الحوار بقلم: سامي عبد الباقي
ترجمة: هبة مصطفى
تصوير: جيان زاندي
مساعد الصورة: سلمى سليمان
العمل الفني: محمد موصلي
تلبيس: هوشیدار مرتضایی (تراشي x هوشیدار مرتضایی)

تصميم الغلاف: عاطف دغليس
هذا المقال من ملف ‘إنشالله بكرا’ – هيكل العدد هنا

يتفاعل جوان يوسف، وقد ولد في سوريا ونشأ في السويد ويقيم في لندن، مع موضوعات الهوية باستمرار في فنه. يصف جوان نفسه بأنه مهاجر عالمي فهو مهاجر في كل بلد عاش به، ويتناول فنه – الذي يركز في معظمه على الفئات المهمشة ويستلهم منها – موضوعي الهوية والانتماء، ويضع جوان سردية وصيغة جديدة للقصص والصور التي يُطلَب منا تصديقها مستمدًا إلهامه من عوالمه الداخلية والخارجية ومن تجاربه بصفته شخصًا كويريًا ومن حبه لزوجه وأطفاله.

وعمله الفني مفاهيمي (تصوري) وعابر للحدود، مثله، ويجمع بين العوالم التي تتجاوز حدود الإنتاج الفني التقليدي ويحقق التوازن بين ما هو تقليدي وما هو غير تقليدي، وجوان لا يقدم الصورة الكاملة في فنه أبدًا؛ فهو يقدم تلميحات أو آثار قد تقود المرء، مثل تتبع أثر من فتات الخبز، إلى معنى/معاني العمل أو تؤدي به إلى الاستمرار في البحث. يبسط جوان في مشروعه Object (غرض) (2014) قطعًا من إطارات قماش الرسم دون تغطية المنطقة بأكملها لتصبح في النهاية أعمالًا فنية غير مكتملة، وربما يمكننا رؤية عمله باعتباره مرجعية ذاتية فجوان، مثل لوحاته، يشعر بأكبر قدر من الارتياح بين الدول والهويات، قريب بما يكفي من العديد منها لكن دون أن يكون محدودًا بأحدها.

هناك العديد من الجوانب التي تثري شخصية جوان – جنسانيته وآرائه الدينية ونشأته وتراثه – وكلها تنعكس في ممارسته الفنية وتخلق أعمالًا فنية صادقة، وليس هذا فحسب؛ فهو أب وزوج وفنان وأحد أيقونات منصة إنستغرام ، وببساطة يفعل جوان الأشياء بصورة مختلفة في عالم نتعرض فيه على الدوام لضغوط لنجد أنفسنا ومكاننا به، وبعد بحث طويل عن مكان ينتمي إليه يخلق لنفسه واحدًا.

تصوير جيان زاندي. العمل الفني: محمد موصلي

مرحبًا جوان! من المثير أن تنضم إلينا في العدد الجديد، فأنا أعلم أن هناك الكثير من الكويرين/ات العرب المتحمسين/ات لهذا الأمر، فما شعورك بأن تكون لديك قاعدة كبيرة من المتابعين/ات الكويرين/ات العرب ممن يتطلعون إليك؟
صدقًا، الأمر خيالي؛ فقد نشأت في السويد معظم حياتي وأن يكون لدي قاعدة من المجتمع الكويري العربي أمر لم أكن لأتخيله أبدًا ويشعرني بالفخر الشديد، بل ونداء صحوة رائع من تراثي، وهناك إحساس بالفخر ينبع من انتمائي لسوريا ومن قدرتي على أن أمثل نوعًا ما فئة مهمشة لطالما كانت حاضرة في الثقافة لكن على نحو خفي ومختلف.

هلاّ أخبرتنا قليلًا عن نشأتك بصفتك شخص سوري كويري؟
أتذكر طفولتي باعتزاز، وأنا ولدت في سوريا وهاجرت مع أسرتي إلى السويد في الثمانينيات عندما كنت في الثانية من عمري، وكان زواج والديّ غير تقليدي في سوريا فأمي مسيحية وأبي مسلم، ومهّد هذا لتربيتي تربية منفتحة وغير تقليدية في السويد. بقينا عربًا حتى النخاع لكن والديّ كانا حريصين على الاندماج في المجتمع السويدي، وكنا محاطين بالعديد من الأقارب ولهذا كان لأسرتنا أصدقاء مقربون انتقلوا إلى السويد من القامشلي مسقط رأس والديّ.

