in English

بقلم: ملاك الغريب*
العمل الفني: سارة راجي
تحرير موسى الشديدي

 

في جامعتي طلب منا أحد أساتذتنا في أول محاضراته أن نقدم مشروع نحاول فيه توظيف ما تعلمناه عن إعلام النشطاء في مشاريع خاصة من أفكارنا، وأنه سيقوم بتقييم هذه المشاريع وعلى أساسها سيتم تقييم فهمنا للمادة بالكامل، والمناظرات التابعة لها… كان كل ما أتعلمه يسير في نفس الفلك حول فكرة واحدة، هي “الثورة المصرية” التي بدأت في 25 يناير 2011 .. ولم تنتهي بعد! قررت بعد شهر أن هذا ما سوف  يدور حوله مشروعي في هذه المادة. سأحكي لكمـ/ـن في هذا المقال حكايتنا، بعض القصص التي استطعت جمعها في هذا المشروع.

 

التاريخ والتوثيق والذاكرة

في أحد الجلسات التي جمعت حقوقيين وحقوقيات معنيين بأمور مجتمع ال م.ع.ك١ في مصر، حاول أحد الحاضرين الحديث عن الفرق بين كتابة التاريخ والتوثيق، إلا أن المجال لم يتسع لشرح وجهة نظره وقتها ولكن بعد ذلك فهمت الفرق بنفسي أثناء بحثي عن كيفية توثيق التاريخ الشفهي الجماعي، ودور تلك التوثيقات في كتابة التاريخ الرسمي. فهمت وقتها أن التاريخ الرسمي هو عبارة عن استعمار لإطار زمني معين من قبل سلطة محددة قامت بكتابة هذا التاريخ، ولهذا فالتاريخ دائما ما يكتب بيد المنتصر. وحتى  التاريخ الشعبي فأنه دائما ما يعبر عن وجهة نظر الأغلبية، الأغلبية الدينية أو العرقية أو القومية وكذلك الأغلبية الجنسية أو الجندرية. هذا التاريخ لا يمثل بالضرورة جميع وجهات نظر من عايشوا الحدث ومروا بالتجربة التي يتحدث عنها ذلك الفصل من التاريخ. فهو يحمل وجهة نظر الغالبية فقط، ولكن ماذا لو حاولنا النظر إلى تجربة الأقليات ممن عايشوا فترة تاريخية معينة، بنسبة كبيرة سنجد أختلافا جذريا في النظر للأحداث والتحديات والصعوبات التي واجهتها تلك الأقليات في هذا الحدث التاريخي. 

من هنا قررت أن أتحدث عني وعن أقراني من نفس مجتمعي (المجتمع الكويري أو مجتمع ال م.ع.ك\مجتمع الميم) وتجربتنا في الثورة المصرية، نحن من شاركنا منذ اليوم الأول  في الثورة ولكن الكثير (وليس الكل) من الأطياف والدوائر الثورية تبرأت منا في مرحلة لاحقة، أرادونا أن نشارك ولكن في الوقت نفسه أن نبقى داخل خزانتنا حتى لا يقال أن الثورة  تروج لأفكار أجنبية أو خارج نطاق عادات وتقاليد مجتمعاتنا.

قمت بجمع عدد قليل من القصص والروايات لأشخاص من تلك المجتمعات للتحدث عن تجربتهم/ن في الثورة المصرية كأفراد مثليين/ات، مزدوجي الميول الجنسية، عابرين/ات للجندر، كمحاولة متناهية الصغر لحفظ جزء من ذاكرتنا الجمعية والتي ربما تشجع المنظمات والنشطاء/الناشطات الأخرين/الأخريات على المشاركة في حفظ تلك الذاكرة بشكل موسع. وليكون تاريخ الثورة  أكثر شمولية، لتشمل روايات جميع التوجهات والثقافات والأقليات التي شاركت في الثورة واندمجت ببعضها البعض آنذاك لتشكل طيفا واحدا لا يمكن تقسيمه . 

