بقلم أحمد عسيلي
تحرير موسى الشديدي 

 

عن دار هاربور كولينز، صدر في الهند عام 2019  باللغة الإنكليزية كتاب فيفيك تيجوجا الأول بعنوان (الآن أصبحتم تعرفون، أن تترعرع كمثلي في الهند)، يحكي فيه كاتبه ذو الـ37 عاما تجربته الشخصية كمثلي مفصح عن ميوله الجنسية في مجتمع ذكوري و محافظ كالمجتمع الهندي، في ظل تجربة كويرية مميزة وجريئة أفضت في عام 2018  إلى إلغاء قانون تجريم المثلية المعمول به منذ العهد الإستعماري البريطاني و بعد تجربة حراك مثلي قوي ومنظم من خلال عدة وقفات ومظاهرات علنية وكبيرة في أنحاء البلاد.

جاء الكتاب -كمعظم الكتب الأولى- أشبه ما يكون بالتداعي الحر association libre ، يسرد فيه فيفيك بكل عفوية وصدق تجربته الذاتية كمثلي ولد في مدينة بومباي عام 1983  لأسرة ميسورة الحال، عاش طفولته بشكل مدلل وسلس حتى سن الثامنة من عمره، حين بدأ المنعطف الأخطر و الأعنف في حياته بإدراكه لذاته كولد يميل للأولاد، و بوعيه المبكر لقوالب المعيارية الغيرية heteronormative rules  حتى قبل أن يملك أي فهم لهذا الشكل من الإضطهاد.

الممثل أنوبام خير الذي لعب شخصية بينكوفي الفيلم الهندي Mast Kalandar سنة 1991 التي هو أول شخصية لمثلي جنس في تاريخ الأفلام الهندية – بولي وود

السخرية في كل مكان
فقد صدمه فيلم سارية كالندر mast kalandar  الذي لاقى شعبية كبيرة في الأوساط الهندية في عام 1991 ، بشخصية أنوبار كير الذي لعب فيه دور بنكو (المخنث ) المثير للضحك، وهو أول شخصية ممارس للجنس مع الرجال يتم تصويرها بشكل واضح في السينما الهندية، ليتوالى بعدها توظيف هذا النمط  من الشخصيات في السينما الهندية، الشخصية المثلية الأنثوية التي تلعب دوما دور كوميدي مثير للاستهزاء، في مقابل شخصيات المخرج ياش كوبرا الذي يعطي الأبطال ( الغيريين طبعا ) قوالب ذكورية تحتقر الجانب الأنثوي في الرجل.

أما الصفحات الأكثر تراجيدية في هذه المذكرات، فهي كلامه و بمنتهى الصراحة مع الذات عن التنمر الذي تعرض له في المدرسة كولد لا يمتثل لقوالب المجتمع الذكورية فأطلقوا عليه لقب المخنث gudwa، لكن الحدث الأكثر إيلاما لفيفيك كان حين سخر منه صديقه المقرب و تنمر عليه بشكل فج أمام جميع الطلاب، بمشهد تراجيدي شبيه جدا بتجربة ناتان في  رواية ( قبلات مخفية )baisers caches للكاتب الفرنسي جيروم لارشر Jerome larcher ، فهل قدر المثليين جميعا أن يعيشوا المأساة ذاتها من باريس إلى بومباي؟


يأخذنا الكاتب عبر 22 فصلا و 148 صفحة في رحلة شخصية تحمل جرعة كبيرة من الهم العام، كمثلي أفصح عن مثليته في مدينة بوبماي وعن عشقه للقراءة كخيار انعزالي (وخاصة قراءاته للأدب المثلي وتأثره بوالت ويتمان و ديوانه أوراق العشب) عن حبه للبحر وعن لحظات رومانسية عاشها على طريق  (حاجي علي ) في كورنيش هذه المدينة التي عشقها و تردد فيها على حفلات المثليين (رغم خطورة إلقاء القبض عليهم قبل صدور إلغاء قانون تجريم المثلية)، كما تردد على ملهى فودو voodoo المخصص للمثليين.


بين المثليين والغيريين والهيجرا
يروي لنا قصص مواعدته للشباب ولحظات ممارسته الأولى للجنس الفموي والإيلاج ذكرها بالتفصيل على مدار 8 صفحات في الفصل السابع عشر، بقراءة مربكة ومخجلة بصراحتها وخصوصيتها لشاب يفقد عذريته للمرة الأولى،  بأحد أوتيلات مومباي بواسطة عابر سبيل بنجابي من نيودلهي، ثم ليصرخ في الصفحات الأخيرة “هذه هي بومباي كل شيئ فيها على ما يرام طالما أن الجميع يتظاهر بذلك”.

كتاب فيفيك تيجوجا الأول بعنوان (الآن أصبحتم تعرفون، أن تترعرع كمثلي في الهند)

يتكلم الكاتب عن حرمانه العاطفي وعن عزلته الاجتماعية وعن رفضه لإقامة صداقات مع غيريين كي لا يتحول إلى (الصديق المثلي) الذي يتخذه صديقه الغيري كزينة، وكدليل على تحرره و انفتاحه ويصر في كل اللقاءات على تعريفه ب (صديقي المثلي) دون أي اعتبار لشخصه و مشاعره ولحقه الشخصي في اختيار السياق و المواقف التي يتكلم فيها عن توجهاته الجنسية.
عن علاقته المضطربة مع المخصيين الهنود (hijras) الذين يجوبون/ن شوارع المدن الكبرى خاصة عند الإشارات المرورية ومواقف السيارات طالبين/ات المال وعارضين/ات أنفسهم/ن للمتعة، مسببين/ات للكاتب صراع نفسي عنيف بين رفض وجودهم/ن ورفض اعتبارهم/ن جزء من الحراك الكويري  وبين إيمانه بانسانيتهم/ن وضرورة إشراكهم/ن في معركة الكوير من أجل المساواة و العدالة.

 

أحلام كاتب
الكتاب حميمي جدا وذاتي جدا لكن لا يخلو من بعض اللحظات الكوميدية، لكنه يكثر من جلد الذات التي خضعت يوما لقوانين المجتمع في قولبة مفاهيم الذكورة والانوثة، لكنه مليئ بالصراخ والعناد والتحدي والسخرية من كل شيئ، حتى من أحلامه التي كانت يوما أن يصبح “رجل بيت” ينتظر حبيبه القادم من عمله، أليس المجتمع هو من يجبره على إعادة إنتاج هذه الثنائية، أما الزوج المهيمين أو الزوجة الخاضعة؟ إذن ليكن هو الزوج الخاضع!

الكتاب بشكل ما فضفضة نهائية قبل رحيل الكاتب عن معشوقته مومباي وسفره  إلى مدينة حيدر أباد للبدء بمرحلة جديدة في حياته، أو كما نقول “إفراغ الكيس”  كي يتحرر الكاتب من أثقال كل سنواته بكل ما فيها من توتر ومواقف وعناد وانكسار. كتاب جريء وصادق وصادم أحيانا، محرج في أحيانا أخرى، لكنه بالتأكيد سيترك بصمته على الأدب الكويري في الهند وعلى الحراك بشكل عام في شبه القارة المليئة بالأعاجيب هذه.