وكانت لدي، بصفتي طفلًا كويريًا، مساحة آمنة مع أسرتي وأصدقائي وفي المدرسة. كنت “أنثويًا” وتعرضت للمضايقة “المعتادة” من الأطفال الآخرين لكني تلقيت الدعم بوجه عام ولم أتعرض للتنمر لأنني كنت “مختلفًا”؛ فقد كان والديّ منفتحين للغاية وكانا يلعبان معي بالعرائس دون أن يشعراني بأي طريقة بأني بي “خطب” ما.

أعتقد أنني قمت بكل الأشياء بطريقة مختلفة عندما كنت طفلًا؛ فكنت دائمًا ما أرسم وأعزف الساكسفون وألعب بالعرائس وأرقص مع الفتيات وأحيانًا أرتدي ملابس الفتيات؛ فقد كنت أحب ارتداء الفساتين، ومن الناحية الثقافية – بوصفي سوريًا – أعتقد أنني كنت محظوظًا لأنني لم أنشأ في ظل الضغط الذي يتسبب فيه الأقارب المقربون وتدخلاتهم كما هو معتاد في الثقافة العربية، وللأمر حسناته وسيئاته؛ فأحيانًا ما يقدم ذلك دعمًا هائلًا للمرء وأحيانًا ما يتسبب في انهياره، وبالنظر إلى الماضي، أنا سعيد نوعًا ما أننا لم نكن مقربين للغاية من أقاربنا لكنني سعيد الآن لإعادة التواصل معهم بصفتي شخص بالغ وناضج.

هل زرت سوريا بعد أن غادرتها أسرتك؟
لدي الكثير من أفراد العائلة في القامشلي وحلب ودمشق، وقد اعتدت زيارتهم من سنة لأخرى حتى بلغت الرابعة عشرة ولهذا لدي ذكريات كثيرة من هذه الفترة، وفي كل مرة كان الأمر بمثابة زيارة رسمية للبلاد فكنا ننتقل من عائلة لأخرى لنزور الجميع ونبقى لشهر أو شهرين.

وأنا لم أزر سوريا منذ سنوات المراهقة فلم تتح لي فرصة العودة، وعندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري وأعيش في لندن راودتني رغبة شديدة في الذهاب إلى سوريا فقد كنت ناضجًا بطريقة ما، ثم اندلعت الحرب ومات حلمي بزيارتها للأسف، لكنه لم يمت تمامًا فلا تزال لدي رغبة شديدة في العودة وزيارة دمشق لأنني لم أزرها أبدًا لكنني زرت كثير من المناطق الشمالية في سوريا.

كما أريد لأسرتي أن ترى سوريا، فقد كنت جالسًا في أحد الأيام مع زوجي (ريكي مارتن) نتحدث عن دمشق ونضع خططًا حالمة لاصطحاب أسرتنا إلى هناك واستكشاف سوريا، وهناك العديد من المناطق المذهلة التي لا أريد لأسرتي أن تراها فحسب بل أريد أن أعيد استكشافها أنا أيضًا.

“ندما بحت لأمي بكويريتي عندما كنت في العشرين تقبلت الأمر لكن تمثل حزنها الوحيد في أنه لن يكون “لديها أحفاد

