تيسر من الآيات يتبعها بأحاديث الباب وآثاره، ويفرد لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله كتابا ضمن الإحياء سماه (كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة) ()، وفى ضوء هذا نرى أن هناك تصوفا إسلاميا صحيحا تغيا في قيمه ونظرياته ومفاهيمه ومقاماته وأحواله الكتاب الكريم والسنة النبوية، والتزم بهما ولم يتجاوزهما، ولا ينافى هذا نزعات تبدو من بعض الشخصيات الصوفية تتأثر بمؤثرات شتى، ومن ثم لا يصح بحال إطلاق القول بعدم أصالة التصوف الإسلامي، ونعتبره من التعميم المخل المتجاوز لحقيقة التصوف الإسلامي وواقعه().

وختاما فمشايخ الطريق مجمعون على أن (من وافق القرآن ولم يتبع سنن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو مخالف للقرآن غير متبع له، والمتابعة والاقتداء: هي الأسوة الحسنة برسول الله عليه الصلاة في جميع ما صح عنه من أخلاقه، وأفعاله وأحواله، وأوامره ونواهيه وندبه، وترغيبه وترهيبه)().

والرأي عندنا أن التصوف الإسلامي ظاهرة سنية، نشأت بين أهل السنة والجماعة، وصدرت عن أسس إسلامية، وهذا لا يمنع من تأثر بعض تيارات التصوف وعبر رحلة تطورها الطويلة بمؤثرات خارجية، ولكن سيبقى التصوف الإسلامي الأصيل هو ظاهرة سنية في أصولها وتجلياتها ()، (وقد أخطأ الكثيرون من المستشرقين برده إلى مصادر أجنبية عن الإسلام)()، خاصة إذا رأينا (الفروض التي جعلت التصوف غير إسلامي قد ألغى بعضها بعض، بعد أن اكتشف بعض المستشرقين ضرورة إعادة النظر في أحكامهم بهذا الصدد، فقرر نيكلسون – وهو من السابقين إلى دراسة التصوف – أن كل الأفكار التي وصفت بأنها دخيلة على المسلمين ووليدة ثقافة أجنبية غير إسلامية، إنما هي وليدة الزهد والتصوف اللذين نشآ في الإسلام، وكانا إسلاميين في الصميم، وقد أشاد ماسينيون بهذا الإنصاف)()، كما أنه خالف الصواب في اعتقادنا من رأى أن (التصوف أو العرفان في نظر المسلمين هو طريقة يمزج الدين فيها بالفلسفة) ()، بل التصوف عند أهل السنة هو العمل بالكتاب والسنة لا غير، وإن أصاب العبارة حيث يقول: (ولو فرضنا أن الإسلام لم يتصل بأي وجه من الوجوه بالمذاهب والفلسفة وبعقائد الملل الأخرى وآرائها، لظهر مع ذلك نوع من التصوف في الإسلام لأنه كانت في الإٍسلام نفسه بذور كامنة من التصوف، أي أن التأثيرات الفكرية التي أشاعتها الشعوب المسلمة في العالم الإسلامي لم تكن إلا محركة ودافعة لتلك الميول المختلفة التي كانت موجودة في الإسلام نفسه، وحتى المؤثرات الأجنبية التي لم يتقبلها الصوفية قد أوجدت بدورها رد فعل فكريًا آخر، أى أن الأفكار والآراء المأخوذة من المصادر غير الإسلامية إذا كانت قد صادفت قبولاً عند الصوفية أمدت بدورها التصوف الإسلامي، وإذا لم يتقبلوها فإنها لم تَخْل من فائدة في هذه الحالة أيضًا، وسواء أمُوجَبًا كان الفكر الحديث أم سالبًا، فإنه أوجد تأثيرًا خاصًا)().

وفى ضوء ما سبق يمكننا القول بما يلي:

1- مصدر التصوف الإسلامي هو: الكتاب والسنة، وعلى ذلك أطبق صوفية الإسلام؛ حتى قالوا: "مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"، "مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، وعملنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (الجنيد 297 هـ).

2- "من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"، (الجنيد ـ ت 297 هـ).

3- "كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام"، (الجنيد، ت 297 هـ).

4- قدمت أمهات كتب التصوف تأصيلا جادا لقضايا التصوف ومسائله وقواعده وأسسه ومقاماته وأحواله على أدلة الكتاب والسنة، مثل اللمع للطوسي (ت 387 هـ)، والتعرف للكلاباذي (ت 380 هـ)، وقوت القلوب لأبى طالب المكي (ت 386 هـ)، تهذيب الأسرار للخركوشي (ت 406)، والرسالة للقشيري (ت 465 هـ)، وكشف المحجوب للهجويري (ت 465 هـ)، وإحياء علوم الدين للغزالي (ت 505 هـ)، والغنية للجيلاني (ت 561 هـ)، وعوارف المعارف للسهروردي (ت 632 هـ).

وها هنا شبهة لا بد من الجواب عليه، مفادها: أن الطريق الصوفي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم طريق صوفي، ومن ثم فهو بدعة مردودة.

والحقيقة أن هذا الكلام لا يرقى أن يكون شبهة، بل مجرد شغب وسفسطة، فعلى هذا القياس: فإن الفقه والتفسير وشرح السنة والنحو والصرف والبلاغة وأصول الفقه وقواعد الفقه وغيرها من العلوم لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقهاء ولا مفسرون ولا شراح ولا نحويون ولا صرفيون ولا بلاغيون ولا أصوليون، ولم تكن هذه العلوم في عهده فمن ثم فهي بدعة.

وإذا كانت هذه العلوم قد وجدت أصولها في عهده صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في الفقه ووضع أساسه، وتكلم في التفسير ووضع أساسه، وتكلم في علم العقيدة ووضع أساسه، ودرب أصحابه على هذه العلوم والنظر في مسائلها، فكذلك تكلم في علم التصوف ووضع أساسه، وربّى أصحابه عليه، وإذا كانت آيات الأحكام في القرآن الكريم كما يذكر العلماء نحو 500 آية، وأحاديث الأحكام في السنة النبوية الشريفة نحو 2000 حديث، فإن آيات التربية والتزكية والتصفية والآيات الدالة على مقامات الإحسان وأحاديث ذلك تربو عليها أضعافا مضاعفة، ولو ادعى مدعٍ أن عامة نصوص الكتاب والسنة في إصلاح النفوس، لم يكن مبالغا.

ثم يأتي غر جاهل، أو مبتدع متعصب فينكر علوم الإحسان والتربية والتزكية، ويقول لم ترد وهي بدعة؟!.

وسبحان من يعمى البصائر بأشد مما تعمى منه الأبصار.

وإذا تقرر ما تقدم عُلِمَ أن حقيقة علم التصوف ومسمَّاه قد وُجِدَا في عهده صلى الله عليه وسلم علَّمه أصحابه، وربَّاهم عليه، وإذا ثبتت الحقائق والمسميات، فلا علينا من الأسماء فسمَّها ما شئتَ: علم التصوف، علم الأخلاق، علم الإحسان، علم التربية، علم التزكية، أو أي اسم شئت.