مقدمات علم أصول الفقه ( 4 )

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمي الكريم ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد: فقد تكلمنا في الدرس السابق عن : التعريف ب كتاب ( جمع الجوامع .
وسنتكلم في هذا الدرس عن : التعريف ب كتاب «منع الموانع عن جمع الجوامع في أصول الفقه» .
يرجى لك عزيزي الطالب بعد دراستك لهذا الدرس أن: [1] تعرف سبب تأليف « الإمام السبكي » لكتاب « منع الموانع » .
[2] تبين نسبة كتاب « منع الموانع » إلى « الإمام السبكي » .
[3] توضح أهمية كتاب « منع الموانع » .
[ 4 ] تذكر المصادر التي اعتمد عليها « الإمام السبكي » في كتاب « منع الموانع » .
[ 5 ] تجيب عن بعض الانتقادات التي وجهت ل كتاب « منع الموانع » .
[ 6 ] تبين تكاملية مصنفات الإمام « تاج الدين السبكي » .
سبب تأليف « الإمام السبكي » لكتاب « منع الموانع »
هذا الكتاب صنفه تاج الدين السبكي ؛ ليكون كالشرح لكتاب « جمع الجوامع »، يبين فيه ما أستشكل من عباراته، ويجيب عن الأسئلة والاعتراضات التي وُجهت إلى مصنفه « جمع الجوامع ».
وقد جاء الكتاب على صورة إجابات عن الأسئلة التي وردت عليه، وكانت الإجابة دائرة بين الإطناب والإيجاز، حسب ما يقتضيه المقام .
نسبة كتاب « منع الموانع » « للإمام السبكي »
اتفق العلماء على صحة نسبة « منع الموانع » للتاج السبكي ؛ لما يلي: [ 1 ] أن التاج قد نص على اسمه في ثناياه، فقال - رحمه الله - وهو يتحدث عن القسم الثالث من الأسئلة: (... وهذه
سؤالات وقعت في الدرس مفرقة، فأنا أذكرها على ترتيب وقوعها عليَّ، لا على ترتيب الكتاب، فإذا انضمت إلى ما تقدم من الأسئلة والأجوبة، هي وأجوبتها، كان المجموع كتابًا مستقلًّا، مسمى بـ « منع الموانع عن جمع الجوامع » ينتفع به حافظ « جمع الجوامع »، فإن ذلك كالشرح لمشكل الكتاب) .
[ 2 ] في أثناء شرح الكتاب، كان يذكر التاج أسماء كتب له، كقوله وهو يتكلم عن الترادف «...وأنا أحقق البحث عن هذه المراتب كلها -
إن شاء الله تعالى - في كتابي « الأشباه والنظائر » .
[ 3 ] كل من ترجم للتاج أثبت كتاب « منع الموانع » له.
[ 4 ] نقل بعض علماء الأصول نصوصًا من الكتاب في كتبهم، ونسبوها إلى التاج في « منع الموانع ».
من ذلك قول ابن النجار : (...كذا قال
التاج السبكي في « منع الموانع »، وقال: هو التحقيق) .
وقول السيوطي وهو يتكلم عن تعريف الأصول : (... وأما صاحب «
جمع الجوامع » فاقتصر في تعريف الأصول على الدلائل الإجمالية..
.
وقال في « منع الموانع »: جعلُ المعرفة بطرق استفادتها جزءًا من مدلول الأصولي دون الأصول لم يسبقني إليه أحد) .
أهمية كتاب « منع الموانع »
تظهر أهمية الكتاب فيما يلي: [ 1 ] أنه آخر كتب تاج الدين الأصولية، ومن ثم فإن آراءه فيه هي المعول عليها في المسائل التي كان يتردد فيها نظره في كتبه الأخرى.
[ 2 ] يعتبر هذا الكتاب بيانًا وشرحًا لكتاب « جمع الجوامع »، حيث إن به حلَّت مشكلاته ووضحت عباراته.
