بقلم هبة أبو طه*

 

لم تتقبل منى ذاتها يوماً، فملامح الأنوثة كانت تُزعجها كلما زادت من النضج بروزاً، قضت سنوات من عمرها في التيه من عنف إلى نبذ.

إبان لقاءها مع معدة التقرير استهلت حديثها بوصف مرارة ما عايشته من أيام عصيبة اعتراها الخوف والذل والقهر والإهانة، في خضم بحثها عن هويتها الجندرية.

قارعت مجتمعها الصغير المحيط بها بداية بمدرستها وصديقاتها، انتهاءً بوالدها الضابط الذي لم يكُن يفصل بين عمله في الأمن ودوره كرب أسرة، فقد كان يبسط نفوذه وسلطته من موقع عمله لموقع منزله حيث تعرضت منى لأبشع أنواع التعذيب من تنكيل وضرب جسدي مبرح.

منى التي –فضلت عدم ذكر اسمها الحقيقي- ليست الوحيدة التي ذاقت الأمرين في رحلة عبورها من جنس لآخر فمثلائها كُثر يحول بينهم وبين انتزاع حقهم في تحديد مصيرهم الهوياتي، الدين وسندان العُرف المجتمعي، ومؤخراً مطرقة القانون.

 

صراع مجتمعي

“لماذا علينا خسارة الأشخاص الذين نحبهم لإختلافنا عنهم فقط، لماذا يقفون بيننا وبين تحقيق ذاتنا وحريتنا” تتساءل ريم، الفتاة التي توّد العبور جنسيا إلى ذكر.

لم يأت كلام ريم عبثاً، بل هو نتيجة رفض المجتمع لها ولمثلائها ووقوفه كالحاجز بينهم وبين حقهم في تحديد جنسهم، فقالت لنا ريم بشجن نحن لسنا منحلون أخلاقياً، ولا نتسبب في دمار المجتمع، بل نحن جزءاً منه وبتكريس الحريات سنبنيه سوياً.

إلى ذلك، تعيد الناشطة الحقوقية لينا جزراوي نظرة المجتمع السلبية للعابرين جنسياً إلى موروث اجتماعي سائد، “مجتمعنا الأردني محافظ لا يقبل أي شكل من أشكال السلوك الخارج عن المعتاد، وأي خروج عنه يعتبر خروجا عن الدين والتقاليد وهذا كفيل برفضهم ومحاربتهم”.

تتفق المحامية لين الخياط مع الجزراوي فيما يتعلق برفض المجتمع للعابرين جنسياً، وترجع الخياط ذلك أيضاً إلى “أننا امام حالة من عدم احترام خصوصية الأفراد وحقهم في اختيار جنسهم، لعدم مواكبتنا التغييرات التي تطرأ على الحياة الجنسية؛ لطابع المجتمع المتدين والمحافظ، ولذلك لا يمكن ان يأخذ الأفراد كافة حقوقهم كاختيار الجنس مثلاً، لعدم قناعة اغلب طبقات المجتمع بذلك، ولا يمكن فرض قبول المتحولين على المجتمع”.

ينتقد مؤسس مجلة ماي كالي المتخصصة بمجتمع الميم، خالد عبد الهادي هذا الطرح، ويقول أن “مجتمع ميم جزء لا يتجزء من المجتمع الأردني، فهم مواطنون ويجب التعامل معهم أسوة بغيرهم ومنحهم حقوقهم”.

لا يملك الشخص وحده قرار تغيير جنسه، فذلك يمر عبر سلسلة كاملة من الخطوات، أولها أين يجد الشخص ذاته، ومن ثم سوف يدخل في اعتبارات اجتماعية تلعب دورا كبيرا، ومن ثم الطبيب الذي لا يجري العملية، إلا عند رجوعه للدستور الطبي، والقوانين الناظمة التي تضبطه في هذه الحالات.

الأصل أن للشخص ذاته الحق في اتخاذ القرار الخاص به، يقول الأخصائي النفسي باسل الحمد، “فهو أقدر على تحديد احتياجاته، وصاحب الحق في تحديد هويته الجنسية وكيفية التعبير عنها”.

يلفت الحمد إلى أن ثمة حالة من الخلط وعدم التمييز في أوضاع عابري الجنس، وذلك ينعكس على مدى تقبل السياق الأردني وحتى الأطباء لإجراء عملية التحويل الجنسي أو “العبور”.

