بقلم الكاتبة العابرة جندرياً مهى محمد
تدقيق: مايا أنور
العمل الفني للفنانة العابرة نور الجندي


في خضم مواجهة رتابة الواقع اليومية المعتادة، معركة البقاء التي تتكرر كل يوم، وجدت فجأة رسالة صوتية غريبة تصلني عبر وسائل التواصل المعتادة. رسالة منفعلة مفعمة بمشاعر مختلطة من الأمل والفرحة والدهشة وعدم التصديق، من صديقتي ورفيقتي الصغيرة “ملك”، تقول لي: “يا مهى. شفتي اللي حصل؟ هشام سليم دلوقتي على التلفزيون بيقول إنه عنده ابن ترانس. وبيقول إنه متقبله وبيدعمه. أنا مش مصدقة!”. ملك، لو أنك متابع لقضية العابرين/ات جندرياً في مصر فبالتأكيد أنت تعرفها جيداً، “ملك الكاشف”، تلك الفتاة العابرة الصغيرة التي تتحدى الواقع بشجاعة نادرة، الفتاة التي لطالما ساهم الجميع في تعذيبها لمجرد ما هي عليه، وكان أولهم أهلها. مثلما يقوم معظم أبائنا بتعذيبنا نحن العابرين/ات.

هرولت داخل جهازي كي أرى ما الذي تتحدث عنه ملك بالضبط!. هشام سليم! الممثل! عنده ابن ترانس! وبيتكلم عنه في التلفزيون! إيه ده!. وجدت فيديو لجزء من حوار تلفزيوني يبدو أنه كان يُذاع منذ قليل على إحدى القنوات الفضائية، تجريه المخرجة الكبيرة “إيناس الدغيدي” مع الممثل المصري الكبير “هشام سليم”، تسأله فيه عن ابنته “نورا”، فيؤكد لها بثقه بأنها أصبحت الآن “ابنه نور”، واستمر في التحدث عن ابنه وفي الدفاع عنه وعن هويته بشجاعة، مؤكداً أن هذا هو دوره وواجبه كأب!. كانت صدمة لي أنا أيضاً، فلا يعلم أحد ما يمكن أن يعنيه هذا لأشخاص مثلي ومثل “ملك”. لقد وجدنا فجأة ممثلاً مشهوراً يعلن أمام الجميع أنه واحد من ضمن أهلنا، يتشارك معهم نفس العار المتمثل في ابن أو ابنة عابر/ة جندرياً، يدافع عن هذا العار بشجاعة وثبات، ويقدم لهم/ن نموذجاً لما كان يجب عليهم/ن أن يفعلوه جميعاً، ويضعهم/ن في مواجهة الحقيقة الأشد إيلاماً على الإطلاق، وهي أنهم/ن قد تخلوا عن ابنائهم/ن!، وأنهم/ن ربما لو كانوا قد تقبلونا ودافعوا عنا مثل هذا الأب، لما كنا صرنا في عداد المرضى، ولا كنا صرنا في عداد المنبوذين/ات، أو المشردين/ات أو اللاجئين/ات. أنا على يقين أن آبائنا وأمهاتنا لن يستطيعوا النوم هذه الليلة.

وبالفعل، دارت في نفس الليلة محادثة نادرة بيني وبين أمي هي الأولى ربما من نوعها منذ غادرت مصر منذ أكثر من عام، هاربة لاجئة لدولة أجنبية غريبة لتحميني فيما تبقى من حياتي، تبادلنا أنا وأمي ليلتها البكاء، والمشاعر الحزينة الجارفة المرتبكة، كانت هي تبكي من شعورها بالذنب، وكنت أنا أبكي من هول ما يحدث. شعرت وقتها بامتنان حقيقي وعميق للرجل، ربما هو نفسه لا يدرك حجم ما فعله.

في نفس الليلة وماتلاها، بدأ جدل واسع ينتشر، بدأ أولاً بين أوساط العابرين/ات، ثم انتشر ربما للفضاء العام بأكمله، لأن العديدين/ات ومن بينهم/ن الكثير من النساء العابرات يعتقدن أن هذا الدعم الذي رأيناه من الأب لابنه كان فقط لأنه عبر من أنثى إلى ذكر، وأنه لو كان العكس، فتاة عابرة من الذكورة للأنوثة، لما تلقت من والدها هذا الدعم والاعتناء، وبالطبع هو افتراض لا يخلو من الوجاهة على الإطلاق، صحيح أننا جميعاً نتشارك نفس المعاناة والألم، وأن العابرون الذكور يعانون أيضاً من مشاكل عديدة، عميقة ومؤلمة وشديدة التعقيد، لكن بالطبع فإن فرص قبولهم في مجتمعنا أكبر من فرص قبول النساء العابرات، فنحن في مجتمع يرى في الذكورة في حد ذاتها قيمة عُليا، فالعابرون الذكور ارتفعوا في نظر المجتمع إلى درجة أعلى بينما تهبط النساء العابرات في نظره درجات إلى الأسفل في سُلم المجتمع والإنسانية بأكملها، هبوط يراه الكثيرون بمثابة “السخط”، الذكورة امتياز، وفي مجتمعنا تعد امتيازاً بالغ الضخامة، يجعل حياة النساء عموماً شديدة الصعوبة، ويجعل من حياة النساء العابرات أمراً شبه مستحيل. ولكن الرجل في الحقيقة لم يقل على الإطلاق ما قد يشير إلى ذلك، على العكس تماماً، بدا متعاطفاً ومدافعاً عن الجميع عندما قال مثلاً للمحاورة: “ربنا يكون في عون كل ولد وكل بنت عندهم المشكلة دي، ويكون في عون أهاليهم”. وفي خضم هذا الجدل وجدنا البرنامج الحواري “جعفر توك” يعلن عن حوار يذاع مساءً للأب وابنه معاً، ترقّبت الحوار بشدة وترقّبه الجميع، وكان السؤال الأهم الذي انتظرت شخصياً إجابته “هل حقاً يدعم هشام ابنه نور لأنه صار ذكراً؟”

