تعريف أصول الفقه (1)

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمي الكريم ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد: فقد تكلمنا في الدرس السابق عن : الجزء الثاني من مقدمة جمع الجوامع .
وسنتكلم في هذا الدرس عن : الجزء الثالث من مقدمة جمع الجوامع ، وذكر التعريف الأول لأصول الفقه .
يرجى لك عزيزي الطالب بعد دراستك لهذا الدرس أن: [1] تفهم مقدمة « جمع الجوامع » .
[2] تبين المراد بشرحي المختصر والمنهاج .
[3] تذكر ما يشتمل عليه كتاب « جمع الجوامع » من مقدمات وكتب.
[ 4 ] توضح الفرق بين مقدمة الكتاب و مقدمة العلم .
[ 5 ] تذكر التعريف الأول لأصول الفقه عند الإمام السبكي .
من مزايا جمع الجوامع
البالغ من الإحاطة بالأصلين مبلغ ذوي الجِدِّ والتشمير
قوله: « مبلغ » منصوب بقوله: « البالغ » وهو مصدر مي مي مبين لنوع عامله بمعنى: بلوغ.
والأصل : البالغ من الإحاطة بالأصلين بلوغًا مثل بلوغ ذوي الجد والتشمير، فحذف الموصوف ووصفه، وأُقيم المضاف إلى وصفه مقامه، ثم أبدل بمرادفه وهو « مَبْلغ ».

قال البناني رحمه الله : وفي عبارة المصنف ( التاج ) احتباك، وهو: أن يحذف من كل طرفي كلا م مماثل ما ذكره في الطرف الآخر.
فقد حذف من قوله: « البالغ من الإحاطة بالأصلين » قوله: « بلوغًا » وذكر مثله بقوله: « مبلغ ذوي الجد والتشمير » ، وحذف من قوله: « مبلغ ذوي الجد والتشمير » قوله: « من تلك الإحاطة » وقد ذكر مثلها في قوله: « البالغ من الإحاطة » .
ويرى الشيخ الشربيني في « تقريره »: (والحق أنه لا احتباك هنا أصلًا، بل هو من الحذف من الثاني، لدلالة الأول).
قوله: « ذوي الجد » -بكسر الجيم، وقد تفتح: الاجتهاد.
ومن الفتح قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا ينفع ذا الجد منك الجد » .
والمعنى: لا ينفع صاحب الاجتهاد اجتهاده.
قوله: « والتشمير » عطفه على ما قبله من عطف اللازم على الملزوم، فإن المجِدَّ يشمر أثوابه، ويكفّ أذياله.
والمراد به هنا: إزالة ما يعوق ويشغل عن الجدّ.
مصادر جمع الجوامع
الوارد من زهاء مئة مصنَّف منهلًا يُروي ويمير
قوله « الوارد » أي : الجائي ، تفسير للوارد بالمعنى الحقيقي، والمراد به هنا معناه المجازي؛ أي: الحاصل، فقد أطلق الملزوم وهو المجيء، وأريد لازمه وهو الحصول، فهو مجاز مرسل علاقته الملزومية، والقرينة استحالة الورود الحقيقي.
قوله: « زهاء » بالمدّ على ما اقتضاه كلام الأخفش ، فإنه ذكرها في باب: ما يُمَدّ. وقيل: بالقصر، ومعناه: القدر.

قال ابن منظور : زهاء الشيء: قدره، ويقال زهاء مئة، أي قدرها، والزهاء مصدر زهوته بمعنى حزرته، والحزر إنما يفيد التقريب، فلزم أن يكون الزهاء القدر التقريبي. وأصل المصدر: «
زهاو » بالواو؛ لأنه من « زهوته »، لكن قلبت الواو همزة؛ لتطرفها إثر ألف زائدة، كما في «كساء».
قوله « يُروي »: بضم أوله من الريّ، وهو الشبع من الماء، يقال منه: « رَوِيتُ » -بكسر الواو- « أروى رَيًّا ورِيًّا »، وفي الحديث: « رويت » بالفتح، وما أحسن قول بعضهم: « رويت وما رويت من الرواية » .
فمعنى قول التاج « يُروي » أي: كل عطشان إلى ما هو فيه.
قوله: « ويمير » - بفتح أوله- ويجوز ضمها؛ لأنه يقال؛ «مار» و «أمار» بمعنى، من قولهم: « مار أهله يميرهم »: إذا حمل لهم الميرة، وهو الطعام .

