اضغط هنا لمشاهدة الفيديو التوضيحي

سلسلة الطريق والتحقق بالنسبة:

الأصل عند الصوفية في قضية السلسلة وأخذ العهد بالتلقين والتلقي على يد الشيخ هو القياس على حديث: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ()، ووجه القياس (أن من لم يعرف آباءه وأجداده في الطريق فهو أعمى، وربما انتسب إلى غير أبيه،... والروحُ ألصق بك من حقيقتك، فأبو الروح يليك، وأبو الجسم بعده، فكان بذلك أحق بأن تنتسب إليه، وقد اندرج السلف الصالح على تعليم المريدين آداب آبائهم)().

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ حَاضِرٌ يُصَدِّقُهُ - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ غَرِيبٌ؟ - يَعْنِى أَهْلَ الْكِتَابِ - قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ وَقَالَ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَرَفَعْنَا أَيْدِينَا سَاعَةً، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَدَهُ...»().

ومن ثم لا تقتصر أهمية السلسلة على دلالتها التاريخية على النشأة والتطور التاريخي من خلال تتبع رجال السلسلة ودورهم في تاريخ الطريقة.

ولكن أيضا السلسلة تشير إلى منابع أصول الطريقة، وواضعي منهجها، ومقرري نظرياتها الصوفية.

ولا شك أنه منذ أسس علماءُ الإسلام المنهجَ النقلي، ضبطوه ضبطا غاية في الإتقان من أجل الاطمئنان إلى صحة النص الشرعي المنقول، سواء في القرآن الكريم، والذي ينقل إلينا من خلال أسانيد القراءات، أو في السنة النبوية الشريفة والتي تنقل إلينا من خلال أسانيد الأحاديث، وقد صار هذا ديدن علماء الإسلام في شتى العلوم والفنون.

وهنا تأتى الدلالة المهمة في مسألة سلاسل الطرق، والتي حرصت عليها عامة الطرق الصوفية، ومنها النقشبندية والشاذلية، وهي أنهم يريدون أن يعطونا إشارة إلى أن الطريق نقل واتباع واقتداء، وليس هو بأمر عقلي، ولا مخترع.

وربما نجد أيضا جذور هذا التقليد مبكرا قبل نشأة الطرق الصوفية بمعناه الحرفي في ذكر شيوخ الطريق الصوفي الذين عليهم المعول عند الكلاباذي (ت 380 هـ)، والذي قدم سردا – لا تراجم – لأسماء (رجال الصُّوفِيَّة مِمَّن نطق بعلومهم وَعبر عَن مواجيدهم وَنشر مقاماتهم وَوصف أَحْوَالهم قولا وفعلا بعد الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم)، ثم ذكر أسماء (مَن نشر عُلُوم الْإِشَارَة كتبا ورسائل)، وختم ذكرهم بقوله: (وَهَؤُلَاء هم الْأَعْلَام المذكورون المشهورون الْمَشْهُود لَهُم بِالْفَضْلِ الَّذين جمعُوا عُلُوم الْمَوَارِيث إِلَى عُلُوم الِاكْتِسَاب، سمعُوا الحَدِيث وجمعوا الْفِقْه وَالْكَلَام واللغة وَعلم الْقُرْآن تشهد بذلك كتبهمْ ومصنفاتهم، وَلم نذْكر الْمُتَأَخِّرين وَأهل الْعَصْر وَإِن لم يَكُونُوا بِدُونِ من ذكرنَا علما لِأَن الشُّهُود يُغنى عَن الْخَبَر عَنْهُم)().

ونرى التقليدَ نفسه عند القشيري() (ت 465 هـ) في الرسالة، إلا أنه لم يكتف بسرد الأسماء، بل ترجم تراجم مختصرة لمن ذكرهم، حيث عقد الباب الثالث (في ذكر مشايخ هذه الطريقة وَمَا يدل من سيرهم وأقوالهم عَلَى تعظيم الشريعة)()، ثم ترجم لأكثر من ثمانين شيخا من شيوخ التصوف، من شتى المشارب الصوفية، ولا يمثلون مدرسة ما أو مذهبا صوفيا بعينه، (كَانَ الغرض من ذكرهم في هَذَا الموضع التنبيه عَلَى أنهم مجمعون عَلَى تعظيم الشريعة، متصفون بسلوك طرق الرياضة، مقيمون عَلَى متابعة السنة، غَيْر مخلين بشيء من آداب الديانة... ولو تتبعنا ما ورد عَنْهُم من ألفاظهم وحكاياتهم ووصف سيرهم، مِمَّا يدل عَلَى أحوالهم لطال بِهِ الكتاب)().

ولكن قضية "شيوخ الطريق وسلسلتها" ستأخذ نحوا أكثر تحديدا، كلما مضت الطرق الصوفية في التبلور والتميز بخصائص سلوكية وسمات صوفية تجعل من كل طريق مدرسة بذاتها، ومن ثم لها سلسلتها الخاصة بها.

والنسبة عند القوم: (الحال الذي يتعرف به صاحبه، بمعنى: انتسابه إليه.

قال جعفر الطيالسي الرازي رحمه الله: النسبة نسبتان: نسبة الحظوظ، ونسبة الحقوق، إذا غابت الخليقة ظهرت الحقيقة، وإذا ظهرت الخليقة غابت الحقيقة.

وسئل القناد عن الغريب فقال: الذي ليس له في العالم نسيب.

وقال النوري (ت 295 هـ) رحمه الله: كلما رأته العيون نسب إلى العلم، وكلما علمته القلوب نسب إلى اليقين؛ فلذلك قلنا: معنى النسبة الاعتراف)().