مقال لِ: أوليفيا كثبيرت
تصوير: منير عبدالله
ترجمة: مايا أنور

 

الرجال الخشنين فقط لا غير’. “الشباب الذين يرتادون النادي الرياضي”. “فقط مغايري الجنس”. “لا للنواعم”. إن الرسالة الموجهة للرجال المثليين ومزدوجي الميول الجنسية الذين يتصفحون تطبيقات التعارف في الأردن واضحة: نعم للرجولة، لا للأنوثة. أما الأشخاص غير النمطيي الشهوة فلا يتم قبولهم. إنه توجه يرى البعض أنه قد أصبح واضحاً بشكل متزايد في الأردن، حيث تطغى الرجولة النمطية على التنوع الموجود في مجتمع المثليين، وذلك بسبب رغبة المزيد من الرجال بتحقيق المثالية الجندرية. يقول خالد عبدالهادي، المخرج الإبداعي في مجلة ماي كالي: ’’يسعى الناس إلى تغيير أنفسهم بهدف الإحساس بالقبول، دائماً ما أرى ذلك على مواقع التواصل الإجتماعي. يتخذ الرجال وضعيات رجولية مبالغ فيها رغم معرفتي بوجود جانب أنثوي لدى كل فرد منهم‘‘ يقول أيمن ي*، وهو كاتب يركز على قضايا الجندر في الأردن، أن المغايرين في الشكل والسلوك مرغوبين بشكل “وبائي” على تطبيقات التعارف. من وجهة نظره، يبدو الأمر كما لو كان عبارة عن آلية “كره الذات” ضمن نطاق مجتمع الميم، ’’كما لو أن الوضع المثالي “الطبيعي” هو أن يكون الشخص مغايراً‘‘. كما أصبح أيضاً مصطلح “لا للنواعم” شائعاً. ’’تكمن المشكلة هنا بعدم وجود الوعي للفرق بين تعريفات الجندر والميول الجنسية. يقولون بأنهم لا يريدون سوى الرجال أصحاب السلوك المغاير والطابع الخشن، ولكن لماذا يتم ربط كلمة “مغاير” بالذكورة؟‘‘.


الخوف من المؤنث

إن الرجولة المفرطة هي أيضاً شكل من أشكال حماية الذات. توجد مساحة ضئيلة لبناء هوية قوية على السمات الأنثوية في مجتمع يربط الأنوثة بالضعف ويشدد بأغلبية ساحقة على أن القوة محصورة في محيط الذكورة. يقول أيمن مشيراً إلى المرتبة المتدنية للمرأة في الأردن: ’’غالباً ما يتم النظر إلى أي تعبير أنثوي بنظرة دونية مقارنة بأي تعبير ذكوري‘‘.
ليس الرجال وحدهم هم المستفيدون من قمع أي صفات نسائية لديهم. يقول فادي زغموط، مدون وروائي وناشط معروف في مجال الحريات الجنسية: ’’للأسف، فإن التصرف بطريقة أنثوية على العلن ليس بالأمر الآمن لكل من الرجال والنساء. فمع انتشار التحرش الجنسي بالنساء، كلما قللن من إظهار صفاتهن الأنثوية، كلما كانوا أكثر أماناً‘‘.

في الوقت ذاته، من المتوقع أن يحافظ الرجال على السلطة الذكورية التي تليق بوضعهم الإجتماعي الأعلى منزلة. يشير زغموط إلى الضغط الملقى على عاتق الرجال في الأردن لتحقيق مثالية الذكورة المفرطة قائلاً: ’’طغت ثقافة الذكورة المفرطة على التوازن الطبيعي بين الذكورة والأنوثة، ذلك التوازن الذي يحتاجه أي مجتمع سليم‘‘، ويضيف: ’’يتحدى الرجال المثليون ذوو الطابع الأنثوي هذا الفهم السطحي للجندر، مما يؤدي إلى شعور البقية بعدم الراحة‘‘.
يقوم مجتمع المثليين بترسيخ هذا التحيز على نطاق داخلي من خلال استعمال مصطلحات استحدثت خصيصاً للتقليل من شأن أولئك الذين يقعون خارج نطاق المثل الجندرية. حيث يطلق لقب “خالصة” على الرجل المثلي صاحب الطباع الأنثوية أو الذي يرتدي ملابس صارخة ملفتة للنظر، كما يستعملون الضمائر المؤنثة لمخاطبته مثل “إنتي”، ويتهم أيضاً بأنه “بوتمة” وهو مصطلح يعني أن دوره في الممارسات الجنسية يكون كالنساء. يقول خالد وهو رجل مثلي معلن لمثليته: ’’إن استعمال لغة مؤنثة في مجتمع المثليين يكون لسببين؛ إما لكي يكون أمراً مضحكاً، أو لإهانة شخص آخر. لكننا لا نستعملها لتمجيد الهوية الأنثوية‘‘.

