بقلم: كرار احمد
العمل الفني: لينا أ.
هذا المقال من ملف ‘يا ليل يا عين’ – هيكل العدد هنا

الرقص الفارسي، لون في الفنون الشرقية قد تمت صياغته خلال آلاف السنين من تأريخ الممالك والامبراطوريات في فارس، وأحد دعائم الثقافة الفارسية المتأصلة في المجتمع، والتي بدورها تجد طريقًا للوجود البارز رغم المنع الذي تفرضه حكومة الثورة الإسلامية، وهي الحكومة التي تشكلت بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخميني عام ١٩٧٩، وبالنسبة لهذه الأمة، كان وما يزال الرقص دائمًا ظاهرة اجتماعية مهمة حتى في أشد الأوقات صعوبة.

ما أن تعرف الرقص الفارسي، سيكون من الصعب ألا تنغمس باكتشافه أكثر وتتبع تاريخه الغني بالكثير من التحولات، وبحسب موقع الغرفة الثقافية الإيراني يقول الكاتب “نيما كيان” بأصل فن الرقص الفارسي كشكل فني مستقل ومميز إلى زمن بداية ظهور العقيدة الميثرائية، أما تمتعت فارس القديمة بمرونة من حيث الأدوار التقليدية للجنسين من ناحية الرقص، لم يقتصر بلاط الملوك على رقص النساء فحسب بل الذكور أيضًا، حيث كان هنالك راقصون رجال وفتيان.

في هذا المقال سيتتبع الكاتب أهم التحولات على الرقص الفارسي منذ الفترة القاجارية إلى اليوم مرورا بالفترة البهلوية، وما إذا تأثر فن الرقص بالسياسات الحكومية، و/أو أثر فيها؟

الحقبة القاجارية
تأثر الرقص الفارسي الحالي بالحقبة القاجارية كثيرا، والقاجار هم سلالة من الملوك حكموا بلاد فارس منذ ١٧٧٩-١٩٢٥، فقد زرعت بذور الرقص الكلاسيكي الفارسي الحديث خلال حكم هذه السلالة وتحديدا في عهد الملك «فتح علي شاه» الذي كرس قدرًا كبيرًا من الخزنة الملكية لدعم جميع أشكال الفنون، بما في ذلك الرقص. ما يميز الرقص الفارسي هو تركيزه على التعبير الحسّي بواسطة الوجه واليدين، فإن لم يوجد تعبير عن المشاعر في الرقصة فلا يمكن أن تعد رقصةً بالأسلوب الفارسي الحقيقي، حيث يركز الراقصين/ات على تعبيرات الوجه المتنوعة بواسطة الفم والحاجبين بشكل مستقل، مع حركات الأصابع الدقيقة والكتف التي تتناسق بشكل مدهش، يراقب الجمهور أثارة الراقص/ة بنظرات غنجية وتعبيرات عن مشاعر الافتخار والفرح والضحك والشهوانية والحزن، كأن هنالك لوحة يتم إعدادها بواسطة الجزء العلوي للجسد.
استطاعت سلالة قاجار، وهي سلالة من الملوك حكمت في بلاد فارس لما يقارب القرنين، أن تجعل الرقص ظاهرة اجتماعية رائجة أكثر من الممالك السابقة لها، التي حكمت جغرافيا ايران، هنالك رسوم توضيحية عن مجالس الرقص الفارسي، يحتفي بها الإيرانيون اليوم كشكل فني معاصر عن الحياة الإيرانية بين الحداثة والإرث الحضاري للبلد، لذا من الممكن أن تجد هذه اللوحات في الجداريات وعلى الملابس وحتى في رمزيات الاحتجاج السياسي.