يرى الكاتب والمحرر في مجلة مايكالي، موسى شديدي، أن نبذ مجتمع الميم، والتدخل في جسد الفرد، هو تدخل يرقى لوصفه ب”استعمار جسدي”، فالتحول الجنسي أمر معترف به في العلم، لكنهم الرفض يقيد حرية الشخص بجسده، “نعيش في مجتمع أبوي يمنح أفراده سلطة تجعلهم يتحكمون بنا، الأمر الذي نعتبره استعمار حقيقي، لذلك سنناضل لتحرير أجسادنا”.

 

اعتداءات فادحة

كانت تجبر منى على ارتداء ملابس فتيات، وطلاء أظافرها، والمشكلة كبرت عندما عرف عن علاقتها بفتاة تحبها فكان والدها يُبرحها ضرباً الأمر الذي جعلها تتخذ قرار الهروب من منزل ذويها، “خلاصا من الجحيم”.

تسير مايا في خطوات عبورها من ذكر لأنثى، فيما لم تتقبل عائلتها قرارها، ولم يتفهموا معاناتها، “منذ طفولتي كنت أرفض نفسي كذكر لكن مضت سنوات من عمري وانا صامتة عن شعوري الى ان وصلت لمرحلة لم أستطع سوى ان افصح عمّا يعتريني، وصلت لنقطة واحدة يا اما الموت أو مواجهة الجميع والبدء بخطوات التحويل”.

ثمة ظلم يواجهه العابرون جنسياً بالأخص من قبل أسرهم، كما يرصد الشديدي، “المنتهك الأول لحقوقهم العائلة، اذ يعاني أغلبهم  من الضرب والتعذيب والطرد من منازلهم”.

يضرب شديدي مثالا لفتاة تود التحول لذكر، هددها أخاها بالقتل ان لم تعدل عن قرارها، فلجأت لحماية الأسرة وتعاملو معها بشكل سيء، مشددا على تكرار الاهانة مع افراد مجتمع الميم بالاخص مع الذكور الذين يرغبون بالتحول لاناث اذ يستهزءون بهم وأبسط رد يقابلونهم به “يلا تعالو نحبسكم”، مشدداً على تكرار توقيف من هم مصابون باضطراب الهوية الجنسية، بالذات من هم فقراء، لا يملكون أموالاً للذهاب الى طبيب نفسي يزودهم بتقرير يصف حالتهم كي يشفع لهم أمام الشرطي وليضمن لهم ذاك التقرير الحماية القانونية.

كانت منى قد هربت وعشيقتها من المحافظة التي كانتا تقطنان بها إلى العاصمة عمان، نتيجة ما لاقتاه من تعنيف واضطهاد من ذويهما، ولكونهنّ قاصرتين تمكنت أسرتيهما من التبليغ عنهنّ للجهات المختصة، فبعد 22 يوماً من مطاردتهما تمكنّ الامن من إلقاء القبض على كلتاهما، ورفض الضابط في المركز الأمني(..) تحويلهما لحماية الأسرة، لا وبل لاقتا هاتان الفتاتين معاملة سيئة ومهينة عند احتجازهنّ، بحسب منى.

تضيف “بعد يوم رحلوننا إلى مركز أمني في المحافظة التي أقطنها ومن ثم إلى الحاكم الإداري، فكان قراري حينها الإستسلام والعودة للمنزل لسبب بسيط وهو “أنهان وأنذل وأنضرب من أبوي أهون عللي ما يعمل هيك فيني الغريب”.

يشتكي عابرون جنسياً من انتهاك عدة لحقوقهم، بما يخالف احكام المادة السابعة من الدستور الأردني الخاصة بالحرية الشخصية مصونة، وحظر بمادته الثامنة توقيف أحد أو حبسه بشكل مخالف لأحكام القانون، وأكد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما سبق في مواده، وجاء أيضاً في مادته السابعة “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة”.

حرب نفسية

بتذمر أبلغتنا منى أنه رغم اضطهاد والدها لها، وافقت على إجراء فحوصات طبية فلم يتبين وجود أي مشكلة هرمونية لديها، لننتقل بعدها للمرحلة الثانية وهي الطبيب النفسي، ووافقت على الذهاب، “لا أدري من أكون أريد أن أعرف هل أنا ذكر أم أنثى، لماذا لا اميل للذكور من أكون”.

“ما أذكره أن الطبيب كان عصبيا جدا، واجزم أنه يحتاج هو لعلاج نفسي، فلا أسامحه أبدا على طريقته المشينة في التعامل مع حالتي”.

