close

التضليل السياسي في أحداث السويداء.. التعمية والتعميم والتنميط في التغطيات التلفزيونية

تم إنشاء هذه الصورة باستخدام الذكاء الاصطناعي


حامد فتحي من مصر ومنار أبو حسون من سوريا

كما هي الحال في مناطق النزاع وعدم الاستقرار، شكّلت سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد نهاية عام 2024، بيئةً خصبةً لانعكاس الانقسامات السياسية على التغطية الإعلامية، بما رافقها من تضليل وانتقائية في نقل المعلومات وصياغة السرديات الإعلامية.

وقد مثّلت الأحداث التي شهدتها محافظة السويداء بين 12 و21 تموز/يوليو 2025، وما تبعتها من تداعيات سياسية، ذروة لهذا المشهد؛ إذ برز التضليل المعلوماتي فيها بشكل مكثّف، ليس فقط عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل أيضاً من خلال وسائل الإعلام التقليدية.

وأظهرت عملية الرصد أن أنماط التضليل في برامج حوارية بقنوات تلفزيونية سورية وإقليمية، تراوحت بين المبالغة أو التهوين في توصيف الأحداث وأعداد الضحايا، وتنميط الآخر، والتعميم، واختلاق الأكاذيب لتشويه الخصوم. 

يعرض هذا التقرير بعضاً من أبرز ما رصدناه من محتوى مضلل في برامج تلفزيونية، تأثراً بالانحيازات السياسية لدى المعلقين والضيوف من مؤيدي طرفي الصراع المستمر.


انحيازات وراء التضليل

أظهرت التغطيات الإعلامية لأحداث محافظة السويداء التي رصدناها بين تموز/يوليو و15 تشرين الأول/أكتوبر 2025 حضوراً كثيفاً للتضليل المتأثر بالانحيازات السياسية، سواء في توصيف المواقف الشعبية أو في تناول أدوار الفاعلين المحليين والدوليين. وفيما يلي رصد لأمثلة على ذلك، شملت تعميمات غير دقيقة، ومزاعم غير موثّقة، وتداول معلومات منزوعة من سياقها.

ففي تغطية إخبارية لقناة “اليوم”، في 11 تشرين الأول/أكتوبر، التي تبثّ من تونس، قال فراس العيسمي، رئيس مؤتمر السويداء العام، عشية انطلاق حملة “السويداء منّا وفينا”: “أين السوريون من هذه المحنة. ذبحتم السويداء، قتلتم السويداء، أنهكتم السويداء، جرشتم العروبة من قلب السويداء، ويأتون اليوم ليقولوا نحن نريد أن نسعف السويداء”.

وسبق ذلك تصريحٌ مشابه في برنامج “سوريا اليوم” على “تلفزيون سوريا”، بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر، قال فيه جمال درويش، الباحث السياسي والعضو السابق بمؤتمر الحوار الوطني: “لم نرَ شركاء في الوطن بعد هذا الاجتياح، حتى استنكار لم نسمع، حتى تظاهرة. إلى الآن، السويداء محاصَرة اقتصاديّاً، هل سمعنا صوتاً يطالب الحكومة برفع الحصار؟”.

وينطوي هذان التصريحان على تضليل بالتعميم، عبر إنكار وجود أي مواقف سورية (غير درزية) أدانت ما جرى في السويداء أو طالبت برفع الحصار عنها، إذ أظهر البحث عكس ذلك؛ فقد صدرت بيانات وتحركات واضحة من أطراف سورية مختلفة.

ففي 16 تموز/يوليو، نُظّمت وقفة صامتة أمام مجلس الشعب في دمشق تنديداً بالعنف في السويداء والغارات الإسرائيلية. كما نشرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في 22 من الشهر نفسه، نداءً بعنوان “نداء استغاثة للسماح بدخول كافة أشكال المساعدات الإنسانية إلى السويداء والمشرّدين قسراً”.

وفي 23 آب/أغسطس، أصدر المرصد السوري لحقوق الإنسان بياناً طالب فيه بـ”رفع الحصار عن السويداء”.