العمل الفني: لينا أ. صمم هذا العمل الفني والمبني من دعوات حقيقية في مخيمات اللجوء باللغة الهولندية

عهد بهلوي
بعد نهاية العهد القاجاري وصعود سلالة بهلوي إلى الحكم، تركز توجه البلاد ناحية الفنون الغربية بشكل منهجي، حيث أراد الملك “محمد رضا بهلوي” نجل مؤسس الدولة البهلوية، أن يوجه البلد قمعيًا نحو شكل “اكثر حداثة” عبر فرض العمارة وشكل الحياة الأوربية على المجتمع الأيراني، انتقل حينها التركيز المحلي من الراقصين بالفساتين ذات الأكمام الطويلة إلى الباليه الكلاسيكي، وذلك صنع بداية تصميم الرقصات المستوحاة من الثقافة الفارسية، منذ أواخر العشرينات بدأت مدارس الباليه في الظهور وتدريب الشباب الإيرانيين على الرقصات، وفي أوائل الأربعينيات من القرن الماضي كانت نيلا كرم كوك، ذات المعرفة الواسعة بالثقافات الشرقية، تعمل في وزارة التربية والتعليم والدعاية في إيران كمدير عام لقسم الفنون، وبسبب تعلقها بالثقافة الإيرانية شكلت في عام  ١٩٤٧فرقة رقص من أجل تصميم رقص مستوحى من الأدب الإيراني والشعر والتقاليد الفولكلورية، عبر أسلوب رقص تم تصميمه ليتضمن ويحكي قصص وأساطير شعبية، أطلقت اسم “إحياء الفنون الإيرانية القديمة” على الشركة التي بدأتها مع راقصين إيرانيين شبان، أول شركة باليه محترفة في إيران والتي نشطت حتى عام ١٩٥٣ في جولات وطنية ودولية معظمها في الشرق الأوسط. تمتعت البلاد بمقبولية بما يخص الرقص للرجال شمل ذلك البرامج الحكومية واللقاءات حتى انتهى ذلك بصعود المحافظين إلى الحكم، ورغم قلة الاهتمام الحكومي بالرقصات الشعبية، تطوير نوع جديد من الرقص الترفيهي في منتصف القرن السابق عُرف بأن له جذور في تقاليد مملكة قاجار اتخذ شكلا مرتجلا ومنفردا، لم تكن لتلك الرقصة قيمة فنية إلا بعد ظهورها باستمرار في السينما الإيرانية حيث أصبحت أكثر شيوعًا، مما طورها لأنماط متعددة من الرقص مثل رقصة “باباكرم”.

بعد وصول الثورة الإسلامية إلى السلطة، تم اعتبار الرقص خطيئة يعاقب عليها الفرد، وتمَّ حل الفرق الراقصة وهاجر أعضائها إلى خارج البلاد، حيث تصل عقوبة الرقص في الأماكن العامة أو نشره إلى السجن لعدة أشهر، ودفع الغرامات المالية والجلد بالسياط، ثم إن تعليم الرقص محظورٌ في إيران.

تسببت الثورة الإسلامية بهجرة جماعية للراقصين الإيرانيين إلى مختلف أنحاء العالم خوفًا من النظام، ولأن الرقص سيبقى حاضرًا حتى في أشد الأزمات، بقي الشتات الإيراني من المهتمين بالرقص يطورون رقصاتهم وتم إيصال بعضها إلى داخل إيران، منهم الراقص محمد خرداديان، الذي أحدث ثورة في الرقص الفارسي من الخارج بواسطة أشرطة الفيديو المهربة إلى داخل إيران، حيث عرفته كل عائلة إيرانية وتم تداول مشاهد رقصهمن منزل لآخر بهدف تعلم الرقص، في الوقت الذي اتخذت فيه حكومة البلاد شكلا صارما من الرقابة، وذلك أعاد التشكيك بالأدوار التقليدية للجنسين التي يصر عليها النظام الإيراني، تعرض خردادیان «المقيم في لوس انجلوس» للاعتقال بعد عودته إلى إيران في زيارة عائلية بعد أكثر من عشرين سنة على رحيله من إيران، قضى فيها ٢١ يومًا في الحبس الانفرادي و٤٠ يومًا في سجن إيفين سيء الصيت، أدين خرداديان بتهمة “الترويج للفساد بين الشباب” من خلال شرائط الفيديو الخاصة بالرقص، تم تعليق عقوبته بالسجن ل١٠ سنوات فيما بعد لكنه منع من إعطاء دروس الرقص مدى الحياة، هذا يظهر مدى صرامة النظام الإيراني في فرض القيود الاجتماعية على الفنون.