جوان يوسف

تصوير جيان زاندي. العمل الفني: محمد موصلي

لاحظت أنك لا تخجل من الحديث عن جذورك العربية، فكيف يظهر هذا الجزء من هويتك في حياتك اليومية على الرغم من أنك عشت في أماكن كثيرة حول العالم؟
أعتقد أنني لم أبتعد في سن صغيرة عن بلدي فحسب، بل عن عائلتي أيضًا؛ فلم نكن بعيدًا عن بلدنا فحسب بل عن عائلتنا هناك أيضًا، وهناك رغبة عارمة بداخلي لتكوين إحساس بالهوية يتمحور حول تراثي، وأنا شخص سويدي من نواحٍ كثيرة لكن في صميمي دائمًا ما أعود إلى عروبتي، ولم يكن هذا أمر أردت تجنبه أو حاولت ذلك، كما أركز في تربيتي لأطفالي على اللغة العربية عوضًا عن الإنكليزية أو السويدية، فقد علّمت ابنتي كيفية العد من واحد إلى عشرة باللغة العربية وهذا أمر رائع فهي لا تزال في الثانية من عمرها فحسب، وأنا أشعر بعروبتي على قدر بعدي عن سوريا ويتجلى هذا في مظهري وتصرفاتي وحديثي، وتنبع هذه الأشياء من جوهر مصدره والديّ، فقد كنا أسرة مندمجة للغاية في المجتمع السويدي لكن سلوكياتنا كانت سورية إلى حد بعيد، وأعتقد أن زوجي تزوجني لأنني رجل عربي، فأقوى صفاتي هو أنني أنا من أنا.

استكمالًا لهذه النقطة، كيف تؤثر الهوية/الأمكنة على فنك بصفتك فنانًا كرديًا/أرمنيًا/سويدي النشأة وسوري المولد وتقيم في لندن ولوس أنجلوس؟
كنت مهاجرًا طوال حياتي، وبالطبع تؤثر الأماكن المختلفة على عملي إلى حد بعيد، وكان انتقالي من ستوكهولم إلى لندن نقلة كبيرة في ممارستي الفنية لأنني وجدت تنوعًا أكبر في الفنانين واكتشفت اكتشافات جديدة أثرت على تجاربي مع الكويرية، فقد كانت لندن بمثابة ملاذ ولم تكن هناك حدود للاحتمالات، إلا أن الوقت الذي قضيته هناك تجاوز تغيير ممارستي الفنية فقد تمكنت من ترسيخ دوري بصفتي فنانًا وكيانًا في عالم الفن، وتعلمت من انتقالي إلى لوس أنجلوس التفكير بصورة أشمل؛ فالمساحات بها أكبر والأيام أطول والأنشطة اليومية أقل ضغطًا بكثير – وهذا في حد ذاته يفتح الاحتمالات لشكل فني مختلف، وجربت أكثر وتوسعت نحو أعمال التركيب وبدأت التفكير خارج إطار الرسم القماشي على نطاق أوسع بكثير فجمعت بين النحت والرسم والأغراض “جاهزة الصنع”، فأصبحت ممارستي الفنية ممارسة متكيفة للغاية تعكس المكان الذي أوجد به في جميع الأوقات.

غالبًا ما تعمل باستخدام وسائل ومواد مختلفة تنأى عن الطرق الشائعة والراسخة لإبداع الأعمال الفنية، فهلاّ أخبرتنا المزيد عن ممارستك الفنية؟
أحب أن أفكر في رسمي على أنه أحد أشكال التعبير عن ذاتي بالرسم، وعلى الرغم من أنني رسام في الصميم فأنا أجد صعوبة في تبرير الرسم في شكله البحت، وفي هذا الاحتكاك أجد نفسي وممارستي، ودائمًا ما أفكر في كيفية ارتباط جسدي بالمادة الفنية التي أعمل بها – هذا هو جوهر كل عمل أقوم به – وغالبًا ما أميل إلى الوقوع في فقاعة من التعقيد وأحد أشكال التصوير، وأحيانًا أحب التفكير في الدور الذي ألعبه في إبداع العمل الفني بصفتي رسامًا للصور دقيقة التفاصيل يفحص الخطوط والحدود التي تخلق أي صورة: الإدراك والدلالات والمعنى والذاكرة والقوة.