على مدار اليوم بدأ البرنامج بنشر مقتطفات من الحوار على صفحات التواصل الاجتماعي، تابعها الجميع بشغف. وبدا وكأننا جميعاً ننتظر حدثاً هاماً. بدأ الحوار في المساء لطيفاً مبهجاً، مفعماً بالحب والمشاعر الصادقة، بدا لي نور كواحد من إخوتي، أستطيع بسهولة أن أشعر به، استطيع فهم مشاعره الجارفة المختلطة كذلك، وبدا والده كأب ودود محب، رغم التجهم والجدية الذان يشوبان تعبيرات وجهه طوال الوقت، بدا لطيفاً، داعماً ومحباً لابنه. بذل المحاور قصارى جهده في جمع كل الأسئلة التي تدور في أذهان الناس، بعض الردود جاءت مرتبكة يبدو منها عدم استيعابهما معاً للموقف بالكامل بعد، بينما كانت بعض الردود الأخرى حاسمة وقاطعة، حتى وصل المحاور إلى السؤال الذي كنت انتظره بشغف وتنتظره الكثيرات معي “هل لو كان العكس، كانت فتاة عابرة من الذكورة للأنوثة هل كنت ستقبل الأمر؟”. بدا الأب مرتبكاً لا يعرف تحديداً ماذا يقول، وخرج منه في النهاية كلاماً كان محبطاً لي وللكثيرات مثلي، فقد حمد الله أنه ليس لديه “ابن عايز يقلب أنثى”، ورغم تأكيده على أننا متساوين إلا أنه أكد في نفس الوقت على أنه رجل تربى تربية شرقية كانت ستؤثر بالتأكيد على موقفه، فالذكور “سابقين بخطوة” على حد قوله. فبدا لنا وكأنه يقول لأهلنا: لا تقبلوهن، إنتوا موضوعكم مختلف، هذا الدعم للذكور فقط.

لا أستطيع أن أعلم حقيقةً إن كان هذا ما قصده بالفعل أم أنه أخطأ التعبير فحسب، لكن في النهاية، كان رده مؤلماً لي وللكثيرات غيري. وبالتأكيد كان وقعُه كذلك على آبائنا، أعلم أن أمي تشاهده الآن، وأعلم أن هذه الإجابة وحدها قد محت أي تأثير فعله الحوار السابق، وربما صار الأمر أسوأ. بدا أن الافتراض الذي لم يكن مقنعاً بالأمس لي بات صحيحاً، وسيطر عليّ ذلك الشعور بـ “طلعتنا عاشر دور ورمتنا من فوق”، إيه اللي إنت قلته ده يا عم هشام؟! حرام عليك والله!

ولأنني لا أستطيع حقاً أن أجزم إن كان هذا ما قصده بالفعل أم لا، ولأنني لازلت أُقدّر بشده ما فعله وأُدرك أهميته فأنني لا أملك سوى الحديث إليه مباشرة: فيا عم هشام، لقد تورطت معنا وتورطنا معك واللي كان كان، فإن كنت تقصد بالفعل أن هذا الدعم قاصر على الذكور فقط، فأنت تهدم حقاً ما فعلته، بل وربما تجعل الأمر أسوأ من ذي قبل بالنسبة إلينا، وسوف تنضم بذلك مع الأسف إلى قائمة مضطهدينا (التي تشمل معظم الناس) وسوف نضطر آسفين للدعاء عليك بدلاً من الدعاء لك. أما إن كنت فقط – كما أرجو – قد خانك التعبير، فأرجوك، أن تلتزم بالنصيحة التي وجهتها لابنك، أن تفكر جيداً في الإجابات، فإن تأثيرها قد يمتد لأبعد مما تتصور. وأنا أخاطبك بلقب العم لأنك في جميع الأحوال قد صرت الآن واحداً من أهالينا، فابنك بمثابة أخ لنا، وبالتالي فأنت بمثابة عم، ومثلما قلت لنور “أنا أبوك غصب عنك” فأنت الآن صرت عماً لنا غصب عنك برضه، وصار لديك بالتالي مسؤولية ما تجاهنا في كل ما تقول.. شفت؟!.. مصيبة!!

هذا المقال بالتعاون مع موقع ترانسات