بقلم: أوليفيا كثبيرت
ترجمة: مايا أنور
تدقيق: موسى الشديدي
تصوير: أميمة الدرمومي
تصميم الصور و الغلاف: محمد مو مصطفى
تلبيس: مروى السراجي
الإخراج الإبداعي: خالد عبد الهادي و مروى السراجي
توثيق العمل خلف الكواليس بعدسة: كامي لياج
إضاءة خافتة، تبدأ جوليانا يزبك بهدوء، تُجهّز الجمهور لما سيأتي لاحقاً. مع تصاعد صوتها، تشتعل الأجواء في القاعة، ليتفاعل الجمهور مع أدائها الملتهب على المسرح. ومع الأغنية الثالثة، يكون الجميع قد علِقوا في شِباك موسيقاها.
قبل بضعة أسابيع، لمحت هذا الحضور المهيب على خشبة المسرح عندما التقينا من أجل مقابلة لـ London Bridge. “عندما أغني على المسرح، تتملّكني طاقة كبيرة، بعد ذلك يراني الناس وجهاً لوجه ويقولون: أنتِ ضئيلة الحجم!”
عند مقابلتها شخصياً، تبدو المغنية ومؤلفة الأغاني ذات الـ 31 ربيعاً صغيرة الحجم، تُضفي ملابسها السوداء على بُنيتها مظهراً تصفه بالعضلي. لكن مثل محددات الهوية الأخرى، التي لطالما اعتبرتها عائقاً في بعض الأحيان، تحتفي جوليانا الآن بمظهرها، متجنبةً ارتداء حمالة صدر أو وضع المكياج لأنها تجعلها تشعر بالنفور من جسدها. “تعرفت على نفسي بعيداً عن السلطة الأبوية. هذا جسدي وأنا أشعر بالأنوثة فيه”.
إنها ذات الروح التي تسكن أغاني ألبومها الأول بعل، والتي تدعو المستمعين إلى الانضمام إليها في التخلص من “العار المتوارث، وكراهية الذات، والخراب الناجم عن الاستعمار والأبوية”. صدر الألبوم في آذار/مارس 2018، وحصد آراءً إيجابية، لتركب الآن موجة هذا النجاح، وتحجز الصالات الرئيسية، بما في ذلك قاعة الكتريك في لندن (Electric Ballroom)، حيث افتتحت حفل فرقة الروك المصرية كايروكي في كانون الثاني/ديسمبر.
“شيء آخر لأقوله”
تلقت جوليانا ردود أفعال إيجابية على الألبوم من قبل مستمعاتها، فمنهن من وجدته بأنه “غيّر حياتها ومكّنها”، وقالت لها أخريات إنه “جعلني أرى قوتي الكامنة”، و”جعلني أدرك أنني لست ناقصة”، و”أفهم أنني لست بحاجة إلى التطلع إلى الأشياء التي لا أريد التطلع إليها”. أما المكافأة الكبرى فهي عندما تكتب إليها الفتيات أو يحضرن إليها بعد أحد العروض ويقلن إنهن لن يرين العالم بنفس الطريقة بعدما استمعن إلى هذا الألبوم. “هذا كل ما كنت أحلم به.”
تغوص أغنية آلهات، إحدى أكثر أغانيها شعبية، في أعماق القدرة الكامنة في النظام الأمومي، وتحث النساء على إيجاد شكلهن النسوي الخاص. كتبت جوليانا الأغنية لتُعبر عن رسالة لطالما أرادت سماعها، ولتمجيد الأمهات والخالات والجدات اللاتي يدعمن الجيل القادم ليكون جيلاً مبدعاً. “قيل لنا إن النسوية اختراع غربي، لكن هناك عدة أشكال للنسوية، ومن المهم ألا نضطر للاختيار”.
إنها احتفالية بالقوة الفطرية للأنثى وقيمة المرأة كفرد. تقول جوليانا: “الرسالة هي أننا لسنا ناقصات”.
لكلمات الأغنية صدى قوي لدى النساء الشابات على وجه الخصوص، سواء في العالم العربي أو في مجتمعات العرب المغتربين في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث أمضت جوليانا أجزاء كبيرة من حياتها. لكنها ليست موسيقى تتفاعل معها فئة واحدة من الجمهور. بغنائها باللغتين العربية والإنجليزية، اكتسبت أغاني جوليانا أهمية عالمية مستندة على خلفيتها متعددة الثقافات والتأثيرات المختلفة التي شكّلت هويتها الحالية.
نشأت في نيو جيرسي في الولايات المتحدة الأمريكية، كطفلة لأب وأم لبنانيين فرّا من الحرب أرادت الاندماج. وفي سن السادسة، أعادوها معهم إلى لبنان وتعرضت لصدمة ثقافية.
ألقت بنفسها على الفور في حضن المسرح، لتشارك في مسرحيات موسيقية مثل (My Fair Lady) و (Fame). منذ سن مبكرة، أراد لها والداها أن تصبح عازفة بيانو وشجعاها على دراسة البيانو الكلاسيكي. “كرهتها، كل موسيقى الباليه تلك؛ أعتقد أنه في مكان ما بداخلي، كان بعض أسلافي يقولون لي: لا تسمحي لهم بأن يستعمروكي! ظللت أتمرد لأنني كنت أعلم أن لدي شيئاً آخر لأقوله”.
استغلال قدراتها الإبداعية
على المسرح، يظهر جلياً استمتاع جوليانا بفرصة التفاعل مع جمهورها، حيث تخلط الأغاني بهتافات حماسية داعمة للمظاهرات في لبنان، والتي كانت في أسبوعها الثاني عندما غنت قبل حفل “السارة والنوبة تونز” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. تعلو هتافات الجمهور كلما غنت جوليانا معبرة عن تضامنها ودعمها للثورة.
قالت لي عندما التقينا: “نحن كلبنانيين لا نفعل ما فيه الكفاية، لا أحد منا حر حتى نصبح كلنا أحراراً”.
يُعتبر إحياء حفل في لبنان، وتحديداً في البترون، مسقط رأس جوليانا، على رأس قائمة أولوياتها، لكنها منشغلة حالياً بحجز مكانها الخاص في المشهد الموسيقي التنافسي في لندن.
هذا العام، ترشحت جوليانا لجائزة المركز العربي البريطاني للثقافة 2019، لتكون واحدة من عدة مرشحات وصلن للقائمة النهائية المكونة فقط من النساء، وهي المرة الأولى في تاريخ الجائزة التي تقام كل عامين. يعكس ذلك المساهمة القوية للفنانات العربيات في قطاع الثقافة العربي، وشهية الجمهور البريطاني المفتوحة لعمل جديد. تقول جوليانا: “هناك تغيير كبير في العالم، وأعتقد بأن النساء الملونات يأتين في المقدمة”.
أشاد النقاد بألبوم بعل، فوصفته (bido lito!) 1 بأنه “غاية في الروعة”، وكتبت (The National) 2 أنه “مزيج رائع من الألحان العربية التقليدية، والإلكترونيكا 3، والروك، والهيب هوب”، وقالت محطة (Resonance FM) 4: “بلاغة غنائية تنساب بجمال يضاهي جمال صوتها”. تشعر جوليانا بالفخر الشديد بسبب هذه الإشادة، لكنها قررت الابتعاد مبدئياً عن القيام بالجولات وعن وسائل الإعلام. “قد يبدو الأمر جنونياً للبعض، لكنني أردت فقط إنتاج الألبوم وإصداره ومن ثم متابعة ما سيحدث”.
“لدي إيمان كامل بأننا أغلبية. نحن نعيش في عالم يخبرنا أننا لا ننتمي بسبب أولئك الذين في السلطة. أنا أوجه كل طاقاتي لإظهار أنني الأغلبية”
في ذلك الوقت، كانت أشياء أخرى تحدث في حياة جوليانا، وكانت تحتاج إلى التركيز من أجل كتابة أغانيها. تزوجت من زوجها فرانشيسكو، مهندس حاسوب إيطالي، وقضت وقتاً في العلاج، مما ساعدها على تصويب مسار العمل الإبداعي. “تعلمت عدم اللجوء إلى إجبار الذات على الإلهام – فهو يأتي على شكل موجات – عندما تنضب الأفكار، آخذ فترة من الراحة، وهذا جزء أساسي من العملية”.
غالباً ما يأتي الإلهام في وقت متأخر من الليل. “كنت أعتقد أنه قلق وأرق. أما الآن فأنا أرى أنه وقتي للإبداع، وأرى طاقة التوتر تلك على حقيقتها – الحماس”.
كان فوزها في أيار/مايو 2017 بمنحة “نساء يصنعن الموسيقى” التي تمنحها مؤسسة (PRS) 5 بمثابة الحافز لبدء تسجيل ألبوم. “في خطوة جريئة مدفوعة بالإيمان بقدراتي، وهو ما لم يكن من عادتي، تقدمت للمنحة وحصلت عليها”. كانت تلك هي الدفعة التي احتاجتها للتطور من مجرد القيام بالعروض الثنائية الصغيرة مع عازف الجيتار الذي لازمها لفترة طويلة ألكسيس كرانيو، وبدء إحياء الحفلات لجمهور أوسع.
شارك حمزة أرناؤوط، منتج فلسطيني أردني من فرقة السبعة وأربعين (47Soul)، في إنتاج الألبوم. “لم أفكر في كيفية تلقي الناس للألبوم أو إذا كان سيعجبهم. أصدرته من أجلي أنا”. تغير ذلك بمجرد إصدار الألبوم. “بعد إصداره، لن يكون ملكك، بل لكل من يسمعه”.
الحياة في لندن
بالنسبة لجوليانا، كل شيء يجب أن يوحي بالأصالة. بانتقالها إلى لندن في 2010، بدأت بالعمل في مجال موسيقى الجاز بينما كانت تؤدي أغانيها الخاصة في أوقات الفراغ. جاء الإلهام من كل مكان، ملكة لبنان الروحية أم كلثوم، وكاتبة الأغاني المطربة جوليا بطرس، وعظماء موتاون 6. مثل أريثا فرانكلين وراي تشارلز، والثنائي الإلكتروني الكندي (A Tribe Called Red)، والمغنية التونسية آمال المثلوثي، والموسيقي الأيرلندي Hozier، وفرقة السبعة وأربعين، وكثيرون غيرهم. تقول جوليانا إن العامل المشترك فيما بينهم هو صوت “حقيقي وخام – موسيقى لا تُصنع لصالح نطاق رأسمالي استعماري أو ضمن حدوده”.
تجنبت دوائر الموسيقى العالمية، رافضة أن توصف بأنها مُهمَّشة أو من الأقليات. بل على العكس من ذلك، تقول: “لدي إيمان كامل بأننا أغلبية. نحن نعيش في عالم يخبرنا أننا لا ننتمي بسبب أولئك الذين في السلطة. أنا أوجه كل طاقاتي لإظهار أنني الأغلبية”.
الحياة في لندن مليئة بالتحديات، لكن التنوع الثقافي فيها يُثريها بشكل دائم. “بغض النظر عن مقدار التعب الذي يصيبني هنا، لم أستطع العيش في مكان ليس به هذا التنوع – الفن، والموسيقى، والفعاليات، والنوادي الليلية، والطعام والأشخاص، من جميع أنحاء العالم”.
كما شهدت لندن أكبر عروضها حتى الآن. في الصيف الماضي، غنّت في العديد من الفعاليات في أرجاء بريطانيا، بما فيها مهرجان ليفربول للفنون العربية ومهرجان شباك، حيث غنّت لأول مرة في مسرح مكشوف. كان المطر يتساقط طوال اليوم، وبينما كانت جوليانا تقوم بطقوس الإحماء، توقف هطول المطر وسطعت الشمس من بين الغيوم. “تمكنت من رؤية وجوه الحاضرين، ورؤية تعابيرهم. عادة ما أغني في أماكن مغلقة، حيث يغطي الظلام الجمهور، كان ذلك تحدياً رائعاً”.
يُشكل اختيار الملابس لها وللفرقة جزءاً كبيراً من عملها. تُصمم جوليانا الملابس التي ترتديها على خشبة المسرح لخلق مظهر “مذهل”. يجمع مظهرها بين طابع نيو جيرسي الساحلي مع عناصر من جذورها العربية. “أحب أن تكون قوية – أشعر أنني ملكة المسرح في زي قوي”. أثناء جلسة التصوير مع ماي كالي في باريس، أخرجت بعض القطع من خزانتها الخاصة لتخلطها مع الملابس التي اختارها منسقي الملابس لدينا. حتى أثناء التقاط الصور، فإن مظهر جوليانا يُعبر عنها، حيث تصفف شعرها بنفسها وتحافظ على مظهرها الخالي من المكياج. “يجب أن تُعبر عني، إذا لم تكن كذلك، لن أرتديها”.
قد يبدو الأمر وكأن جوليانا تتخذ موقفاً صارماً – وهي تفعل ذلك، كثيراً – لكن خلال المقابلة التي استمرت ثلاث ساعات، تُضفي أجواء دافئة ومرحة ومنفتحة، وتتحدث عن تحديات ملاحقة مشوارها الموسيقي رغم رفض عائلتها، وشكوكها بقدراتها الفنية التي تتقن إخفاءها بداخلها في أغلب الأحيان. بالنسبة لها، الموسيقى رسالة بقدر ما هي مسؤولية. “أؤمن بأن غاية مقدسة تتمثل بقبولي هذه الموهبة وتسخيرها للوقوف في وجه الاضطهاد والاستبداد وجعل العالم مكاناً أفضل. آمل أن أكون على قدر هذه المسؤولية”.
ستكون جوليانا حاضرة في Electric Ballroom ، كامدن – لندن الأحد ، 01 مارس 2020 الساعة 7:00 مساءً مع فرقة كايروكي المصرية. للمزيد من المعلومات حول الحدث (بالانجليزي) هنا
يمكنم الاستماع لجولينا على Anghami و Spotify
يمكنم متابعة جولينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي Instagram, Twitter, Facebook