تصوير جيان زاندي. العمل الفني: محمد موصلي

من أين تستمد إلهامك؟
يدفعني عملي بصفتي فنانًا وتجربتي بوصفي رجلًا كويريًا إلى البحث عن الصور والمعاني التي يفرضها المجتمع على المواد والأشياء والأشخاص وإعادة التفكير بها، وأنا أستمد إلهامي من العالم اليومي سواء كان ذلك يتمثل في إعادة التفكير في أحد الصور التصويرية أو حتى التسلسل الهرمي للمواد الفنية، الأمر الذي يعطي مادة عادية وموجودة في كل مكان، كشريط لاصق دورًا مختلفًا في القطعة الفنية، وأنا أحب السلوكيات المتكررة سواء كانت تصرفًا ينبع من الإلزام أو الطقوس أو مجرد التذكر؛ فالمعاودة والتكرار هما ما يحركان عملي للإنتاج في حد ذاته، وغالبًا ما أعيد استخدام صوري السابقة في حلقة، وقد يصعب تحديد ماهية الفروق الدقيقة المثيرة التي تدفعني إلى تكرار صورة لكن ذلك غالبًا ما يتجلى في صورة أعثر عليها أو حركة جسدية بسيطة –  ويوجهني هذا لإبداع هذه الرسومات، وأنا أحب إعادة تدوير الصور واستمداد التفاصيل من لقطة شاشة أو صورة تم التقاطها بالفعل وتكبيرها وتحويل تركيزها، وهناك الكثير من الأشياء التي أستمد إلهامي منها وغالبًا ما تكون أشياء عادية ومبتذلة تصبح في موقف متراكب شيئًا جديرًا بالاهتمام: قطعة فنية.

[جوان عضو مؤسس أيضًا لمؤسسة Bomb Factory Art Foundation الفنية في لندن، وهي مؤسسة غير ربحية تهدف إلى دعم الفنانين من خلال توفير ستوديوهات بأسعار معقولة ومساحة عرض وتعاون بين الأقران وتوفر للمؤسسات الثقافية التعليمية مساحة لإشراك الأشخاص من مختلف الأعمار والخلفيات في مشاهدة الفن وإبداعه].

هلا حدثتنا عن سبب تأسيسك لمؤسسة Bomb Factory Art Foundation وكيفية تلبيتها لاحتياجات مجتمع الفن في لندن؟
احتجت إلى ستوديوهات بأسعار معقولة للعمل فيها وعثر صديقي وزميلي “بالاس سيترن” على مصنع مهجور للقنابل على الطراز الفيكتوري في أرتشواي بلندن فقررنا ترميمه وتحويله إلى استوديو ومؤسسة فنية، وكانت الفكرة وراء ذلك هي الجمع بين فنانين بارزين وفنانين صاعدين وخلق نقاش حيوي في هذه المساحة، وأنا فخور للغاية بما حققناه وبما تمكن البرنامج من فعله خلال الأعوام الماضية.

هل تعتقد أنك ستغامر بالدخول في عالم الفن الرقمي يومًا ما؟
نعم، لكني لست متأكد من الشكل الذي سيكون عليه ذلك على وجه التحديد، فلطالما كنت رسامًا لكني انتقلت من الرسم إلى النحت وأعمال التركيب وهذا كله في إطار الشكل المفاهيمي للفن، وأثناء دراستي للبكالوريوس كنت أقوم بعمل فيديوهات فنية وقمت بعمل قطع رقمية عُرِضَت كمقاطع فيديو إلى جانب الرسم، وأتذكر أنه كان عليّ إقناع نفسي في أيامي الأولى كرسام لمَ لا يزال الرسم أمرًا وثيق الصلة ولمَ لم يزل أي شكل من أشكال هامًا في حين أنه يمكنك التعبير عنه بطرق مختلفة، ومع كل الأشكال الرقمية التي تظهر اليوم يصبح من الصعب جعل هذه الأشكال الفنية صالحة، لكن سيكون من الجنون تجاهل أحد الأشكال الفنية لقبول شكل آخر، فالأمر في الحقيقة لا يمثل هذا النوع من التحدي.

أتذكر عندما زرت بينالي البندقية منذ خمسة أو ستة أعوام وكان هناك عرض قمر صناعي ضخم في أحد أحواض بناء السفن عبر البينالي يعرض فيه عشرة فنانون فنونًا رقمية بحتة. كانت تجربة جنونية، فقد ضمت أعمالًا فنية رقمية ومقاطع فيديو مذهلة، وأتذكر أني دخلت هذا المعرض وأنا أفكر: “مذهل، أشعر وكأن البينالي الذي دخلته للتو ينتمي للماضي وهذا المعرض للحاضر”. لم أستطع توصيف المعرض لكني شعرت أنه أمر ذي صلة، ولم يكن تمثيليًا للغاية لكنه غير مقبول بعد، وبعبارة أخرى ما زال يبدو طليعيًا وأعتقد أن الفنان ينبغي أن يكون طليعيًا على الدوام.