 

التوافق مع الفئات

خلال نشأته في عمان، كان خالد يستعمل معظم مصروفه كمراهق في شراء المجلات المستوردة، فكان ينفق 15 ديناراً مقابل شراء مجلة “فوغ” الفرنسية، و 10 دنانير على مجلة “إن ستايل” و 8 دنانير على “كوزموبوليتان” الأمريكية. كان يضطر أحياناً إلى شراء نفس العدد مرتين أو ثلاثة خلال الشهر نفسه بسبب مصادرة أمه لتلك النسخ. ’’كانت تعتقد أنني أقرأ هذه المجلات لأنني أريد أن أكون إمرأة. بالنسبة لها، لم يكن هناك فرق بين أن يكون المرء مثلياً أو مصححاً جنسياً “متحول جنسي”‘‘. يعتبر التفكير بهذه الطريقة أمراً شائعاً جداً في الأردن، حيث يقول: ’’لا يدرك المجتمع الفرق بين الحالتين، يظن الناس أنك إذا كنت مثلياً، فأنت بالتالي ترغب في أن تكون إمرأة‘‘.

في المجتمع الأردني، يعتبر الخلط بين الهوية الجنسية والميل الجنسي أمراً منتشراً في مجتمع الميم. يقول أيمن: ’’إنهم لا يرون الهوية الجنسية مرتبطة بالذكورة والأنوثة، في حين أن الميول الجنسية لا تخضع مطلقاً لهذا المقياس‘‘، ويضيف: ’’الميل الجنسي يعني لأي جنس تنجذب، يمكنك أن تكون مغايراً ولديك طباع أنثوية، أو أن تكون مثلياً وطباعك ذكورية‘‘. ولكن، وفي بلد مثل الأردن، حيث الثنائية الجنسية محددة بشكل صارم، تتوفر مساحة قليلة لبناء هوية تقع بين حدود الهويتين المذكرة والمؤنثة.

تصوير: منير عبدالله – لبنان

كانت غادة ف* في الحادية والعشرين من عمرها عندما أقرت لنفسها بأنها مثلية، ولكن، كان هذا الإقرار بمثابة نذير بالمعاناة. ’’أصبحت مكتئبة لأنني اعتقدت أن كوني مثلية يعني أنه يجب علي أن أكون ملائمة لصورة معينة، كأن أكون مسترجلة، وأن أشرب الكثير من الكحوليات وأن أمتلك العديد من الأقراط. لم أكن أعرف حينها أن كوني مثلية يعني أنني يمكن أن أكون على طبيعتي، أن أكون أنثوية الطباع‘‘. في تلك الفترة، جائت نصائح طبيبها النفسي لتعزز من ارتباكها وحيرتها. ’’قال لي ثلاثة أمور: لا يجب أن يكون أصدقاؤك من مجتمع الميم فقط، أنت جذابة جداً لتكوني مثلية، وأنه بسبب قصة شعرك وملابسك الذكورية، يجب أن تكون لك السلطة العليا في علاقاتك‘‘.​

إن أولئك الذين لا يخضعون للمفاهيم الجندرية الثابتة في المجتمع الأردني يواجهون تحديات كبيرة. إضطرت لمى ت* للسفر إلى أوروبا بحثاً عن القيام بعملية تصحيح الجنس، ومنذ ذلك الحين، تمكنت من بناء حياة جديدة هناك، ولكن رحلتها بدأت قبل ذلك بوقت طويل خلال نشأتها في الأردن. تقول لمى مشيرةً إلى حالات ترتبط بما يسمى بجرائم الشرف: ’’ينظر الناس إلى مصححي الجنس “المتحولين جنسياً” على أنهم عار وأن ما يفعلونه أمر محرم، لذلك واجهت الكثير من الصعوبات باحثةً عن القبول من الأصدقاء والعائلة. يعد مجتمعنا محافظاً لدرجة كبيرة، فتكون الأمور بالغة الخطورة لأولئك الذين يقعون خارج التصنيفات التقليدية‘‘. يخاف الناس في الأردن مما قد يعتقده الآخرون عنهم، ويرغبون بالحفاظ على هذه الصورة المتمثلة بأن لديهم عائلة مشرفة مهما كلف الأمر.