[ 3 ] في الكتاب زيادات عما في « جمع الجوامع » كتبها إجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بعلم الأصول ككل، وليست خاصة بكتابه « جمع الجوامع »، وقد صرح - رحمه الله - بهذا حيث قال في نهاية أجوبة القسم الأول: (... وأنت ترى أكثرها لا اختصاص له بكتابنا «
جمع الجوامع »، بل هي أسئلة تتعلق بالفن من حيث هو ) .
ولأهمية الكتاب صار عمدة لكل من تناول « جمع الجوامع » بالشرح والتحليل، كالجلال المحلي ، والزركشي ، وأبي زرعة العراقي ، والكوراني ، والزليطني ، وغيرهم.
مصادر « الإمام السبكي » في كتاب « منع الموانع »
المصادر التي اعتمد عليها التاج في الكتاب: صرح التاج - رحمه الله - فقال: (... ونحن من رأس القلم نكتب، حيث لا كتاب ولا وقت متسع لإرخاء عنان الكلام)
.
هذه العبارة يُفهم منها أن الشيخ - رحمه الله - كان يكتب ويجيب من حفظه دون أن يستعين بكتاب بين يديه، يدل على هذا وجود نقول كثيرة في الكتاب من أمهات كتب لعلماء متقدمين عليه، الأمر الذي يُعتقد معه قوة حفظ الرجل واستيعابه لكل الكتب التي سبقته.
وأقول: إن الأسئلة والاعتراضات على « جمع الجوامع » وُجهت إليه في عصر الشيخ وفي عصرنا هذا.
وقد تصدى - رحمه الله - لما وُجه إلى كتابه، وأجاب عنه كما تقدم في كتابه « منع الموانع »، الذي أرى وجوب الاستعانة به عن قراءة وتدريس « جمع الجوامع »؛ لأنه يعتبر مكملًا له.
والحق أن التاج السبكي لم يدَّع الكمال ونفي الخطأ عن كتابه « جمع الجوامع »، وإنما قال: «... وقد دار على ألسنة الناس، وصار في كل محفل كمضغة
تلوكها الأشداق، وتتردد تردد الأنفاس، وطار بناؤه، وأنا أنادي "ما في وقوفك ساعة من باس"، ولست أدعي أنه جمع سلامة، ولا أبريه كلما توجهت نحوه الملاءة، ولا أتعصب له، فبئست الخصلة إذا قلت لكل من اعترضه في الملامة كلا، ولا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب؛ بل أقول: يؤخذ من قوله ويترك، والله العليم بالغيب، وينظر فيه مع تجويز اعتراض الشك له والريب .
ومن أبرز العلماء الذين تصدوا للدفاع عن « جمع الجوامع »: شهاب الدين أحمد بن قاسم العبادي (ت: 994هـ) في كتابه: «الآيات البينات على اندفاع أو فساد ما وقفت عليه مما أُورد على " جمع الجوامع " وشرحه للمحقق المحلي من اعتراضات» .
وقد ذكر - رحمه الله - في المقدمة الدافع وراء تأليف هذا الكتاب، فقال: (... حملني عليه أني لما رأيت جمعًا من شيوخنا وغيرهم قد ألِفوا التحامل عليهما
، وإضافة ما لا يليق ببعض الطلاب إليهما، وأوردوا أنواع الاعتراضات، وبالغوا بصنوف التشنيعات مما هو في الأغلب { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]) .
وقد حصر - رحمه الله - الدافع للمعترضين على « جمع الجوامع » في ثلاثة أسباب: الأول: ما يرجع حاصله إلى مجرد المناقشات اللفظية التي اشتهر أنها ليست من دأب المحصلين.
الثاني: ما لا منشأ له إلا الأغلاط الفاحشة والأوهام الساقطة.
الثالث: ما لا سبب له إلا مجرد مخالفتهما لما قاله ابن الحاجب والعضد ، أو أحدهما.