قام الطبيب بتحويل منى لمستشفى (..) للأمراض العقلية، وتقول: “شعرت نفسي حينها بسجن كبير، لا أستطيع التحاور مع أحد فجميعهم هنا مجانين، علاوة على اهانات الطبيب المتكررة لي حيث كان يجعلني أجلس في غرفة بين طلاب متدربين ويستفزني بأسئلته أمامهم ومن ثم يستهزءون بي”.

أما لمايا تجربة أخرى مع طبيبة كانت تتابع حالة الهرمونات لديها، تروي لنا أن “الطبيبة كانت تعاملني بشكل لبق ولطيف جداً، لكن بعدما ذهب والداي لعيادتها انقلب حالها، وبات أسلوبها معي سيء، فحتى على مستوى الابتسامة لم تكن تبادلني اياها”.

أرجعت مايا سبب تحول الطبيبة بهذا الشكل إلى وقوعها للضغط النفسي الذي قامت به عائلتها، فثمة أطباء يتعرضوا لتهديدات من قبل ذوي الحالات التي تعبر جنسيا.

ثمة أطباء يخضعون لاعتبارات المجتمع، كما يقول حمد، أكثر مما يتقيدون باخلاقيات المهنة التي تنص على ضرورة تقديم المساعدة وتخفيف الألم عن الأشخاص كاشخاص دون النظر إلى أية اعتبارات شكلية أو دينية أو مجتمعية.

لا يثق أطباء بالمرضى ويريد البعض فرض صيغ جاهزة عليهم لما هو السلوك السوّي والسلوك الشاذ ومقرر لهم مسبقا ما يفعلونه، “بذلك فنحن نخالف جوهر العلاج النفسي القائم على الحرية الفردية وأهمية العالم النفسي للشخص مقابل المجتمع وحق الأشخاص في تقرير مصيرهم وتشكيل حياتهم”، يقول الحمد.

فيما يتعلق بذلك، لا بد من الإشارة الى المادة الأولى من الدستور الطبي الأردني التي نصت على “إن مهنة الطب مهنة إنسانية وأخلاقية وعلمية قديمة قدم الإنسان، اكسبتها الحقب الطويلة تقاليد ومواصفات تحتم على من يمارسها أن يحترم الشخصية الإنسانية في جميع الظروف والأحوال، وأن يكون قدوة حسنة في سلوكه ومعاملته مستقيما في عمله، محافظاً على أرواح الناس وأعراضهم رحيماً بهم وباذلاً جهده في خدمتهم، وتقوم المسؤولية الطبية بين الطبيب و المريض على بذل العناية وعدم الإهمال وليس الشفاء”.

توجهت معدة التقرير إلى وزارة الصحة، والتي رشحت بدورها، الدكتور عبد الهادي بريزات، كممثل عنها في هذا الملف، لكن لم يجبنا على استفساراتنا، مرجعا الموضوع إلى ما يلزمه قانون المسوؤلية الطبية، حيث تعامل الأطباء لا يتجاوز أبعد من عمليات التصحيح الجنسي للذين يعانون من تشوهات خلقية في الأعضاء التناسلية فقط.

مطرقة القانون

في شهر نيسان الماضي أقر مجلس النواب “قانون المسائلة الطبية”، الذي ينص في المادة “22” على ان “يعاقب بالاشغال الشاق المؤقتة مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد عن عشر سنوات كل من يخالف حكم الفقرة (ح) من المادة 8 من ذات القانون”، التي حظرت على “مقدم الخدمة إجراء عمليات تغيير الجنس”.

تعلق المحامية الخياط على النص سالف الذكر:” اعتبار عملية تحويل الجنس جناية يضعنا أمام نقطة هامة تتعلق في تشريعاتنا العقابية التي بها نوع من أنواع الجزاء تتشددد بها العقوبة، فما يحصل هو تغليظ قاعدة التجريم على حساب الإباحة، وهذا أمر خطر لا يكرس دولة سيادة القانون بقدر ما يفرز مجتمع منتقم”.

تقول مايا أن الأشخاص العابرين جنسياً هم أشخاص يعانون مما يسمى طبياً بحالة الإنزعاج الجسدي والجندري والتي تعني عدم تطابق جنس الجسد مع جنس الدماغ، ويرى الطب أن الحل في هذه الحالة هو إجراء عمليات تصحيح الجنس لتحقيق التطابق والتوافق بين العقل والجسد، وهو الحل ذاته لحالات (الإنترسكس) الذين يعانون من خلل بيولوجي، وبالتالي لا فرق بين حالات الإنزعاج الجسدي والإنترسكس من حيث الحل والعمليات وهي عمليات تصحيح الجنس. أما عمليات تغيير أو تحويل الجنس فهي تتم لأسباب مختلفة سببها نفسي أو اجتماعي ولا علاقة لها بأي مشكلة جسدية تحتاج للتدخل الجراحي، وهنا يكمن الفرق بين عمليات التصحيح وعمليات التحويل.