 

الهويات المستوردة

لم تكن الضغوطات لمطابقة الأدوار الجندرية المحددة تعمل دائماً على تشكيل المجتمع الأردني بالطريقة التي تقوم بها اليوم. تشدد سناء ف*، معلمة وناشطة إجتماعية مقيمة في الأردن، على المرونة التي ميزت في السابق السلوك تجاه الهوية الجنسية والميل الجنسي ضمن القبائل البدوية في الأردن. ’’لم يكن الفصل بين الهويات الجنسية والأدوار المنوطة بها أمراً متواجداً لدينا عبر تاريخنا. جاء هذا كنتيجة للإستعمار والقيم الفيكتورية التي فرضت نفسها على هذه المنطقة. عندئذٍ، قمنا بتطوير تلك الفكرة التي تحدد هيئة كل من الرجل والمرأة وتصرفاتهم‘‘.
تقول سناء: ’’قبل ذلك، لم تتواجد مفاهيم الرجولة والأنوثة بين البدو المزارعين؛ ليس كما يتم فهمها حالياً‘‘. تتذكر سناء جدة صديقتها التي كانت ترفع العصا على مجموعة من الأولاد المراهقين الذين كانوا يترصدون للتحديق إلى إبنتها المراهقة في الشارع. وتوضح سناء قائلةً: ’’كان المجتمع يحترم النساء القويات ويعجب بهن. في المجتمعات القروية، كان أمراً جيداً أن تمتلك القدرة على التنقل بين الأدوار‘‘.

كانت الميول الجنسية في المجتمعات البدوية أقل انغلاقاً. تضيف سناء: ’’لم يكن لدينا كل هذه المسميات على الإطلاق. كانت العلاقات المثلية متواجدة ولكن لم يسميها أحد بذلك لأنها كانت أمراً طبيعياً‘‘. إنه أمرٌ قام النشطاء في الأردن وفي دول أخرى في الشرق الأوسط بتسليط الضوء عليه خلال عملهم على خلق بيئة آمنة ومتقبلة لمجتمعات الميم في المنطقة. يؤكد الكثيرون على أهمية تطوير مشهد محلي لمجتمع الميم مبني على هذا التراث ويحافظ في الوقت ذاته على إستقلاليته عن الهويات المستوردة والأنماط السائدة المرافقة لها.

تصوير: منير عبدالله – لبنان

التناقضات الثقافية

يقول موسى الشديدي، كاتب ومؤلف له أعمال منشورة منها كتاب “يوم لم يكن لنا أب”: ’’بعيداً عن تقبل العلاقات المثلية، لا تعتبر المثلية الجنسية أمراً مخالفاً للقانون في الأردن. تأتي معظم القوانين المجرمة للمثلية الجنسية في دول الشرق الأوسط من التشريعات البريطانية والفرنسية، من بقايا زمن الإستعمار‘‘. ويوضح مسلطاً الضوء على التناقضات الثقافية التي تكشف التناقض في هذه التقاليد الجنسية في المجتمعات الشرق أوسطية التي نشأت في العقود الأخيرة: ’’لم تكن هذه القوانين موجودة هنا في السابق‘‘.​

وبينما يعتبر تعريف الشخص عن ذاته بأنه مثلي الجنس أمراً محرماً في الأردن، توجد بعض الحالات المعينة التي تكون فيها العلاقة الجنسية بين رجلين أمراً مقبولاً. ’’قد تكون الهوية أمراً جديداً بالنسبة لنا في المنطقة، ولكن الفعل نفسه يعتبر قديماً في ثقافتنا‘‘، تقول سناء مستشهدةً بأمثلة مثل “تبع أولاد”، وهو مصطلح يطلق على الرجال الذي يمارسون الجنس مع رجال آخرين، عادةً ما يكون أصغر في السن وذو سمات أنثوية، كأداة للجنس، غالباً بسبب عدم قدرتهم على الحصول على النساء. لا يقوم هؤلاء الرجال بالتعريف عن أنفسهم بأنهم مثليين. ’’يتم النظر للأمر على أنه فعل جنسي دون النظر للميول الجنسية‘‘.

في الوقت ذاته، يوجد تناقض هائل بين علاقات الصداقة بين الرجال الأردنيين والتي تتميز بالتلامس الجسدي، والقوانين الصارمة التي تحظر الإظهار العلني للعلاقات الودية بين الرجال والنساء. في منشور حديث على صفحة إحدى المدن الأردنية الرئيسية في موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، يذهب الناشر بعيداً في اعتقاده بأن الرجال المثليين في الأردن يحوزون على حرية مطلقة مقارنةً بأي ثنائي مغاير: ’’إن ثقافة الصداقة بين الذكور عندنا تتسم بنزعات مثلية، يمكن رؤية هذا السلوك بشكل واضح على العلن في الشوارع ولا يبدي الناس أي رد فعل. في المقابل، إذا أمسك رجل بيد صديقته أو قام بنشر صورة لهما بوضعية التقبيل أو العناق سيكون هناك غضب عارم بسبب ذلك‘‘.

يصل الأمر بكاتب المنشور إلى التساؤل حول حق مجتمع الميم بالشكوى من الإضطهاد في حين أن العادات المجتمعية تسمح بشكل كبير، حسب اعتقاده، للرجال المثليين بممارسة علاقاتهم خلسةً أمام أعين الجميع. ولكن، وكما تشير سناء، إن المسميات هي ما يثير حنق المجتمع. ’’لا مشكلة لديهم مع العلاقة الأخوية الحميمة – شباب يمسكون أيدي بعضهم البعض أو يتعانقون – طالما أن هؤلاء الشباب مغايرو الجنس. تكسر هذه القاعدة عندما تكون هويتهم كويرية (مثلية)‘‘.

 


الشخصيات الخاصة

وبالمثل، يجب النظر إلى قوانين الجندر بصورة مؤيدة. تضيف سناء: ’’ببساطة، ليس مقبولاً في المجتمع الحالي المفرط الذكورة أن يتخلى الرجل عن ذكورته‘‘. وفي حين أنه في السابق كان من الممكن إستثناء مجتمع الميم من هذه القاعدة، أصبحت الضغوطات للتوافق مع معايير الذكورة أمراً متزايداً بين الرجال المثليين. يقول فادي ز، مصمم أزياء في الأردن، ’’بدأت الشهية نحو الطباع الأنثوية تتضائل ضمن مجتمع المثليين. على تطبيق جريندر، لا يقترب أحد منك إذا كنت تبدو ناعماً. أصبح هذا الأمر يقود مجتمع المثليين نحو التغيير ليصبح أكثر ذكورة‘‘.

يبدي خالد عبدالهادي قلقه حيال تزايد نزعة الإنسجام مع معايير الذكورة، والتي تحرم المجتمع من الظهور المطلوب لدعم الجهود المؤيدة لمجتمع الميم والمؤدية إلى التغيير الإيجابي. حيث يقول: ’’كلما قل عدد الأشخاص الذين يتحدون الفروقات الجندرية والذين يعملون على توسعة مساحة التعبير المتاحة لمجتمع الميم في الأردن، كلما تقلص حجمها‘‘. لقد كان هذا هو الدافع وراء مجموعة الصور المخصصة للإصدار الحالي من المجلة والذي يظهر فيه عارض بهيئة الفنانة التشكيلية المكسيكية فريدا كالو، المعروفة بتجاوزها للحدود الجندرية من خلال لوحاتها وحياتها. ويضيف: ’’نحن بحاجة إلى التحدي المستمر للتعريفات ضيقة الأفق للهوية الجندرية والميل الجنسي، وذلك بهدف خلق مساحة لأولئك الذين لا ينتمون لها، كلما رأى الناس صوراً كهذه، كلما بدأت تبدو أمراً طبيعياً‘‘.

 

*تم إستخدام أسماء مستعارة​

 

​يمكنك قرأة المقال باللغة الانجليزية هنا