English

بقلم أحمد عوض الله
ترجمة هبة مصطفى
العمل الفني: لينا أ.
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا

 

تابعت المشاعر التي أثارها انتحار سارة حجازي في أنحاء العالم. شعرت بالصدمة والألم عندما قرأت تعليقات الكراهية والاستهجان التي لقيتها على منصات التواصل الاجتماعي، وفي يوم مطير في برلين شعرت بالتضامن يطوّقني مع من توافدوا لرثائها، رأيت صورًا لوقفات وشموع مضاءة في مدن مختلفة حول العالم فتذكرت أننا يمكننا تحمل أي فاجعة تقريبًا إذا واجهناها معًا. لا تزال كلمات سارة الأخيرة عالقة في ذهني، فلماذا كانت رسالتك الأخيرة رسالة غفران يا سارة؟

كشف رحيل سارة عن محنة الكويريين/ات١ المصريين/ات سواء في الوطن أو المنفى؛ أفادت وسائل الإعلام أن جريمة سارة كانت رفع علم “الرينبو” في حفل موسيقي في عام 2017 لكن جريمة سارة الحقيقية والتي واجهت بسببها الاعتقال والحبس الانفرادي والتعنيف الجسدي والجنسي والمنفى هي أنها عاشت حقيقتها. 

انتمت سارة إلى جيل ثورة 2011، الجيل الذي كان مليئًا بالأمل ودفع أبناؤه ثمنًا باهظًا من أجسادهم وعقولهم لتجرؤهم على قول لا. وُلِد هذا الجيل ونشأ في ظل نظام مبارك الذي استمر في الحكم لثلاثين عامًا في إطار مشهده السياسي المحدود حتى قرروا أن الكيل قد طفح، وكثيرًا ما يُقال إن جيلنا كان بارعا في توجيه النقد وقول لا لكنه لم يصمد أمام اختبار المشاركة في “السياسة الحقيقية”، ولكن سارة خالفت هذا فكانت نشطة في التنظيم السياسي اليساري وتحدثت بصراحة عن جنسانيتها وحاربت بلا توقف لتكون على طبيعتها؛ فأن نعيش حقيقتنا هو قمة الثورة والعدالة تعني العدالة للجميع.

يضطهد الكويريين/ات لمجرد أننا على طبيعتنا أو لأننا نحب أو حتى نتحرك بطريقة معينة، لكن كم مرة سيتم نفي الكويريين/ات عن أصدقائهم وعائلاتهم وقراهم وبيوتهم وعن رفاقهم في الثورة؟ وكم مرة سيتم نفينا عن أجسادنا أو لغتنا الأم أو من الحب؟

 

يُقال لنا أن الكويريين/ات من المفترض أن يكونوا أحرارًا وآمنين في “الغرب” أو أنهم سيجدون الخلاص هناك، إلا أن انتحار سارة يتناقض مع هذه السردية؛ فلم تتحرر سارة من معاناتها عندما هربت إلى كندا ولم تجد ملاذًا أو شفاءً، ولم يتبدد ألمها ولم تكن كندا يوتوبيا بالنسبة لها.


لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو
. يُقال لنا أن الكويريين/ات من المفترض أن يكونوا أحرارًا وآمنين في “الغرب” أو أنهم سيجدون الخلاص هناك، إلا أن انتحار سارة يتناقض مع هذه السردية؛ فلم تتحرر سارة من معاناتها عندما هربت إلى كندا ولم تجد ملاذًا أو شفاءً، ولم يتبدد ألمها ولم تكن كندا يوتوبيا بالنسبة لها. من ناحية أخرى لم تكن مصر مجرد مكان يعاني فيه المثليين/ات بل مكانًا حاربوا فيه من أجل التغيير واحتفلوا وغنّوا. تحطم قصة سارة الثنائيات وتكشف أن القمع الذي يتعرض له الكويريون/ات يتجاوز الشرق والغرب.

 

لماذا كان الغفران كلمتك الأخيرة يا سارة؟
طلبت سارة في رسالة انتحارها الغفران من إخوتها وأصدقائها وهي أمنية ليست غريبة تماما لدى من يقضون انتحارًا، فقالت في رسالتها: “إلى إخوتي، حاولت النجاة وفشلت، سامحوني”، وقد فقدت سارة وإخوتها، وهي أكبرهن، أمهن أثناء وجود سارة في المنفى ولم تتمكن من وداعها الوداع اللائق. ثم التفتت إلى أصدقائها قائلة: “التجربة قاسية وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحوني”، والأصدقاء المقربون قد تصيبهم بصفة خاصة صدمة (تروما) جراء فقد أحد أحبتهم بسبب الانتحار2، وغالبًا ما يثقلهم الإحساس بالمسؤولية  والخزي. يبدو أن سارة كانت واعية بذلك فتذكرنا أنه حتى وإن اضطرت لمفارقة الحياة فإن هناك سبيل للتعافي. في النهاية تختم سارة رسالتها بعاطفة فريدة: “إلى العالم، كنت قاسيًا إلى حد عظيم، ولكني أسامح” مانحةً الصفح للعالم رغم كل قسوته.

استجابةً لانتحار سارة، رفع بعض الرفاق الكويريين/ات شعار “سارة سامحت لكننا لن نسامح”. في لحظات الصدمة والألم نميل أحيانا إلى تحويل حزننا وأسانا إلى غضب مع توجيه غضبنا نحو الأنظمة والمؤسسات المتواطئة في القمع الذي نتعرض له. يمكن أن يكون الغضب مفيدًا أو محفزًا إيجابيًا للتغيير الاجتماعي فكما تقول الكاتبة النسوية ذات الأصول الإفريقية أودري لورد: “رضعت الغضب من شفة الذئبة واستخدمته للإضاءة والضحك والحماية والاتِقّاد في الأماكن التي لا يوجد بها ضوء أو طعام أو أخوات أو سكنى”.

إلا إنني عندما قرأت هذا الشعار صرت أفكر في سؤال غلوريا جوزيف: “أين يذهب الألم عندما يزول؟” فعندما نندفع للتعبير عن الغضب نتجاوز الحِداد وربما نتحاشى الاعتراف المؤلم بأننا قد نلقى المصير ذاته وربما نهرب من الإحساس بالذنب بأنه كان في وسعنا القيام بالمزيد. طلبت سارة الصفح في ظروف غير مثالية فقد قُوبِل انتحارها بغضب معادٍ للمثلية وتوجيه لومٍ أخلاقي لها ولمن حزنوا عليها وأثار نقاشًا عدائيًا على الإنترنت وخارجه حول ثلاثة موضوعات حساسة، هي الانتحار والمثلية ونشاطها السياسي الدؤوب، حتى إن محرري صفحة ويكيبيديا العربية لم يتركوا صفحة تحمل اسم سارة تستمر، فحتى في الحداد غير مسموح للكويريين/ات بمساحة مناسبة في مواجهة هذا التجريد من الإنسانية، وفي وجه كل شيء واصل الناس التعبير عن الحزن سواء علانية أو دون الكشف عن هويتهم/ن.

قد تبدو المغفرة فكرة ساذجة وبالية مستمدة من المعتقدات الدينية أو مفهوما يعزز الخنوع وإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، كما أن المغفرة  تتطلب في المعتاد اعتذارًا ووعدًا بألا يتكرر الخطأ مرة أخرى، ولكن بالنسبة للكاتبة النسوية بيل هوكس: “الغفران والتعاطف أمران مرتبطان دومًا، فكيف نحاسب الناس على الخطأ وفي الوقت ذاته نبقى على اتصال بإنسانيتهم بقدر يكفي للإيمان بقدرتهم على التغير؟”، فهي تخبرنا أن المغفرة والتعاطف يساعداننا على فهم إخوتنا في الإنسانية وعلى أن نرى الجناة كأشخاص فقدوا الاتصال بعقولهم وقلوبهم نتيجة لأنظمة القمع، القمع عينه الذي قاومته سارة.

وصفح سارة إدانة لمن اعتدوا عليها أيضًا، فالصفح لا يعني القبول أو التصالح بل سبيل للتعاطف يتيح لنا مزيدًا من الفهم للديناميكيات التي تعزز القمع الجنسي والجندري، ولا يمكننا أن نعالج هذه القضايا حتى نفهم جذورها النفسية.

علينا أن نفكر فيما يحول بيننا وبين الصفح، فقد يساعدنا ذلك على إعادة تعريف أنفسنا فيما يتعلق بأنفسنا وعلاقتنا بالآخرين، خاصة في وقت يرى فيه الكويريون/ات أنفسهم بشكل متزايد على أنهم ضحايا مجروحين فحسب، فهل هذا لأن إحساسنا بهويتنا يرتبط بشكل وثيق بألمنا وصدمتنا؟ من نحن دون جروحنا وكيف يمكننا أن نحرر أنفسنا منها حتى لا تملي علينا تحركاتنا؟ ماذا سيحدث إذا سامحنا من تسببوا لنا في الألم وحررنا أنفسنا منهم؟ هل يمكن أن نتخلى عن إحساسنا بأننا ضحايا ونشعر بتأثيرنا وقوتنا؟

واصلت سارة رؤيتها في فعلها الأخير؛ فقد أرادت منا أن نتغير وأن ندرك بأننا فاعلون وشجعان عندما نكون على طبيعتنا وأن نستمر في الحب والشعور، وإذا تمسكنا بالألم فإننا نخاطر بأن نصبح قساة وطغاة نحن أنفسنا. أتمنى لو كنا قد أحببناك بصورة أفضل يا سارة وآمل لو أنك تستطيعين رؤيتنا حيثما كنت وأن تعرفي أنك لا زلت تؤثرين فينا وتحركين مشاعرنا.