in English

بقلم: أ. و. رحمن
العمل الفني: ياسمين دياز
ترجمة مايا أنور

 

ما بين الدبلوماسية والشعر والكتابة، يبقى نزار قباني أحد أكثر الشعراء المعاصرين تقديراً في العالم العربي، ويعتبره البعض “نسوياً” ثورياً في عصره. من خلال شِعره، تطرّق نزار لموضوعات مثيرة للجدل بدءاً من موضوعات السياسة والسلطة العامة وصولاً إلى الصحوة الجنسية الخاصة للرجال والنساء. يُروى أن نزار كشف عن تأثره بشكل رئيسي بانتحار أخته في عمر 25 عاماً بعد إجبارها على الزواج من رجل بينما كانت تحب غيره. لم يفهم كيف يمكن لأن يُقابل شيئ رقيق ونقي كالحب بالكثير من الكراهية والعدوان، وبسبب هذه الظلم، اختار أن يكتب الكثير من هذه القصائد بصوت المرأة.

في وصفه للرغبة والحب، كُتبت قصائده من منظور رجل عربي مغاير من منتصف القرن العشرين. في حين أن غالبية هذه القصائد مكرسة للعلاقات المغايرة المعيارية (العلاقات الجنسية المغايرة التي تُصوَّر على أنها معيار)، توجد جوهرة واحدة ممنوعة لا تخضع لتلك المعايير – “القصيدة الشريرة”. “القصيدة الشريرة” هي حكاية حب بين امرأتين تُروى للقارئ من منظور شخص يتجسس عليهما. هوية الجاسوس الجندرية مجهولة (ربما لم تكن ذات أهمية لنزار، حيث كان يتحدث بالتبادل بين وجهتي نظر كلا الجندرين، الذكر والأنثى). كامرأة كويرية، أثارتني قراءة هذه القصيدة، لكنها قادتني أيضاً إلى التساؤل عما إذا كانت قصيدة نزار تعبيراً عن الفيتيشية أو عن التمثيل. الفيتيشية (أو الهوس الجنسي) هو الفعل المرتبط بجعل شيء ما أداة للإشباع الجنسي للشخص. بينما يُعرف التمثيل على أنه الفعل المرتبط بوصف أو تصوير مجموعة أو فرد في وسائل الإعلام، الأدب، الفن، السينما، الموسيقى، وغيرها. على الرغم من أن القصيدة كانت ممنوعة في المنطقة، إلا أنها عادت بشكل مفاجئ للظهور في مجتمع الميم.

غنّي عن التعريف – العرض – جمع تكسير – القصيدة الشريرة

غنّي عن التعريف — جمع تكسير — القصيدة الشريرة

نزار قباني كتب حكاية المثليّة التي لا تحكى


النقد الأدبي النسوي

طور الأكاديميون والنقاد من مختلف مجالات الدراسة اليوم تقنيات لإعادة قراءة وبناء المعنى الدفين في الأعمال الأدبية (المعترف اجتماعياً بقيمتها الكبيرة). على سبيل المثال، تقوم باحثة في الدراسات النسوية/الكويرية بإعادة قراءة مسرحية “ماكبث” لشكسبير، وتسأل نفسها الأسئلة التالية: ما هي الطريقة الفريدة التي تقوم بها هويتي كامرأة على إعادة بناء فهمي لشخصية “الليدي ماكبث”؟ بأي طريقة ضمنية يصور أو يتحدى هذا العمل الأدبي الأبوية أو سيطرة الذكور؟ كيف تُستخدم اللغة لتمكين أو قمع رواية/قصة أو حقيقة شخص ما؟ عند قراءة الأدب من وجهة نظر مجتمع يعاني من الاضطهاد، يحاول القارئ أن يستحضر في قراءته واقع حياته وهويته وحقائقه لكشف تلك القصص المخفية من الماضي. هذا الشكل من التفكيك وإعادة البناء النقديين للمعنى هو وسيلة للقوة السياسية يتولى فيها القارئ مسؤولية أمر مفروض عليه.

في المشهد الإباحي التوصيفي المثير، تصف لغة نزار، أو بالأحرى، تفرض وتنظم وصفاً معيارياً مغايراً للحب المثلي بين النساء.

من أجل القيام بنقد أدبي لـ “القصيدة الشريرة”، لا ينبغي للناقد أن ينظر بعيداً عن العنوان نفسه. العنوان هو أول ما يتذوقه القارئ من نوايا المؤلف، وماذا يمكن أن يكون أكثر إغراءً من طعم الشر؟ لماذا يلقبها بـ “الشريرة”؟ هل يقصد أن يقول إنها نوع من الحب المُحاط بعالم شرير؟ هل يقول إن الفعل الجنسي بحد ذاته شرير؟ وأخيراً، الفكرة التي أذهلتني، هل يعتقد نزار أن فعل التجسس على هاتين الامرأتين هو فعل شرير؟

 

“القصيدة الشريرة”  – ١٩٧١
مطرٌ..مطرٌ.. وصديقتُها

معها، ولتشرينَ نواحُ

والبابُ تئنُّ مفاصلُهُ

ويعربدُ فيه المفتاحُ

شيءٌ بينهما.. يعرفُهُ

اثنانِ، أنا والمصباحُ

وحكايةُ حبّ.. لا تُحكى

في الحبَّ، يموتُ الإيضاحُ

الحجرةُ فوضى .. فحُليُّ

تُرمى.. وحريرٌ ينراحُ

ويغادرُ زر عروتهُ

بفتورٍ ، فالليلُ صباحُ

الذئبةُ تُرضع ذئبتها

ويدٌ تحتاجُ وتحتاجٌ

ودثارٌ فرَّ.. فواحدةٌ

تُدنيه . وأخرى ترتاحُ

وحوارُ نهودٍ أربعةٍ

تتهامسُ، والهمس مباحُ

كطيورٍ بيضٍ في روضٍ

تتناقرُ .. والريشُ سلاحُ

حبَّاتُ العقدينِ انفرطتْ

من لهوٍ ، وانهدَّ وشاحُ

فاللحمُ الطفلُ ، يخدَّشهُ

في العتمة ، ظِفرٌ سفّاحُ

وجُزازةُ شعرٍ.. وانقطعتْ

فالصوتُ المهموسُ نباحُ

ويكسَّرُ نهدٌ واقعهُ

ويثورُ ، فللجرحِ جراحُ

ويموتُ الموتُ.. ويستلقي

مَّما عاناهُ المصباحُ..