 

الحكايات

الحكاية الأولى – تحدثت مع م.ع عبر محادثة تليفونية، كان صديق قديم تعرفت عليه منذ 2011 واحتفظنا بصداقتنا بشكل ما، سألته: “لو سألتك تحكي تجربتك كرجل مثلي في الثورة المصرية هتحكي إيه؟” 

أجاب:
“السؤال اللي انت بتسأله صعب أوي الحقيقة، يعني حزين كمان وبيفكرني بفترة صعبة، مشاركتي في الثورة كشخص مثلي! هو أنا بصراحة مكنتش مشارك كشخص مثلي أنا كنت مشارك كمواطن مصري في الأساس، أكيد مثليتي كان ليها تأثير في مشاركتي وتفاعلي وقتها، بس كمان مكانتش هي الدافع، في الفترة اللي نزلت فيها في المظاهرات في 25 يناير مكنتش متقبل نفسي تماما. يعني آه كنت عارف إني بحب الرجالة بس كمان مكنتش أعرف يعني إيه “مثلي” أو يعني إيه علم “الرينبو” أو كل ده٢ ومكنش ليا تجارب جنسية الحقيقة وقتها.

في الاعتصام اللي بدأ في 28 يناير مكانش حد تقريبا بيفكر في إن الشخص اللي جنبه ده ممكن يكون مختلف عنه ازاي، الكلام ده كله حصل بعد التنحي والسنين اللي بعد كده، بس انت عارف، أنا دايما لما بتخيل يعني “فتى أحلامي” زي ما بيقولوا، بتخيله واحد من اللي كانوا معانا في الميدان.

للأسف كمان اللي حصل بعد الثورة من الإخوان والعسكر وقف أي بريق أمل في حقوق المثليين وبقيت حاسس إني كشخص مثلي حقي راح كده، يعني لسه وأنا عايش في مصر مهدد في أي وقت مش بس عشان أرائي السياسية أو مشاركتي في الثورة بس كوني كمان مثلي ممكن في أي وقت يتقبض عليا بسبب ده لوحده، فمحاصر من كل جهة يعني.

الميزة إنه بعد الثورة كان فيه مساحة نتنفس شوية فبقى فيه كلام عالسوشيال ميديا عن المثلية والمثليين وده ساعد كمان المثليين نفسهم في إنهم يتقبلوا نفسهم وذاتهم بس على الصعيد الحقوقي مش عارف إذا كان ده ساعد ولا لا. حقوق المثليين آه مكنتش موجودة بشكل صريح على أجندة الثورة، بس إحنا لما قولنا ‘عيش، حرية، عدالة اجتماعية’ أعتقد إن حقنا في ملكية أجسادنا في قلب ده وإن حقوق المثليين ومجتمع الميم جزء لا يتجزأ من ده”.

“حقوق المثليين آه مكنتش موجودة بشكل صريح على أجندة الثورة، بس إحنا لما قولنا ‘عيش، حرية، عدالة اجتماعية’ أعتقد إن حقنا في ملكية أجسادنا في قلب ده وإن حقوق المثليين ومجتمع الميم جزء لا يتجزأ من ده”.

الحكاية الثانية – تحدثت مع صديقة مثلية حيث كانت مرحبة جدا بتوثيق حكايتها مع الثورة في من خلال رسالة مسجلة قالت لي:
“شاركت في الثورة من أول يوم، من يوم 25 يناير وكنت في الاعتصام ال18 يوم كلهم كواحدة مثلية في الميدان، آه إحنا كنا كلنا متوحدين بس ده ممنعش بعض التعليقات اللي اتقالت لي حتى لو بهزار، إني مسترجلة حبتين خصوصا إني كنت واضحة يعني في موضوع توجهي الجنسي ده، وإني من قبل الثورة وأنا كنت عارفة عن توجهي وناس كانت عارفاني، وكنت شغالة مع أحزاب وحركات سياسية فمكنتش وجه جديد كمان لما شاركت في الميدان.