وجاء في « كتاب الأمثال » لأبي عبيد القاسم بن سلام : (ما عنده خير ولا مير) ، والمعنى: ليس عنده خير عاجل، ولا يُرجى منه أن يأتي بخير.
قال الشيخ جلال الدين المحلي رحمه الله : (.. ويمير -بفتح أوله- يعني يُشبع كل جائع إلى ما هو فيه، من مار أهله: أتاهم بالميرة، أي: الطعام الذي من صفته أنه يشبع، فحذف معمول الفعلين -يُروي، ويمير- للتعميم مع الاختصار بقرينة السياق، والمنهل: عين ماء تورد، ووصفه بالإرواء والإشباع كماء زمزم، فإنه يروي العطشان ويشبع الجوعان.
ومن استعمال الجوع والعطش في غير معناها المعروف -كما هنا- قول العرب: «جعتُ إلى لقائك»، أي: اشتقت، « وعطشت إلى لقائك » أي: اشتقت).

وعلق البناني على كلام الجلال فقال: (قوله: « يعنى يشبع كل جائع » أتى بكلمة « يعنى » إشارة إلى أن « يمير » ليس مستعملًا في حقيقته التي هي الإتيان بالميرة، بل في لازمه وهو الإشباع، فهو تف سير مراد، لا تفسير مفهوم اللفظ) اهـ.
علاقة جمع الجوامع بكتب المؤلف السابقة
المحيط بزبدة ما في شرحيَّ على المختصر ، والمنها ج مع مزيدٍ كثير
قوله: « المحيط بزبدة ...» قال
الجلال المحلي : (« المحيط أيضًا بزبدة »، أي: خلاصة ما في شرحي، يشير الجلال بهذا إلى أن التاج السبكي أتى بزبدة ما فيهما من الأحكام، لا زبدة جميع ما فيهما، وفيه استعارة تصريحية؛ حيث شبّه خلاصة ما في الشرحين بزبدة اللبن، بجامع أن كلًا هو المقصود الأعظم مما اشتمل عليه.
قوله: «ما في شرحي» يحتمل أن الشرحين من الكتب المذكورة في قوله «زهاء مئة مصنف»، ويحتمل أنهما زائدان عليها.

وفي كلام التاج تغليب بالنسبة لشرح « المنهاج »؛ لأنه لم يشرحه كله، وإنما من أول مسألة ( مقدمة الواجب ) حيث شرح والده رحمه الله ما قبلها.
قوله « المختصر » المراد: « مختصر ابن الحاجب ».
قوله « والمنها ج » المراد: « منهاج البيضاوي ».
قال الجلال المحلي : (وناهيك بكثرة فوائدهما).
قال البناني : الباء متعلقة بمحذوف، وهي مع مدخولها خبر « ناهيك » أي: ناهيك ثابت بكثر فوائدهما عن تطلب غيرهما، ويصح كون الباء زائدة، و « كثرة » خبر، أو مبتدأ، و « ناهيك » خبر.
والمعنى: أن الذي اشتملا عليه من الفوائد ناهيك وكافيك عن أن تطلب غيرهما، يقا ل: زيدٌ ناهيك من رجل وناهيك به .
ومعنى الأول: أن زيدًا بجده وعنايته ينهاك عن تطلب غيره؛ لأن فيه كفايتك.
ومعنى الثاني: أن ناهيك حاصل به فلا تطلب غيره.
قوله: « مزيد » بالتنوين.
قوله: « كثير »؛ أي: على تلك الزبدة أيضًا.
خطة الكتاب
وينحصر في مقدمات وسبعة كتب
قوله: « وينحصر » الواو إما عاطفة أو للاستئناف، والضمير في: « ينحصر » عائد على التصنيف المسمى « جمع الجوامع ».
قوله: « مقدمات »: المقدمات: جمع مقدمة، ويقال: مقدمة -بفتح الدال وكسرها- بالفتح: اسم مفعول، وبالكسر: اسم فاعل.

فإن لاحظت أن المقدمة تقدمنا لمقصودنا ، كسرنا الدال؛ لأنها فاعلة.
وإن كنا نحن الذين نقدمها لنبني عليها مقصودنا ، فتحنا الدال؛ لأنها اسم مفعول.
ومعنى: « ينحصر في مقدمات » أي: في أمور متقدمة أو مقدمة على المقصود بالذات للانتفاع بها فيه.

وقد فرّق العلماء بين مقدم ة الكتاب، ومقدمة العلم، فقالوا: مقدمة الكتاب : اسم لطائفة قدمت أمام المقصود، لارتباط له بها، وانتفاع بها فيه، سواء توقف عليها أم لا.
ومقدمة العلم : ما يتوقف عليه الشروع في مسائله من معرفة حده، وموضوعه، وغايته.

مقدمة الكتاب : اسم للألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة.

مقدمة العلم : اسم للمعاني المخصوصة.
فبين مفهوميها التباين.
وأما في الوجود : فبينهما العموم والخصوص المطلق، والأعم مقدمة الكتاب، والأخص مقدمة العلم، فكلما وجدت مقدمة العلم وجدت مقدمة الكتاب من غير عكس.

إذا علم هذا نقول: إن المقدمات المذكورة مقدمة كتاب فقط؛ إذا لم يذكر فيها الأمور الثلاثة، أعني: الحدّ، والموضوع، والغاية.
قال البناني : (فجعل ابن قاسم العبادي أن ما هنا مقدمة كتاب، وعلم، أخذًا من قول الشارح الجلال : ( كتعريف الحكم ) فاسدٌ؛ إذ ليس تعريف الحكم واحدًا من الثلاثة).
قوله: « وسبعة كتب » : المراد بالسبعة هنا: خمسة في مباحث أدلة الفقه الخمسة: الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، والسادس: في التعادل والتر اجيح بين هذه الأدلة عند تعارضها ، والسابع: في الاجتهاد .

وجْهُ الانحصار فيما ذكره: أن ما تضمنه الأصول إما م قصود بالذات ، أو لا ، والثاني: المقدمات.
والأول: لما كان الغرض منه استنباط الأحكام... فالبحث إما عن نفس ال
استنباط، وهو الاجتهاد، وإما عما تستنبط هي منه، إمّا عند تعارضها، وهو الترجيح، أو لا، وهو الأدلة والاستدلال اهـ .
تعريف المقدمة
الكلام في المقدمات
قوله « الكلام »: مبتدأ، و « في المقدمات »: متعلق بمحذوف خبر.
ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفًا تقديره: « هذا »، و« الكتاب » بدل أو عطف بيان، و « في المقدمات » متعلق بمحذوف خبر .
ولك أن تجعل التقدير: « جاء الكلام في المقدمات » فالجملة فعلية.

قال الشيخ العطار في « حاشيته »: (ولو قال: « المقدمات »، لكان أخصر وأنسب ببقية التراجم الآتية، حيث قال: « الكتاب الأول »..
»..
إلخ).

وقال: (وقد يُوَجَّهُ صنيعُ التاج من أن المتبادر من « أل » سيمّ ا في المقدمات (الخطابية الجنسية ) ، ففيه إيهام أن الكلام جميعه منحصر فيها لعظم نفعها؛ ففيه ترغيب للاعت ناء بها، وحث للطالب على تحصيلها ) اهـ.
التعريف الأول لأصول الفقه
أصول الفقه : دلائل الفقه الإجمالية

افتتح التاج رحمه الله كتابه بتعريف أصول الفقه ؛ ليكون القار ئ على بصيرة بمسائلة، عارفًا بحقيقته.
وقد ذكر رحمه الله تعريفين:
الأول: دلائل الفقه الإجمالية

وقد أُورد عليه أنه هلا قال: أصو ل الفقه : دلائله الإجمالية.

وأجاب في كتاب « منع الموانع » فقال: لم أقلْ هذا لئلا يتوهم متوهم أن الضمير يعود إلى الأصول؛ ولأن التعريف يجتنب فيه الإضمار ما أمكن، ولأن « الفقه » في قولنا: « دلائل الفقه » غير الفقه في قولنا: « أصول الفقه »؛ لأنه في « أصول الفقه » أحد جزأي لقب مركب من متضايفين؛ وفي قولنا: « دلائل الفقه » العلم المعروف.
وقد أراد رحمه الله بالدلائل القواعد، أو الكلام على حذف مضاف، أي: مسائل الدلائل.

قال الشيخ الجلال المحلي : (« دلائل الفقه الإجمالية » أي: غير المعينة، كمطلق الأمر، والنهي، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، المبحوث عن أولها « مطلق الأمر » بأنه للوجوب حقيقة، والثاني « مطلق النهي » بأنه للحرمة كذلك، والباقي بأنها حجج) اهـ.
قال البناني : (قوله: « غير المعينة » تفسير باللازم؛ إذ الإجمال لغة: الاختلاط، وعرفًا: عدم الإيضاح ، وكلاهما يلزمه عدم التعيين، ولا شك أن الأدلة الإجمالية غير معين فيها الجزئيات؛ لعدم إشعار الكلي بجزء معين.
وقوله: « كمطلق الأمر » من إضافة الصفة إلى الموصوف) اهـ.
وخرج بقوله: « الإجمالية » الأدلة التفصيلية نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة : 43]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء : 32]، وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة كما أخرجه الشيخان ، والإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب لهما، وقياس الأرز على البرّ في امتناع بيع بعضه ببعض إلا مثلًا بمثل يدًا بيد، كما روى مسلم في « صحيحه »، ونحو استصحاب الطهارة لمن شك في بقائها.
فهذه المذكورات ليست من أصول الفقه ؛ وذلك لأن النظر في الأدلة التفصيلية وظيفة الفقيه، فالأصولي يقول: خبر الواحد حجة، والإجماع حجة، والقياس حجة أو نحو ذلك، والفقيه يحتج بخبر خاص -مثلًا- على جزئية خاصة، مثل أن يستدل الفقيه بقوله صلى الله عليه وسلم : « أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل »، على أن النكاح بغير ولي لا يصح عند الجمهور.
والحديث أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه .
[أ] في عبارة المصنف ( البالغ من الإحاطة بالأصلين ) احتباك، وهو: أن يحذف من كل طرفي كلا م مماثل ما ذكره في الطرف الآخر.
[ب] الجد : ب كسر الجيم، وقد تفتح: الاجتهاد ، والمراد به هنا: إزالة ما يعوق ويشغل عن الجدّ.
[ج] أتى التاج السبكي في هذا الكتاب بزبدة ما في شرحيه على « مختصر ابن الحاجب » و « منهاج البيضاوي » من الأحكام .
[د] ينحصر كتاب « جمع الجوامع » في مقدمات وسبعة كتب .
[هـ] المقدمات: جمع مقدمة، -بفتح الدال وكسرها- بالفتح : اسم مفعول، وبالكسر: اسم فاعل ، فإن لاحظ نا أن المقدمة تقدمنا لمق صودنا ، كسرنا الدال؛ لأنها فاعلة ، وإن كنا نحن الذين نقدمها لنبني عليها مقصودنا ، فتحنا الدال؛ لأنها اسم مفعول.
[و] مقدمة الكتاب : اسم لطائفة قدمت أمام المقصود، لارتباط له بها، وانتفاع بها فيه، سواء توقف عليها أم لا.
[ز] مقدمة العلم : ما يتوقف عليه الشروع في مسائله من معرفة حده، وموضوعه، وغايته.
[ح] بين مقدمة الكتاب والعلم في الوجود : العموم والخصوص المطلق، والأعم مقدمة الكتاب، والأخص مقدمة العلم، فكلما وجدت مقدمة العلم وجدت مقدمة الكتاب من غير عكس.
[ط] الكتب السبعة التي اشتمل عليها متن « جمع الجوامع » : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، و التعادل والتر اجيح ، و الاجتهاد .
[ي] التعريف الأول ل أصول الفقه : دلائل الفقه الإجمالية .
[ك] المراد بـ « دلائل الفقه الإجمالية »: غير المعينة، كمطلق الأمر، والنهي، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، ونحو ذلك.
[ل] الأدلة التفصيلية ليست من أصول الفقه ؛ وذلك لأن النظر في ها وظيفة الفقيه .