“الرقص ليس جريمة!”
“رقصيدن جرم نيست” ويعني بالعربية “الرقص ليس جريمة”، أثار هذا الهاشتاق على تويتر موجة غضب بعد اعتقال “مائده هژبرى” الشابة المشهورة بمقاطع الرقص الخاصة بها على الأغاني الإيرانية والأجنبية، حيث أظهر التلفزيون الحكومي مائده بعد الإفراج عنها وهي تعتذر على “سوء أخلاقها” واقترافها فعل “مخل بالآداب” تعني به الرقص، في شكل من أشكال الدعاية الدينية التي تمارس في إيران لفرض السلطة وتأديب النساء، وفي عام ٢٠١٤ تم اعتقال سبعة شباب وفتيات بعد نشرهم فيديو رقص على أغنية “Happy”، وحكم عليهم بالسجن والجلد.

على تويتر شكَّلت فيديوهات التضامن مع مائده نوع من المقاومة التي تبديها الإيرانيات في الصراع مع الحكومة الأصولية، محاولة التشهير جاءت بنتيجة عكسية بالكامل وأصبحت تلك الفتاة وجه لحراك قضية الاعتقالات التعسفية التي تواجهها النساء الإيرانيات. 

انتشر تحدي الرقص في الشارع فيما بعد إلى باقي أنحاء العالم بواسطة الإيرانيين في الخارج والمتضامنين/ات معهم، في لندن صنع موظفو منظمة العفو الدولية فيديو خاص بهم لنشر الخبر، واستمر الإيرانيين/ات في الرقص ونشر الفيديوهات رغم المنع الحكومي. 

الرقص في زمن الكورونا
في الوقت العصيب الذي تواجهه معظم الدول مع انتشار الجائحة، كان الأمر أشد صعوبة على الممرضين والأطباء العاملين في المستشفيات، الخط الأول في مواجهة وباء لم يتوقف مع أعداد للإصابات وصفت بالكارثية في إيران، وإلى جانب عملهم الدؤوب في العناية بالمصابين استطاعت الطواقم الطبية صنع جو مختلف لمواجهة هذه الأزمة عبر الرقص وتقلل حدة الظروف النفسية التي يعيشونها، في هذه الفيديوهات القصيرة التي تداولت بكثرة على المواقع تظهر طواقم طبية وهم يرتدون الكمامات والقفازات ويرقصون على الأغاني، رجال ونساء يبعثون البسمة على وجوه من يراهم، حيث أبدى المغردون ردة فعل إيجابية في الغالب رغم وجود طيف من المعترضين.


الرقص الجماعي والانفرادي على تويتر اكتسح الرأي العام واجتاح كل منزل، وعلى النقيض من كيفية تعامل السلطات مع الرقص فالماضي، لم تفعل شيئا لهذه الشريحة هذه المرة كونها تشكل أهمية قصوى في التصدي لهذه الأزمة التي تعيشها البلاد، ولعدم تعرفهم على الأفراد بسبب الزي الواقي الخاص الذي يرتدونه.

تشكَّل الرقص الفارسي عبر حكومات متعاقبة أثرت وتأثرت فيه وأستمر الرقص بكونه فعل تحدي سياسي ينجو من أساليب القمع التي تفرض عليه، في كل “تحدي رقص” جديد تظهر لنا هذه الفيديوهات مالذي يمكن أن يعنيه الرقص، وأن هذا الفن لن ينتهي، بل سيتواجد دائما حتى في أكثر الأوقات ظلمة.