وببساطة، أعتقد أنه يستحيل عدم تجربة الفنون الرقمية حاليًا لاسيما في ظل الجائحة التي نعيشها حيث أصبحت التجارب الفنية الرقمية الوجهة التي يتوجه إليها الناس، وهذا يظهر أيضًا الحاجة إلى عرض الفن وتوصيله للناس، فأين سيعرض الفنانون أعمالهم إذا لم يكن لديهم مكان أو متحف أو معرض محدد؟ والمجال الرقمي هو المكان الأكثر بروزًا الآن، وببطء تصبح مفهوم المجلة أو الكتالوج أو الغرض أمرًا لا داع له؛ فجميع منصات التواصل الاجتماعي تعتمد على التعبير الرقمي.

بالحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي أنت نشط للغاية ودائمًا ما تتواصل مع جمهورك، فهل يؤثر هذا بفعالية على عملك؟
مواقع التواصل الاجتماعي طريقة رائعة بالنسبة لي للتواصل مع كافة جوانب هويتي بوصفي فنانًا، وهذا أمر مضحك ففي الماضي كان من الصعب التعرف على وجه فنان/رسام بل وكنت أتعرف على قلة قليلة من الفنانين من وجوههم، والآن تتيح لنا مواقع التواصل الاجتماعي التواصل مع الفنانين وتعقيدات هوياتهم بطريقة مختلفة – وخلفياتهم الشخصية وأمكنتهم وسياساتهم وسياقاتهم وستوديوهاتهم وجميع جوانب الحياة التي لا يتم عرضها على جدران المعارض، وهي تزيل الغموض عن شخصية الفنان وتحافظ على صدق عملهم وتتيح الفرص للفنانين ومجتمعات الفنانين الذين كانت تُعتبَر “دخيلة”، واليوم أعتقد أن التعرف على فنان عن طريق ممارسته الفنية وهويته/ا كإنسان/ة قد تغير جزئيًا بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، هذا فضلًا عن كونها أداة رائعة أتواصل من خلالها مع جمهور لا تربطه صلة بعالم الفن بالضرورة، والأمر أشبه بدمقرطة ما كان ليبدو لولا ذلك مجموعة مغلقة، وما يفهمه المرء أيضًا أن الفن المفاهيمي (التصوري) ليس مفهومًا على الدوام لدى الجمهور العام، وعن طريق هذه المنصة أدرك أنني أعمل في خط عمل جديد جدًا وأنه قد يحتاج في بعض الأحيان إلى ترجمة، وأحيانًا أحتاج إلى ترجمته لنفسي لأتمكن من التعبير عنه.

تصوير جيان زاندي. العمل الفني: محمد موصلي

بالانتقال إلى الحديث عن الجوانب الشخصية، هلاّ أخبرتنا بالمزيد عن علاقتك الجميلة ب “ريكي مارتن”؟ كيف بدأت؟
ريكي يجمع التحف الفنية وفي أحد الأيام راسلني عبر منصة إنستغرام بخصوص قطعة فنية صنعتها ليعرف المزيد عنها. كان الأمر سرياليًا وأشبه بنسخة عصرية من إحدى روايات “جاين أوستن”. قضينا ستة أشهر نتحدث الفن والحياة والإبداع والموسيقى فحسب ولم نتحدث عن الجنس إلا بعد أن تقابلنا، وعندما التقينا بعد ستة أشهر من التحدث وتعلم الكثير عن بعضنا كان الأمر أشبه بلقاء توءم الروح، كان اللقاء كلاسيكيًا للغاية حيث تبادلنا الخطابات لستة أشهر. لست شخصًا رومانسيًا بطبيعتي لكن هذا أمر رومانسي جدًا.

لديكما الآن أربعة أطفال، فهل سبق لك أن تخيلت نفسك أبًا؟
نعم، ربما ليس أبًا لأربعة أطفال لكني طالما أردت أن أكون أبًا، وعندما بحت لأمي بكويريتي عندما كنت في العشرين تقبلت الأمر لكن تمثل حزنها الوحيد في أنه لن يكون لديها أحفاد، فشرحت لها أن الأمرين مختلفين تمامًا، فلطالما فكرت في التبني أو الاستعانة بأم بديلة واعتقدت أنني سأكون أبًا رائعًا.

أن يكون لديك أطفال أمرًا يشبه بالحلم، وأنا زوج أب لطفلين جميلين وأب لطفلين ومنزلنا سوري بالكامل. أصبحت زوج أب في الثلاثين من عمري ويبدو هذه السن سنًا صغيرة إلا أنني كنت مستعدًا للأمر نوعًا ما، ومع أطفالي أشعر وكأنني كبرت عشرين عامًا خلال العامين السابقين، والأبوة أفضل شيء في العالم وعلى المرء أن يرغب فيها حقًا أو يتخلى عن الفكرة.

هل كان من الصعب عليك دخول حياة زوجك نظرًا للظروف وأسلوب حياته؟
الأمر قفزة كبيرة، فأسلوب الحياة هذا استثنائي للغاية من نواح كثيرة وله محاسنه ومساوئه، وبالنسبة للمشاهير يتعلق الأمر أكثر بالتعامل مع المجتمع العام، لكني أعتقد أننا حافظنا على خصوصية علاقتنا لفترة طويلة جدًا ومنحنا أنفسنا الفرصة لمعرفة بعضنا قبل أن ينتشر الخبر، لكن الحقيقة أننا أمهلنا علاقتنا الوقت، ومنحت نفسي الوقت للاعتياد على هذه الحياة العامة للغاية. كانت تجربة جارفة لكنها كانت هادئة أيضًا بالحديث عن الجانب الجيد منها، وليس الأمر جنونيًا كما يبدو.

ماذا عن أسرتك؟ كيف تقبلت أسرتك علاقتكما؟
عرف والديّ بأمرها قبل أن يعرف الجمهور بفترة طويلة، وكانت أكبر صدمة لهما عندما أعلنا  خطبتنا في برنامج “إلين ديجينيريس” وعرفا بالأمر على قناتي إم بي سي وإل بي سي وكل وسائل الإعلام العربية وكانا داعمين للغاية، ورحب بعض من أبناء أعمامي/أخوالي وعماتي/خالاتي وأعمامي/أخوالي بالأمر.

تصوير جيان زاندي. العمل الفني: محمد موصلي 

كيف كان الأمر بالنسبة لأسرتك عندما التقوا بزوجك ريكي لأول مرة؟
سافرت أنا وريكي إلى ستوكهولم وكان هذا في المراحل الأولى من علاقتنا، ورتبنا لقضاء يوم كامل في منزل أسرتي وكانت تجربة جميلة للغاية كغيرها من اللقاءات التي تتم بين أي أسرة وشريك/ة أحد أبنائها، وكان الأمر مرحًا ولطيفًا وأخرقًا، وفي الحقيقة ريكي بورتوريكي وأنا عربي وأسرتينا متشابهتين للغاية: صوتنا عال وصخبين وقريبين من بعضنا، وسارت الأمور على ما يرام.

أن تكون كويريًا/ة أمرًا قد يتقبله العديد من الأسر لكن أن تكون هذه الكويرية علنية قصة أخرى، فهل دار حديث بشأن ذلك بينك وبين أسرتك؟
أعتقد أن هذا الأمر أكبر مصدر للخوف في الثقافة العربية، ويمكن للأسرة احتواء معظم الأشياء وتقبلها لكن هناك خوف دائم من العائلة والأصدقاء، وكان على والديّ إجراء مناقشات كثيرة مع عائلتيهما لكن عليّ القول بأنها لم تكن تجربة سيئة إجمالًا على الرغم من أنه كان من الممكن أن يتخذ الأمر منحنى سيئًا أو يصبح أكثر تعقيدًا، وقد تأثرت للغاية بموقف عائلتي الممتدة في سوريا والسويد وأمريكا وفي جميع أنحاء العالم، فقد تقبلوا جميعهم زواجي بطرق مختلفة، وقد تخيلت حدوث الأسوأ لكنهم أظهروا أفضل ما فيهم، وأريد أن أعبر عن تقديري لهم على ما فعلوه فقد فتحوا عيوني لفهم أن تقبل الآخرين يتجاوز المكان الذي أعيش فيه أو الذي جئت منه فيمكنك أن تجده في أي مكان، فهو ظاهرة عالمية، فأينما وُجد الحب وُجد التقبل، فقد رأيت أشخاصًا كنت أعتقد أنهم محافظون للغاية يتقبلونني أنا وزوجي بأجمل طريقة وهذا ما يجعلني أكثر سعادة وفخرًا بأنني سوري، وأنا على علم تام بالحالات التي تختلف عن حالتي وهي تشكل الغالبية العظمى من الحالات؛ فلدي أصدقاء رائعون يتعاملون مع مشكلات أكبر من المشكلات التي واجهتني وأصدقاء اضطروا للهجرة لدولة أخرى لينجوا بحياتهم/ن، وهناك جوانب رائعة وأخرى سيئة للشهرة وأنا سعيد للغاية بأن تجربتي كانت إيجابية حتى الآن.

أثرت الجائحة على الأسر والفنانين حول العالم بالإيجاب أو السلب، ويبدو أنها تتيح الفرصة لإبداع المزيد أو الإبداع بصورة مختلفة أو الاسترخاء لبعض الوقت، فكيف أثرت الجائحة على عملك؟
بسبب النطاق غير المسبوق للمأساة العالمية للجائحة وحدتها، قررت التوقف عن العمل لبضعة أشهر لأخذ هذه الإجازة الاضطرارية والتوقف والتفكر، وكان ذلك وقتًا رائعًا لإعادة تقييم أولوياتي والتركيز على نفسي وعلى أسرتي عوضًا عن عملي، ثم بدأ العمل والأفكار في التدفق وأصبحت – لأسباب واضحة – أكثر “وعيًا بالأسطح”، وفي الواقع أنا أعمل على عمل جديد على دراية كبيرة بالأسطح.

وعلى الرغم من أنه لا يوجد شيء مؤكد هذه الأيام، فأنا أشعر بالأمل والتفاؤل بالمستقبل، وأنا متحمس لما سيأتي وكيف ستختلف علاقتنا بالفن والأشياء في المستقبل، وسيكون من الجنوني ألا يكون هناك تحول كبير في ممارستي الفنية بعد هذه الجائحة، وآمل ألا نترك نحن الفنانون هذا الأمر يمر مرور الكرام وأن نطبق دروس القرب والبعد والمجتمع والتلامس والعناية بالآخرين هذه في عملنا وأن نكتشف قدرتنا على استخدام الإبداع في التواصل مع بعضنا بطرق جديدة.

كيف تتخيل المشهد الفني بعد كوفيد-19 في ضوء موضوع العدد “إنشالله بكرا”؟
أتخيل أن الكثير سيتغير وأعتقد أن الكثير قد تغير بالفعل، وأرى أن هناك تحرك قوي للغاية باتجاه طريقة رقمية للتعامل مع الفنون، وأعتقد أن الحاجة إلى عرض العمل الإبداعي أقوى من أي حدود تفرضها الجائحة، وفي الواقع عقدت اجتماعات وأقمت علاقات تعاون افتراضية أكثر إنتاجية من أي وقت مضى وهذا يسرّع العمليات الإبداعية، وربما نعرض أعمالًا فنية أقل الآن إلا أن تدفق العمل زاد بالتأكيد وهذا أمر يبعث على الأمل بالنسبة لي، فما هو الفن إذا لم يكن أحد أشكال التواصل؟ وإذا كان التواصل خارج المتاحف أو المعارض ممكنًا فإن هذا هو ما يريده الفنان في نهاية المطاف.

ما هي مشروعاتك القادمة؟
أخطط لمشروعات وعلاقات تعاون أكبر في العام المقبل وحتى عام 2023 وهذا ما لم أفعله من قبل، أن أعمل وأتطلع إلى جدول زمني بعيد، وإنه لأمر رائع أن يكون لديك الكثير من الوقت للاستعداد، ولدي الفضول لرؤية الكيفية التي سيتطور بها عملي، لكن أقرب مشروع سيكون عرض أعمالي الفنية في معرض Bomb Factory in London في لندن الخريف القادم على افتراض وأمل أن يتحسن الوضع في وجود كوفيد.

ما الذي يجعلك متفائلًا بالمستقبل؟
أطفالي. أنظر في عيونهم وأتخيل مقدار الطاقة الموجودة في داخلهم والدور الذي سألعبه في طريقهم لتغيي العالم وهذا ما يمنحني الأمل.