فيما يقول لنا بريزات أنهم “يحتاجون إلى ملف كل حالة لتحديد إن كانت بحاجة لاجراء عملية تصحيح جنس لها بعد عرض الملف على لجنة متخصصة تتكون من طبيب جراحة، وتناسلي، واعصاب، ونفسي”.

في ذات السياق، حققت محكمة التمييز عام 2014 في ملف قضية رقم 2092/2014، سابقة قضائية اذ وافقت على تغيير اسم شخص حول جنسه من ذكر لأنثى بعد طعن مساعد المحامي المدني بقرار الاستئناف القاضي بتصحيح جنس (..) واسمه من سجلات الأحوال المدنية من ذكر إلى أنثى.

بحسب ملف القضية الذي تمكن موقع ميدان من الحصول على نسخة منه فان المدعي منذ طفولته كان يشعر بأنه أنثى أكثر من كونه ذكر، فسافر بعد اكماله دراسته الجامعية الى استراليا، حيث عرضت حالته على لجنة من أطباء مختصين، خلصو الى معالجته بالأدوية “الهرمونات”، ومن ثم اجراء العملية له”.

 

الأديان: لا عبرة بالميل النفسي    

ذهبت معدة التقرير لدائرة الافتاء الاسلامية، لكنهم لم يجاوبونا على استفساراتنا واكتفوا بتزويدنا بنسخة من الفتوى الصادرة عنهم تحت قرار رقم (245) (14/2017) والتي فحواها ” اذا اصيب الشخص باضطراب الهوية الجنسية فالواجب معالجة هذا الاضطراب بما يعيد الامور الى نصابها، ليتوافق مع اصل الذكورة أو الأنوثة الواضح في الجهاز التناسلي، وليس بتعديل الجنس وتغييره بالجراحة والاستئصال، فالاضطراب النفسي في الوعي النفسي لا يصح أن يكون حاكما على الحقيقة البدنية الماثلة، و “الميل” النفسي لا عبرة به في هذه الحالة ايضا”، واستشهدوا بالآيات 117 الى 121 من سورة النساء، وختمت الفتوى في ذلك “بناءا عليه لا يجوز إجراء عمليات تحويل الجهاز التناسلي واستئصاله في علاج ما يسمى باضطراب الهوية الجنسية”.

إلى ذلك، يقول مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، الأب رفعت بدر، أن عمليات تغيير الجنس “غير جائزة” وعلى الإنسان أن يتقبل خلق الله له سواء كان ذكر أو أنثى وأن لا يتلاعب بخلق الله.

الكنيسة “تحترم الطب النفسي” كما يقول الأب رفعت، ولا تقف عائقا بوجهه بل تنصح بمساعدة الانسان بالعلاج وتقبل ذاته شيئا فشيء، نعلم ان التنظير يختلف عن الواقع لكن ليس لدرجة ان نُجيز تغيير الجنس، ونحن مع عرض الحالات على مختصين من الاطباء ورجال الدين وأن ثبت وجود سبب مقنع وعلمي طبي وأخلاقي ممكن أن تؤخذ الحالة كحالة خاصة.

لكن الأخصائي النفسي، باسل الحمد يرى الموضوع من جانب أن الدوافع النفسية “أكثر قهرية من العوامل البيولوجية والهرمونية”.

“في العلاج النفسي، نحن نقّدرالمشاكل كما يراها أصحابها وكما تؤثر على حياتهم وليس وفقا لمعيار اجتماعي مسبق”.

يضيف حمد أن المعركة نفسية ذاتية أولا ثم مع المجتمع، ولا يعتقد أنها معركة مع الدين، فالدين لا يحدد الذكورة والأنوثة بناء على اعتبارات شكلية ظاهرية مسبقة. إنما تحددهما التربية ولكن يجب أن يكون لتوجه الشخص رأي أولا في تحديد هويته الجنسية والجندرية.

علامات الذكورة بدت واضحة على منى، من نمو شعر الوجه، واستئصال صدرها كاملاً، لتتجه نحو تحقيق ذاتها لتعبر نحو جسد شاب مكتمل، ملقية وراءها جسد أنثوي لا تنتمي له ومجتمع يرفض عبورها.

 

*بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR