بقلم ريم محمود
العمل الفني:
لينا أ.
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا

احتكر الرجال عبر التاريخ كل ميادين الثقافة وتكوين الفكر الإنساني. احتكروه لأنفسهم وطردوا النساء والأشخاص الذين ينتمون لهويات جنسية وجندرية غير نمطية منه. كان الإقصاء شديداً إلى الحد الذي نعلم كل عقد عن كاتبات نساء اختبئن خلف أسماء رجالية ليتمكن من حجز مكان لأنفسهن في العالم الذي جعلوه الرجال عالمهم الخاص، على سبيل المثال لا الحصر: ماي آن إيفانز التي اختارت اسم جورج إيليوت، أمانتين أورو لوسيل دوبين تحت اسم جورج ساند وغيرهن.

كل ما حولنا مفسَّر عبر الرجال ومن خلال عيون الرجال. نقرأ ونفهم عنه بأبجدية خطّتها أقلام رجالية. كل ما يحيط بنا سمّاه، فسّره، حللّه، شرحه رجل ما وفق تجربته ووفق عالمه الذي هو عالم الرجال، وقدمه للبشرية على أنه الإرث الإنساني. 

عندما نقرأ عن المعاناة، فأغلب النصوص كتبوها رجال. عندما نريد أن نشاهد فيلماً عن تشتت الهوية وتعقيدها، فكل ما هو متاح عن هذا الموضوع مخطوط بيد رجل. حتى معاناة المرأة كانت لحد قريب تحكى بألسنة رجال.

نعيش كنساء تغريبة عميقة مع ذواتنا نظراً لقصور الأدوات المتاحة لنا لفهم عالمنا وما يحيط بنا عن ملائمتها لما يمكن أن نختبره. أصبحنا غير قادرات على فهم أنفسنا لعدم قدرة كل الرجال الذين كتبوا عن عجزهم على فهم المرأة على فهمنا. كأن تكون على جزيرة وتنظر إلى ما يوجد بها من خلال انعكاس لمنظار موجود على جزيرة أخرى. كل ما يحيط بك قريب منك، واضح وسهل الرؤية. ولكن أحد لم يعلمك كيف ترى الأشياء كما هي. كيف ترى بعينيك المجردتين دون الاستعانة بالمنظار على تلك الجزيرة.

هل تقصدين أن علينا حذف مساهمات الرجال للوصول لصيغة ملائمة للجميع؟ لا، ولكن علينا فقط أن نسمع من الآخرين من صاحبات التجربة. أن نفسح لهم/ن فرصة لإفراغ مكنونات صدورهن/م. 


في النتاج الإنساني
كمثال على ما سبق، قرأت ذات مرة رواية شرفة العار للأديب إبراهيم نصر 2010. تحكي الرواية عن فتاة تتعرض للاغتصاب وتواجه عائلتها والمجتمع. عجز قلم إبراهيم نصر الله بالرغم من إبداعه في الإضاءة على قصة من آلاف قصص الانتهاك الجنسي المخبئة خلف الجدران. عجز عن نقل تجربة المرأة نفسها، أحاسيسها، مخاوفها، آمالها وكل ما يدور أو قد يدور في ذهن امرأة قد تتعرض لانتهاك جنسي لتجد نفسها وحيدة بين لهيب ألسنة المجتمع. كيف ستشعر؟ كيف سيدرك رجل لم يختبر يوماً مخافة أن يلحق به آخر بالطريق، أن يقذفه بكلمات عن جسده وتفاصيله، أن يتجرأ غريب على لمس جسده. كيف له أن يدرك معاناة المرأة مع الانتهاكات اليومية لجسدها؟ أنّى لرواية عن الاغتصاب أن تكون كاملة وهي لم تكتب بقلم امرأة اختبرت على الأقل مرارة الانتهاك الجنسي؟ هل ما أقوله يعني أنني لا أريد للرجال أن يساهموا بما يقدرون عليه بطرح قضايا إنسانية كقضية المرأة؟ بالطبع لا، ولكن أريد أن نسمع أكثر من النساء عن قضاياهن، أن نولي أهمية لمخاوفهن، أن نفهم بعمق أشد ماذا يعني أن تكون امرأة. وهذا سيجبرنا على الاستماع للنساء، وإلى إيلاء الاهتمام الأكبر لنتاجهن، لنتمكن من فهم أوجاعهن وآمالهن في الحياة. لأن المادة التي تحدثت عن الاغتصاب بقيت منقوصة، ينقصها ما يمكن أن تسهم به صاحبة العلاقة. وها نحن ذا كنساء قبل الرجال نقرأ عن تجاربنا الخاصة من وجهة نظر الرجل، وفق ما يشعر وما يمكنه أن يرى. سيما وأن الموضوع حساس للغاية، قد يصعب على أي امرأة الخوض فيه دون التعرض لضغوطات اجتماعية، ها نحن نجد رجلا يكتب بأقل الضغوطات الممكنة عن موضوع لا يمكن لامرأة الخوض فيه دون متاعب.

في مدراسنا، أغلب الأدب عموماً كان مكتوب بأقلام رجال. في مكاتبنا أغلب الكتب التي توجد هي لرجال. وعلى التلفاز أغلب ما نشاهده كتبوه ونفذوه رجال. لندرك أن التجربة الإنسانية بأكملها نتعلم عنها كنساء وفق للرجال، الرجال فقط.