 

يا أختي ، لا.. لا تضطربي

إنيّ لكِ صدرٌ وجناحُ

أتراني كوَّنت امرأةً

لي تمضغَ نهدي الأشباحُ

أشذوذٌ.. أختاهُ إذا ما

لثم التفّاح التفاحُ

نحنُ امرأتان .. لنا قِممٌ

ولنا أنواءٌ.. ورياحُ

 

مطرٌ.. مطرٌ.. وصديقتُها

معها ، ولتشرينَ نواحُ

والبابُ تئنُّ مفاصلُهُ

ويعربدُ فيه المفتاحُ

المقطع الأول: الاكتشاف

تبدأ القصيدة في ليلة تشرينية ماطرة، نجد أنفسنا فيها نشارك عنوة في تلصص غير مبرر بالتعدي على لحظة خاصة بين هاتين الامرأتين. أطلقت النسويات على هذه النظرية اسم تحديق الذكور، حيث يُعطي رجل مغاير لنفسه الحق في فرض وتثبيت رغبته على الهدف، ويرى الجمهور المشهد من خلال تحديقه القوي. يتوحد الراوي والجمهور معاً، يصبحان الـ “أنا”. هو “أنا”، ليس مجرد شاهد على الفعل مع “المصباح”، بل يتضح من خلال وصفه اللاحق أنه شخص مدرك تماماً للحب الذاتي والشغف بالنساء، كما لو أن قوة نزار الذكورية تمكنت من اختراق أسرار الأنثى الغامضة “الحريم” وترجمة علاقة الحب السرية للعالم، جاء لتحرير هاتين الامرأتين من خلال جعل لقاءهما محسوساً من قبل الجمهور. بالنسبة للبعض، يُعتبر الفعل الموصوف في عمل الشاعر المشهور إنجازاً كبيراً لمجتمع الميم: “من الرائع أنه خاطر ببدء نقاش”. بينما، يمكننا المجادلة، إذا كان هدف الكاتب هو مجرد بدء نقاش وليس جعل حب النساء المثلي هوساً جنسياً، فلماذا لم يستخدم الكاتب رجلين؟

 

المقطع الثاني: الفعل

في المشهد الإباحي التوصيفي المثير، تصف لغة نزار، أو بالأحرى، تفرض وتنظم وصفاً معيارياً مغايراً للحب المثلي بين النساء. يصف نزار غرفة تعمها الفوضى، تتبعثر فيها المجوهرات والحرير (أشياء تُنسب للأنوثة) حول انحناءات أجساد غاية في الأنوثة. تُوصف المرأة بأنها ذئبة تُرضع شريكتها الذئبة. يوجد حوار بين أربعة نهود، تتهامس ليلاً مع بعضها البعض كطيور صغيرة بيضاء في حديقة، وتنقر بعضها البعض برقة. الصورة الأمومية في لغة الشاعر توحي بأن الأنوثة مرتبطة بالأمومة والولادة والرضاعة، لأنه من وجهة نظر رجل مغاير ذو هوية جندرية معيارية، لا يمكن رؤية تحرر المرأة الجنسي وحضورها الاجتماعي عموماً إلا من خلال هذه العبارات التوصيفية. يبدو الأمر كما لو أن الحضور الجنسي الذكري المتمثل بنزار يجب أن يلعب دوراً، لأنه، بالنسبة له، لا يمكن أن تتواجد الأمومة دون وظيفة الرجل الأبوية، وبالتالي، سيكون هذا الفعل الجنسي أمراً تافهاً.

 

والآن ماذا؟

يتمسك الكثير من أفراد المجتمع بهذه القصيدة على أنها شكل من أشكال التمثيل والاعتراف، لكن يجب ألا ننسى أبداً قدرتنا على خلق ظهورنا الخاص. يجب علينا اليوم أن نتطلع إلى إيجاد أو دعم الثورات الفنية التي تتحدث من وجهات نظر وواقع مجتمعنا. تقول النظرية النسوية “وجهة النظر النسوية”، إنه – لا يمكن لأحد أن يدرك تجربتك بحق إلا من عاشها. كُتِب هذا المقال على أمل توفير قاعدة لنقد الأعمال الأدبية من منظور جندري وكويري، وتقديم مجموعة متنوعة من الأمثلة السليمة للتمثيل من الأعمال السابقة والمعاصرة.

 

المراجع

Al-Ghafari, Iman. “The Lesbian Subjectivity in Contemporary Arabic Literature: ‘An Absent Presence’ Disciplined by the Gaze.” Al-Raida Journal (2012): 6-18

O’Keeffe, P. and Pásztor, Z. Syrian Academics in Exile. New Research Voices: International Journal of Research from the Front-Line (2016): 1–162 

Parker, Robert Dale. How To Interpret Literature Critical Theory for Literary and Cultural Studies. Third ed., Oxford University Press, 2014

Zimmerman, Bonnie, ed. Encyclopedia of Lesbian histories and cultures. Routledge, 2013