إلى جانب ذلك، برزت أشكال من التضامن عبر وسائل التواصل الاجتماعي من شخصيات سورية عامة مثل زينة أرحيم وإيناس أحمد، وغيرهما من الصحفيين والفنانين الذين نددوا بممارسات القوات الحكومية في المدينة.


ممثلة المسرح السورية إيناس أحمد معلقة على أحداث السويداء

الصحفية والناشطة السورية زينة أرحيم تطالب بفك حصار السويداء


استهداف الخصوم بالتضليل والتعميم

رُصدت أيضاً حالات تضليل بغرض استهداف خصوم سياسيين أو تعزيز سرديات منحازة عبر تداول معلومات غير دقيقة أو غير موثّقة.

من ذلك ما أورده عبد الجبار العكيدي، العقيد المنشق عن النظام السابق ومؤسس المجلس العسكري الثوري في حلب، الذي قدّمته قناة تلفزيون سوريا كـ”محلل سياسي”. ففي حلقة برنامج “سوريا اليوم” بتاريخ 7 آب/أغسطس، تحدث العكيدي عن العميد السابق شكيب أجود نصر، الرئيس السابق لفرع الأمن السياسي في طرطوس، المُعيّن قائداً لقوى الأمن الداخلي في السويداء من قبل “اللجنة القانونية العليا” المشكّلة من الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، قائلاً: “العقيد شكيب نصر مصنف أصلاً على قوائم مرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري”.

لكنّ التحقق أظهر أنّ اسم شكيب أجود نصر لا يرد في أيٍّ من قوائم العقوبات الأميركية أو الأوروبية أو البريطانية، ولا في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية أو المحلية. واقتصر ظهوره على خبر يتحدث عن تعيينه قائداً لقوى الأمن الداخلي في السويداء، عبر موقع المرصد السوري لحقوق الإنسان.

وبالبحث المتقدّم على الإنترنت قبل تاريخ التصريح (السابع من آب/أغسطس 2025)، لم يُعثر على أيّ إشارات تُثبت الاتهام، باستثناء منشورٍ فرديّ على إنستغرام لمواطن يدّعي منعه وأهله وعائلته من السفر من قبل شكيب نصر،  وهو ادعاء لم يتسنَّ التحقق من صحّته بشكل مستقل.

بينما انتشرت كل الاتهامات لشكيب نصر عقب إعلان تنصيبه قائداً لقوى الأمن الداخلي، ولم تُقدَّم بشأن تلك الاتهامات أدلّة أو ما يُثبت ورود اسمه في قوائم مرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب.

وفي مثال آخر، قال مصطفى المقداد، في برنامج “نقاش” على قناة الميادين بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2025، تعليقاً على الموقف الأميركي من خارطة الطريق في السويداء: “هناك لقاءات لشخصيات من السويداء مع عدد من أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ يدعون إلى الانفصال بدعم إسرائيلي”.

لكنّ التحقق أظهر أنّ الوفد الذي زار واشنطن خلال تلك الفترة لم يكن من دروز السويداء في سوريا، بل من دروز إسرائيل، وقد ضمّ أعضاءَ كنيست وشخصيات دينية واجتماعية، وأجرى لقاءات مع مسؤولين أميركيين وأمميين بين 19 آب/أغسطس و16 أيلول/سبتمبر تقريباً لعرض ما وصفه بـ”القضية الدرزية” في السويداء.


تضليل حول الفاعلين الدوليين

امتدّ التضليل أيضاً إلى سردية المواقف الدولية من أحداث السويداء. ففي تغطية خاصة لقناة الميادين بتاريخ 15 تموز/يوليو 2025، قال الصحفي والمحلل السياسي كمال ذبيان: “أصدرت وزارة الخارجية (التركية) أمس قراراً بأن تحسم القوات السورية الوضع العسكري وتسيطر على المنطقة، تحت عنوان أن هذا ما سينطبق  لاحقاً على شرق الفرات”.

غير أنّ مراجعة البيان الرسمي لوزارة الخارجية التركية الصادر في 14 تموز/يوليو تُظهر العكس تماماً؛ إذ جاء فيه: “نأمل أن يتم إنهاء العنف في جنوب سوريا، واستعادة الأمن في أقرب وقت ممكن من قبل الحكومة السورية، من خلال الحوار على المستوى المحلي”.