يوم موقعة الجمل٣ كان من أكتر الأيام اللي كنت مصرة فيها إني اقف أدافع عن الميدان مع الرجالة اللي كانت واقفة وكنت مصرة على فكرة إن مينفعش الستات يدخلوا جوه يتحاموا في الرجالة، كذا حد جه وحاول يخليني أرجع ورا بحيث ابقى محمية اكتر وانا كانت راسي وألف جزمة اني افضل في الخط الأمامي  وكنت بتخانق عشان ده … ضربت واتضربت وحصلتلي إصابة في رجلي يومها بس عادي عملت اللي في دماغي.

فيه مثليين ومثليات كتير اتعرفت عليهم  في الميدان، كانوا بيجوا يصارحوني من كتر ما أنا مفضوحة يعني وأحيانا كنت بعرفهم على بعض كمان وكنا نقعد نعمل شاي ونسهر سوا في الميدان أيام الاعتصام، الناس دي كمجموعات فضلنا نتقابل سنين بعد الثورة حتى كأصدقاء وصديقات وابتدت دايرة المعارف تكبر من وقتها، بعد الثورة بسنتين تلاتة الأوضاع تغيرت تماما يعني حكومة الإخوان بعدها السيسي … بس برغم ده أنا حاسة بتفاؤل ناحية مجتمع الميم وحقوق المثليين. الجيل اللي طالع الأصغر مركز في الموضوع أكتر مننا بكتير وبيتكلم وبيوعي اللي حواليه بمسائل كتيرعن الجندر والجنسانية ودي حاجة إيجابية. أكيد أنا شايفة إن الموضوع هياخد وقت وسنين طويلة لحد ما يحصل تغيير حقيقي بس المسار ماشي بشكل إيجابي رغم كل الظروف”

الحكاية الثالثة – التي استطعت توثيقها كانت لرجل عابر جندريا:

“انا الثورة كانت يوم ميلادي، بالنسبالي ميلاد عمر وموت جهاد، نزلت الثورة في 2011. أخر 2011 خلعت الحجاب… وفي نص 2012 ابتديت طريق إني آخد خطوات في رحلة العبور الجندري لأني أكون ترانسمان (TransMan).

الثورة خلتني ابحث وأدور وأشوف وأكتشف أكتر عن نفسي وعن هويتي، متعرفتش على أفراد من مجتمع الميم وقت الثورة بس بعدها، وبشكل شخصي ما واجهتش إحباطات خلال الـ ١٨ يوم وإنما بعد كدة الرؤية ابتدت تتضح أكتر وإن لا مكان لمتجمع الميم ولا غيره من الأطياف المختلفة لكن ليا أصدقاء اختبروا إحباطات جوة الميدان من رفقاء ثورين على شاكله “ده مش وقته والبلد فيها أولويات”، بس افتكر إن الإحباط الأول كان في أول احتفال بيوم المرأة بعد الثورة يوم 8 مارس 2011 كنت هناك وتم الاعتداء علينا من الإخوان والبلطجية اللي كانوا لسه موجودين في التحرير. يومها اتأكدت إن نسبة الحرية اللي اتوهمنا إن ممكن نحصل عليها كانت كدبة كبيرة وإن الطريق لسه قدامنا طويل. الاعتداء صحيح مكانش موجه ضدنا لأننا أفراد من مجتمع الميم و لكن الذكورية كانت حاضرة يومها وكانت بتأكد قد إيه هي ضد أي حرية من أي نوع.

ده خلاني بصراحة بعد الثورة اركز على نفسي وعلى معاناتي ومشاكلي الشخصية واني احلها وحياة العابرين والعابرات جندريا في مصر كده كده مش سهلة بس بشوف دايما في آخر كذا سنة حملات على السوشيال ميديا عن الجندر والجنسانية وببقى مبسوط بيها”.