نكبر ونحن نرى عالمنا، انعكاس فقط لما يراه الرجال. 

“المرأة عدوة المرأة” جملة شائعة جداً يحاول البعض من خلالها أن يجيب ببساطة وسطحية عن سبب معاناة المرأة في مجتمعنا. لا أعلم من قائل هذه الجملة الشائعة ولكن ما أنا متأكدة منه أن القائل رجل.

حتى في تفسير سبب اضطهاد المرأة
“المرأة عدوة المرأة” جملة شائعة جداً يحاول البعض من خلالها أن يجيب ببساطة وسطحية عن سبب معاناة المرأة في مجتمعنا. لا أعلم من قائل هذه الجملة الشائعة ولكن ما أنا متأكدة منه أن القائل رجل. تأتي هذه الجملة لتؤكد بمنتهى البساطة ما أحاول قوله من خلال هذا المقال. التغريبة العميقة التي نعيشها لدرجة تجعلنا نتجاهل كل الإسهامات النسائية في سبيل تطورنا وما أكثرها، ونركز على ما فعلته بعض النساء في سبيل عرقلة طريقنا أو إلحاق الأذى بنا. ما حجم التغريبة التي نعيشها لنصدق ما يظنه الرجال أكثر مما نصدق تجاربنا الخاصة؟ 

الرجل حاول من خلال “المرأة عدوة المرأة” أن يلصق تهمة اضطهاد المرأة بها نفسها. أن يحملها العبء الثقيل الذي هو قهرها. هو شكل من أشكال لوم الضحية الذي عادة ما يمارسه الرجال، وأن يظهر نفسه كصديق للمرأة وصديق فقط. وليس من الغريب أن تجد الرجال يرددون تلك الجملة، فليس من مصلحة الرجل أن يعترف بكونه جزء من المشكلة أو المشكلة كلها إذا ما أردنا أن نعود للتاريخ. ولكن الغريب أن تجد نساء أنفسهن يرددن هذه الجملة. لتصبح الأم بمنعها ابنتها من العمل أو العودة ليلاً (وهي أصلاً تنفذ بذلك ما تمت أدلجتها عليه، تلك الإيديولوجية الأبوية التي وضعها الرجال) أخطر على المرأة من الأب الذي يقتل ابنته بدم بارد. لتصبح أخطر من كل الرجال الذين يقتلون، يغتصبون، يتحرشون كل يوم في العالم.

فكثيرات منّا يصدقن أن المرأة هي عدوة المرأة، لأننا اعتدنا على تصديق كل ما يقوله الرجال. لأنه ولمدة طويلة لم تكن المرأة قادرة على الحديث كما أفعل أنا الآن بمنصات عامة عن مشاكلها، فاقتصر كل طرح لها على سطحية ما قد يعتقده الرجل، وعلى كل ما يمكن أن يصبّ بمصلحته.

خجل المرأة من الحديث عن مشاكلها الخاصة
كتبت في إحدى المرات منشوراً عن التحرش الذي نتعرض له كل يوم في وسائل النقل العامة. ليأتيني تعليق من صديقة تتهمني فيه بالمبالغة. تحكي فيه عن همها الذي ينحصر بشكل أساسي بالعثور على مقعد فارغ في منتصف نهار يوم مزدحم. شعرت أن جزءا كبيرا من كون إسكات صوت المرأة عند الحديث عن مشاكلها، هو لكون تلك المشاكل جزء خاص من حياة المرأة لم يعايشه أو يتحدث عنه بكثرة رجل. فأصبحت هذه المشاكل مشكوك بأمرها. يكذبها المجتمع أو بأحسن الأحوال يعتبرها مجرد مبالغة. 

ليست بقليلة المرات التي سمعت فيها نساء يرغبن بالتدوين أو إنشاء قناة على يوتيوب يتحدثن عن عدم رغبتهن بالتطرق لمشاكل المرأة. كي لا يحصر محتواهن بكونه محتوى نسائي. أصبح التحدث والتطرق لمشاكل المرأة الخاصة التي تواجهها دوناً عن الرجل تهمة. فالشرعية الوحيدة التي نستقيها في عالمنا هي شرعية نستمدها من مشكلات نشترك بها مع الرجال. وباقي ما تبقى من المشكلات التي نختبرها وحدنا كنساء تبقى طي الكتمان أو البوح الخجول الذي يرمى بسهام الشك والشفقة واعتبار الأمر برمته مبالغة.

كتبت هذه المادة على نية أن تكون نسمة تغير سلوك البعض أو نظرتهم، كما غيرت في سلوكي أنا ودفعتني لأختار قائمة كتبي الأدبية كلها في العام القادم على أن تكون مخطوطة بأقلام نسائية. ليس لأنني لا أستمتع بما يكتبه الرجال من أدب، ولكن لكوني أتوق لعام وحيد يكون استثناء عن كل ما سبق في حياتي. أن أسمع تجارب النساء وأرى كيف تشاطرني امرأة أخرى تجربتي الإنسانية ، كيف ترى  العالم والحزن والفقد والطموح والجمال والمتعة والخوف.