وفي 16 تموز/يوليو، قال بسام أبو عبد الله، الذي قُدِّم في برنامج “دوائر القرار” على الميادين، كخبير في العلاقات الدولية: “لاحظ أنّ الولايات المتحدة صامتة تماماً، لم تعلّق إطلاقاً على أحداث السويداء؛ إمّا أنّها راضية أو أعطت الضوء الأخضر”.

لكن التحقق أظهر أن هذه الادعاءات غير صحيحة؛ إذ نشر المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم برّاك، تغريدة على منصة إكس يوم 15 تموز/يوليو حول الأحداث، تلتها تغريدتان إضافيتان في اليوم التالي، جميعها قبل الساعة الرابعة مساءً بتوقيت بيروت. وأدلى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بتصريحاتٍ حول السويداء مرتين على الأقل.


تغريدة لوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو حول جهود بلاده لوقف العنف في السويداء


ولم يقتصر التضليل على ما صرّح به بسام أبو عبد الله، إذ امتدّ إلى تعقيب مقدم البرنامج بتأييد تصريح أبو عبد الله، قائلاً: “فيه صمت أميركي، فيه صمت أوروبي، فيه صمت منظمات دولية وحقوقية، وهذا غريب”. علماً أنه بالإضافة إلى التصريحات الأميركية، تناول المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أحداث السويداء في تصريحين للإعلام يومي 15 و16 تموز/يوليو؛ أي قبل موعد بث الحلقة.

ويقدّم هذا المثال نموذجاً على تداول معلومات غير دقيقة في سياق الحوارات التلفزيونية دون أي تصحيحٍ فوري أو تنويه لاحق، ما يبرز القصور المهني في عدد من البرامج الحوارية، سواء في تدقيق الادعاءات أو منع تمرير مضامين مضللة تخالف مواثيق وأخلاقيات العمل الإعلامي.

ويؤكّد هذا النمط الحاجةَ إلى تبنّي منهجيات تحقق واضحة في بيئات البثّ المباشر، تشمل فرق الإعداد والمقدّمين والضيوف على حدّ سواء، لضمان التصويب الفوري عند ظهور الادعاءات الخاطئة، فتبنّي هذا النهج قد يعزز من ثقافة التحقّق والمسؤولية المهنية، ويحدّ من انتشار التضليل، خصوصاً في القضايا التي تتقاطع فيها الانحيازات السياسية مع النقاش العام.

وكانت السويداء قد شهدت موجة عنف اتسعت بين مجموعات عشائرية وفصائل درزية مسلحة، وسط تبادل اتهامات ووقوع انتهاكات. زادت القوات الحكومية تعقيد المشهد بتدخلها بين الطرفين، وارتكاب انتهاكات بحق مدنيين دروز وُصفت بأنها ذات طابع طائفي. بالتوازي، نفذت إسرائيل ضربات قالت إنها لحماية الدروز، مستهدفة مواقع عسكرية سورية، وعزّزت حضورها غير المباشر جنوباً. وإقليميّاً ودوليّاً، تواترت الإدانات وتكثفت جهود الإغاثة، فيما قادت الولايات المتحدة والأردن وساطة مع دمشق أفضت إلى خارطة طريق للمساءلة والمصالحة، وعلى أساسها دخلت لجنة التحقيق الأممية السويداء مطلع تشرين الأول/ أكتوبر.

تكشف إذاً الحالات المرصودة في هذا التقرير عن نوع من التضليل تكمنُ خطورته في أنّ سردية “خبراء” و”باحثين” وشخصيات سياسية وعامة تحظى بثقة جمهورها، ما قد يجعل تصريحاتها أكثر موثوقية لدى بعض المتابعين. وتؤدي هذه الممارسات إلى ترسيخ قناعات مسبقة تُعمّق الاستقطاب وتغذي الكراهية، ما يُفاقم الأزمة. في المقابل، فإنها تُضعف فرص الحوار الحقيقي لتجاوز الأزمة.


إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.