الحكاية الرابعة – جميلة امرأة عابرة جندريا:

“أما نزلت في 25 يناير كان عندي 17 سنة وماسقطش  حسني مبارك بس، وأنا أسقط اصنام كتير وخوف كانوا جوايا. أنا جميلة امرأة عابرة جندريا عندي 25 سنة، لما نزلت في مظاهرات 25 يناير كانت بالنسبالي خطوة صادمة في حياتي الشخصية وكسرت جوايا مخاوف كتير كانت مخلياني خايفة أواجه المجتمع وأهلي والناس، باني ترانس أو عابرة جندريا.

الثورة كانت أمل لكثير من أفراد مجتمع الميم أن التغيير حيجي وإن سقف توقعاتنا للتغيير بعد الثورة وقبول الآخر كان كبير، ده أدى بشكل ما أو بأخر لزيادة الظهور Visibility لمجتمع الميم بشكل عام سواء في الأماكن العامة أو في دوائر الثوار والمجتمع المدني. أذكراني بشكل شخصي اتعرفت على كتير من أفراد مجتمع الميم خلال فترة الثورة من الشارع أو الكافيهات والأماكن العامة وده خلى الدوائر تكبر ويكون في تواصل أكتر بين أفراد مجتمع الميم.

مكنش فيه مشاكل كتير وقتها بس بسبب إن كتير من الناس كانت بتبص للأفراد اللي شاركوا فى ثورة يناير على انهم دخيل أجنبي بيهدم القيم دي. فكان فى اوقات كتير فكرة إن يبقى فيه شخص معروف عنه إنه مثلي أو مثلية بتتقابل برفض الأطياف دي فى ظهوره عشان ميأكدش نظرية فكرة إن الثورة عاوزة المصريين يبقو خولات.

بعد الثورة كل التيارات اللي كانت متحدة انفصلوا بشكل كبير عن بعض خصوصا بعد صعود الإسلاميين وبعد 30 يونيو وبعد ما كان بيتقلنا مش وقته لما نشيل مبارك، مش وقته لما نشيل الإخوان، مش وقته لما المجلس العسكري يمشي، دلوقتي مش وقته عشان السيسي… وده خلى عموما مجتمع الميم كمان يحاول يشتغل على حقوقه بنفسه من غير ما يستنى تضامن من باقي التيارات”.

 

الحكاية مستمرة

انتهت الحكايات التي استطعت جمعها خلال فصلي الدراسي ولكن لم تنتهي “حكايتنا“.. بل على العكس تماما فحكايتنا مستمرة وامتدت لأقطار أخرى كالسودان والجزائر ولبنان والعراق… شارك في ثوراتها أفراد من الأطياف الكويرية المختلفة. وبالعكس تماما ففي لبنان على سبيل المثال أخذت المشاركات ظهورا أكبر.  كما ذكرت سابقا كان الهدف من المشروع تسليط الضوء وليس التوثيق ولكن مازلت أتمنى أن يتمدد المشروع لتوثيق التجارب والتاريخ السياسي للمجتمعات الكويرية أو مجتمعات الميم في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العموم، خصوصا المرحلة التاريخية لما بعد الصراع العربي الإسرائيلي ، حرب الخليج الأولى والثانية وثورات الربيع العربي. أنا أؤمن أن ذلك سيكون له دور كبير في النظر لمجتمعاتنا من منظور مختلف وكذلك إلى تاريخ المنطقة من منظور مختلف. وكذلك سيلعب دورا كبيرا في تعزيز التقاطعية بين الحراكات السياسية وبين الحراكات الكويرية في المنطقة.

 

* جميع القصص تم تعديلها لحماية الخصوصية للأفراد الحقيقيين وذلك يشمل الأسماء وبعض التفاصيل الشخصية.

رابط المشروع: https://soundcloud.com/user-332121482