قال ابن قاسم : «وهذا القسم كما لا يخفى على إنسان من البطلان بمكان؛ إذ مخالفة ما قاله ابن الحاجب والعضد ، لم يرد نقل بامتناعها، ولا قام عقل مستقيم على منعها أو عدم استحسانها، فإن ادعوا امتناعها لذاتها فهو هذيان غني عن البيان، أو لأنهما أعلم؛ منعناه بالنسبة للمصنف في هذا الفن» .
وبجانب « منع الموانع » و« الآيات البينات » صنفت كتب أخرى للدفاع عن « جمع الجوامع »، منها: [ 1 ] كتاب « البيض القواطع في الذب عن جمع الجوامع » لأبي الفضل أحمد بن عبد الله الشرقاوي (ت: 801 هـ).
[ 2 ] كتاب « البروق اللوامع فيما أورد على جمع الجوامع » لمحمد بن محمد الزبيري ، المعروف بـ « العيزري » (ت: 808 هـ).
موقف الشيخ « دراز » من كتاب « منع الموانع »
في العصر الحديث أبدى كل من الشيخ عبد الله دراز ، والشيخ محمد الخضري ، اعتراضًا على « جمع الجوامع ».
يرى الشيخ عبد الله دراز أن متن « جمع الجوامع » إذا قورن بغيره من المتون، فإنه يكون أقلهم غناء، وأكثرهم عناء، وبرر سبب عدم انتشار كتاب « الموافقات » للشاطبي فترة من الزمن بقوله: (... إنه لا يلزم من الشهرة وعدمها فضل ولا
نقص، فالكتب عندنا كالرجال، فكم من فاضل استتر، وعاطل ظهر، ويكفيك تنبيهًا على فساد هذه النظرية ما هو مشاهَد، فهذا كتاب « جمع الجوامع » بشرح المحلي بقي قرونًا طويلة، هو كتاب الأصول الوحيد الذي يدرس في الأزهر ، ومعاهد العلم بالديار المصرية، مع وجود مثل « الإحكام » للآمدي ، وكتاب « المنتهى »، و« المختصر » لابن الحاجب ، و« التحرير » و« المنهاج »، و« مُسلَّم الثبوت » وغيرها من الكتب المؤلفة في نفس القسم الذي اشتمل عليه « جمع الجوامع ».
وقد نسجت عليها عناكب الإهمال، فلم يبرز بعضها للتداول والانتفاع بها إلا في عهدنا الأخير، ولا يختلف اثنان في أن « جمع الجوامع » أقلها غناء وأكثرها عناءً) .
ويجاب عما قاله الشيخ دراز بما يلي: 1- ما قاله الشيخ دراز من أن « جمع الجوامع » أقل المتون غناءً وأكثرها عناءً، يُمثل رأيه وموقفه من الكتاب؛ لأن هناك عددًا لا يحصى من العلماء أثنوا على الكتاب وحفظوه ودرسوه، وشرحوه واختصروه ونظموه، وما كان لهم أن يفعلوا هذا إلا لأنهم وجدوا فيه بغيتهم، وأنه يغني عن غيره، ولا يعقل أن يضيعوا أوقاتهم في شرح متن لا فائدة منه.
يقول السيوطي - رحمه الله - مبينًا سبب نظمه لـ« جمع الجوامع »: (... والباعث على ذلك أني لم أجد من سبقني إلى نظمه مع نظمهم «
مختصر ابن الحاجب » و« منهاج البيضاوي » وهذا الكتاب أولى بذلك؛ إذ لم يؤلف قبله ولا بعده مثله، لما انطوى عليه من العلم الكثير، واللفظ الوجيز، والتحقيقات البديعة، والنكت المنيعة) .
ويقول الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن صاحب كتاب « الترياق النافع بإيضاح وتكميل جمع الجوامع »: (كتاب « جمع الجوامع » للعلامة تاج الدين السبكي - رحمه الله - في أصول الفقه والدين ، كتاب أجمع صيارفة التحقيق على بلوغه في الاختصار الدرجة التي لا ترام، واتفق عدول سماسرة التدقيق على أنه من الجمع والتهذيب بأرفع مقام) .
[ 2 ] تدريس هذا الكتاب في الأزهر قرونًا طويلة شاهد على ما فيه من علم؛ إذ لا يعقل أن يدرس هذا الكتاب في الأزهر من قبل كبار علمائه وهو قليل الفائدة، فلولا أنهم أدركوا أهمية الكتاب لطلبة الأزهر ما قرروه، ومن ثم كان اختيار كبار علماء الأزهر لتدريسه دليلًا قاطعًا على مكانته، وما فيه من علم، وأنه كان الصالح للطلاب في هذه العصور.
موقف الشيخ « الخضري » من كتاب « منع الموانع »
زعم الشيخ محمد الخضري - رحمه الله - أن كتاب « جمع الجوامع » عبارة عن جمع الأقاويل المختلفة بعبارة لا تفيد قارئًا ولا سامعًا، وهو مع ذلك خلو من الاستدلال على ما يقرره من القواعد .
ويجاب عن هذا الكلام بما يلي: [ 1 ] قوله: ("إن الكتاب جمع لأقوال مختلفة بعبارة لا تفيد قارئًا ولا سامعًا" قول فيه مبالغة واضحة وتحامل على الكتاب، فالتاج السبكي حصر أقوال العلماء في كل مسألة، ورتبها ترتيبًا علميًا لبيان تطور الأقوال أولًا، أو غرابة قول ثانيًا، أو مخالفة قول ثالثًا، أو وقوع غلط فيه رابعًا، فترتيب الأقوال عنده كان لغاية وهدف ولم يكن عبثًا) .
يقول - رحمه الله - : (... ولو أن الفطن تأمل صنيعي في هذا المجموع الصغير الذي سميته «
جمع الجوامع »، وجعلت اسمه عنوانًا على معناه، وترتيبي الأقوال وقائليها والمسائل وفروعها والقائلين وتعديدهم، واطلع على مغزاي في ذلك لقضى العجب العجاب وعلم كيف أمطنا القشر عن اللباب) .
لا يعيب كتاب « جمع الجوامع » خلوه من الأدلة؛ لأنه متن، والمتون يراعى فيها الاختصار، أما الأدلة فقد ذكرها قبل في « الإبهاج »، و« رفع الحاجب » وشأن « جمع الجوامع » في هذا شأن بقية الكتب المختصرة كـ« منهاج البيضاوي »، و« مختصر ابن الحاجب »، وشراح هذه الكتب هم المطالبون بذكر الأدلة ومناقشتها.
وأقول إن صعوبة قراءة « جمع الجوامع » وغيره من المتون، لا ترجع لأسباب فيها، وإنما ترجع إلى قصور في فهمنا، وضعف في هممنا... وتأليف هذه المتون أصعب من تأليف الكتب المطولة، وتدل -في الوقت نفسه- على مهارة كاتبيها وفهمهم واستيعابهم لعلم
الأصول وغيره من العلوم التي يستعان بها على فهم ما أغلق فهمه على القارئ.
وحسبك أن التاج السبكي -رحمه الله - صنف هذا الكتاب الفذ وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة.
وهذه شهادة لنبوغ الرجل، وأمارة على توفيق الله له.
منهج الإمام « تاج الدين » في كتاب « منع الموانع »
يبدو أن منهج الشيخ في « منع الموانع » هو نفس منهجه في « جمع الجوامع »؛ لأن الكتابين متلازمان، فالأول يعتبر بيانًا وشرحًا للثاني.
والذي يجب التنبيه عليه هو: أن منهجه في ترتيب «منع الموانع» متباين، ففي الوقت الذي رتب فيه أسئلة القسمين الأولين من الأسئلة حسب ترتيب الكتاب الأصل « جمع الجوامع » لم يلتزم بهذا في القسم الثالث من الأسئلة، حيث تولى إجابتها حسب ورودها عليه، وليس على ترتيب كتاب « جمع الجوامع »، وبهذا يظهر اختلاف منهجه في « منع الموانع ».
تكاملية مصنفات الإمام « تاج الدين »
جعل - رحمه الله - مصنفاته كالمنظومة الواحدة، فكل واحد منها يكمل الاخر، فما يجمله في مصنف يفصله ويبينه في آخر، وما يفصله في موضع يجمله في آخر.
ومن الشواهد على ذلك ما يلي: [ 1 ] قوله في مسألة الإباحة: هل تستفاد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد بعد ذكر الاستدلال بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
(والحق عندي، أن هذه الآية لا تدل لوجوب ولا ندب ولا إباحة كما قررته في ( شرح المنهاج )..)
.
[2] قوله معقبًا على رأي القاضي أبي بكر الباقلاني بتردده في إفادة الخمسة للتواتر: (... وقد تكلمنا معه في (
التعليقة ) بما لا نطيل بإعادته) .
[ 3 ] بعد أن ذكر عدة أمثلة على تنزيل اللفظ على المعنى الشرعي قبل العرفي، قال: (... وأما الرجوع إلى العرف ففي مسائل تخرج عن حد الحصر، وقد أتينا في كتابنا
الأشباه والنظائر منها بالعد الكثير) .
[ 4 ] قوله في كتاب « منع الموانع » وهو يتكلم في مسألة نفي الحكم قبل ورود الشرع: (... وقع في عبارات كثير من أئمتنا اختيار الوقف في هذه المسألة... فهم يعنون في الوقف غير ما تعنيه
المعتزلة من عدم الدراية ونحوها، وهذا قد قررناه في « شرح المختصر » فلا حاجة إلى الإعادة هنا) .
[ 5 ] قوله في « منع الموانع » عند الكلام على أن حقيقة الإكراه لا تنافي التكليف: (... وهذا يزداد تحقيقًا بعد تأمل ما سطرناه في «
شرح المختصر » في النقض) .
وبهذه الأمثلة وغيرها، يظهر لنا بجلاء أنه - رحمه الله - كان كثيرًا ما يحيل القارئ إلى مصنفاته الأخرى عند ذكره بعض المسائل، مما يدل على الترابط والتكامل بين مصنفاته، وأنها منظومة واحدة لا يمكن الاستغناء عنها، بل أقول: إن مصنفات تاج الدين السبكي الأصولية يمكن لطالبي أصول الفقه الاستغناء بها عن كثير من المصنفات الأصولية الأخرى .
وأستعير هذه العبارة الطيبة لمحققي « الإبهاج » حيث قالا بعد الانتهاء من الكلام عن منهجه في تأليف الكتاب: (وبعد هذا التجوال بين ربوع شرحه، واستخراج بعض الفوائد منه، بقي أن نقول: إنه مهما بذلنا من جهد فلن نستطيع أن نستخرج كل كنوزه، فكما تجد في البحر كل أنواع الأسماك والنباتات البحرية، والصخور المرجانية، والحلي الثمينة، كذلك في شرح الشيخ تاج الدين ، تجد جميع أنواع العلوم، وإن غلب عليه أنه كتاب أصولي، لكن ليس هناك بد مما ليس له بد، أو كما يقال: فلا يمكن الحكم له أو عليه بمجرد قراءة سطحية وفي كتاب واحد، بل ينبغي أن تقرأ كتبه التي ألفها في أصول الفقه ابتداءً بهذا الكتاب، ومرورًا بشرحه على ابن الحاجب ، وانتهاءً بتصنيفه لمختصر « جمع الجوامع »، والذي جمع فيه زهاء المئة مصنف؛ لذا فمهما بذلنا من جهد، فإنه يصعب إعطاء هذا الرجل حقه) .
وأقول: يا ليت قومي يعلمون... يا ليت قومي يدركون أهمية تدريس كتب هذا الإمام في جامعة
الأزهر ... إنه من غير المعقول والمستساغ ألا يُدرس لهذا الإمام كتاب واحد في هذه الجامعة العظيمة...إن كتبه كنوز اكتشفت، لكننا نحن
الأزهريين لم نلتفت إليها، ولم يدرك المسؤولون عن وضع المناهج أهميتها ووجوب تدريسها، واكتفى الجميع بشرائها ووضعها في بعض مكتبات الكليات للمباهاة والزينة.
رحمك الله يا تاج الدين ، فقد كنت عالمًا عاملًا مخلصًا، استوعبت علومًا كثيرة، وتبحرت في فنون عديدة، وكنت آية في المذهب، وماهرًا في الحديث والأدب، وكانت لك يد في النظم والنثر، وكنت جيد البديهة، ذا بداهة وطلاقة لسان، وجراءة جنان، وذكاء مفرط، وذهن وقاد، وكنت صاحب قدرة على الحوار والمناظرة .
[أ] كتاب « منع الموانع » صنفه الإمام تاج الدين السبكي ؛ ليكون كالشرح لكتاب « جمع الجوامع »، يبين فيه ما أستشكل من عباراته، ويجيب عن الأسئلة والاعتراضات التي وُجهت إلى مصنفه « جمع الجوامع » .
[ب] اتفق العلماء على صحة نسبة « منع الموانع » للتاج السبكي ؛ ب أن ه قد نص على اسمه في ثناياه، و كل من ترجم للتاج أثبت كتاب « منع الموانع » له ، و نقل بعض علماء الأصول نصوصًا من الكتاب في كتبهم، ونسبوها إلى التاج في « منع الموانع » .
[ج] تظهر أهمية الكتاب : في أنه آخر كتب الإمام تاج الدين الأصولية، ومن ثم فإن آراءه فيه هي المعول عليها في المسائل التي كان يتردد فيها نظره في كتبه الأخرى ، كما أنه يعتبر بيانًا وشرحًا لكتاب « جمع الجوامع »، حيث إن به حلَّت مشكلاته ووضحت عباراته .
[د] يرى الشيخ عبد الله دراز أن متن « جمع الجوامع » إذا قورن بغيره من المتون، فإنه يكون أقلهم غناء، وأكثرهم عناء : ويجاب عن ذلك: بأن هذا يُمثل رأيه وموقفه من الكتاب؛ لأن هناك عددًا لا يحصى من العلماء أثنوا على الكتاب وحفظوه ودرسوه، وشرحوه واختصروه ونظموه، وكذلك تدريس هذا الكتاب في الأزهر قرونًا طويلة شاهد على ما فيه من علم؛ إذ لا يعقل أن يدرس هذا الكتاب في الأزهر من قبل كبار علمائه وهو قليل الفائدة، فلولا أنهم أدركوا أهم ية الكتاب لطلبة الأزهر ما قرروه .
[هـ] يرى الشيخ الخضري -رحمه الله- أن كتاب « جمع الجوامع » عبارة عن جمع الأقاويل المختلفة بعبارة لا تفيد قارئًا ولا سامعًا، وهو مع ذلك خلو من الاستدلال على ما يقرره من القواعد : ويجاب عن ذلك: بأن قول ه فيه مبالغة واضحة وتحامل على الكتاب، فالتاج السبكي حصر أقوال العلماء في كل مسألة، ورتبها ترتيبًا علميًا لبيان تطور الأقوال أولًا، أو غرابة قول ثانيًا، أو مخالفة قول ثالثًا، أو وقوع غلط فيه رابعًا، فترتيب الأقوال عنده كان لغا ية وهدف .
[و] يجب التنبيه: أن منهج الإمام تاج الدين في ترتيب «منع الموانع» متباين، ففي الوقت الذي رتب فيه أسئلة القسمين الأولين من الأسئلة حسب ترتيب الكتاب الأصل « جمع الجوامع » لم يلتزم بهذا في القسم الثالث من الأسئلة، حيث تولى إجابتها حسب ورودها عليه، وليس على ترتيب كتاب « جمع الجوامع »، وبهذا يظهر اختلاف منهجه في « منع الموانع » .
[ز] جعل الإمام تاج الدين مصنفاته كالمنظومة الواحدة، فكل واحد منها يكمل الاخر، فما يجمله في مصنف يفصله ويبينه في آخر، وما يفصله في موضع يجمله في آخر.