close

الفاشر.. مدينة أعدمها الصمت الدولي

أكثر من 2000 قتيل في يومين، وإعدامات ميدانية موثقة، وحصار خانق يهدد حياة الآلاف في الفاشر.. تقرير شامل يروي تفاصيل واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023.
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

تشهد مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور غربي السودان، منذ أيام، كارثة إنسانية غير مسبوقة عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، في واحدة من أكثر مراحل الصراع السوداني دموية وتعقيدًا منذ اندلاعه في أبريل 2023. خلال يومين فقط، في يومي السادس والعشرين والسابع والعشرين من أكتوبر الجاري، قُتل أكثر من ألفي مدني أعزل، بحسب تقارير حديثة، فيما تؤكد منظمات محلية ودولية أن ما يجري في المدينة يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وربما إلى إبادة جماعية جديدة في دارفور.

وتصف منظمات الإغاثة الوضع في الفاشر بأنه “حرج ومفتوح على الأسوأ”، تقول الأمم المتحدة إن المدينة محاصرة من جميع الاتجاهات، والطرق المؤدية إليها مقطوعة، فيما تتناقص الإمدادات الغذائية والطبية بسرعة. وتُقدر عدد النازحين بنحو 26 ألف شخص، بينما يعيش من تبقى داخل المدينة في ظروف شديدة القسوة تشمل الجوع ونقص المياه وانقطاع الكهرباء والخدمات الصحية. المستشفيات توقفت عن العمل تقريبًا، والكوادر الطبية تعمل في ظروف بدائية لإنقاذ الجرحى وسط انعدام الموارد والأمن.

وفي سياق متصل، أفادت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بأن المدنيين الفارين يواجهون مخاطر جسيمة أثناء محاولتهم الوصول إلى بر الأمان، إذ يتنقلون بين نقاط تفتيش تسيطر عليها جماعات مسلحة، ويتعرضون لعمليات ابتزاز واعتقال تعسفي ونهب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

وبحسب شهادات النازحين الوافدين إلى بلدة طويلة، الواقعة على بُعد نحو 50 كيلومتراً من الفاشر والتي وثقتها المفوضية، فإن الأزمة الإنسانية المتفاقمة في شمال دارفور تتخذ منحى أكثر خطورة، مع تزايد وتيرة العنف الجنسي ضد النساء والفتيات، وورود تقارير عن عمليات إعدام ميدانية مروعة داخل المدينة.

وتتوقع المفوضية تواصل موجات النزوح خلال الأيام المقبلة، بما في ذلك عبور الآلاف نحو الأراضي التشادية، حيث بدأت استعدادات مكثفة لاستقبال الفارين وتقديم المساعدات الطارئة لهم. مشددة على أن استهداف المدنيين يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي.

ومن جانبه، حذّر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان من أن الأوضاع في الفاشر باتت حرجة للغاية، مشيرًا إلى تزايد خطر ارتكاب انتهاكات وجرائم ذات طابع عرقي مع تصاعد العنف واتساع رقعة المواجهات في الإقليم. كذلك  أعلن الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، مقتل خمسة من متطوعيه في السودان أثناء تأدية مهامهم الإنسانية في بارا ولاية شمال كردفان. وذكر الاتحاد الدولي أن المتطوعين الخمسة قُتلوا في 27 أكتوبر بمدينة بارا أثناء توزيعهم الوجبات الغذائية في “التكايا”، وهم يرتدون السترات الرسمية المخصصة لحمايتهم ويحملون بطاقات هوية صادرة عن الفرع المحلي للاتحاد بينما ولا يزال ثلاثة متطوعين في عداد المفقودين.

ونقلت قناة العربية عن مسؤول حكومي، أن قوات الدعم السريع “قتلت أكثر من 700 مدني في الساعات الأولى لدخولها المدينة”، كما “أعدمت نحو 450 من المرضى والمصابين والكوادر الطبية في المستشفى السعودي”. وأشار المسؤول كذلك إلى تسجيل أكثر من 300 حالة اختطاف لأبناء عائلات ميسورة، جرى مساومة ذويهم على دفع فدية مالية مقابل الإفراج عنهم أو قتلهم. فيما وثّقت هيئة إنقاذ الطفولة الدولية مقتل 115 مدنيًا، بينهم 17 طفلًا، خلال الهجمات على المدينة، مؤكدة أن الأطفال يشكلون قرابة سدس إجمالي الضحايا المدنيين في الفاشر.

من جانبها، قالت شبكة أطباء السودان إن قوات الدعم السريع قامت خلال ثلاثة أيام بقتل ما يقارب 1500 مدني في المدينة، مضيفة، في بيان صحفي، الأربعاء، “أن جميع القتلى تمت تصفيتهم أثناء محاولتهم الخروج من المدينة هرباً من الاشتباكات”. وأوضحت أن “أكثر من 14 ألف مدني قتلوا في الفاشر منذ بدء حصار قوات الدعم السريع للمدينة في مايو 2024″، مشيرة إلى أن “المجازر التي يشاهدها العالم اليوم هي امتداد لما تم في الفاشر منذ أكثر من عام ونصف، حيث قُتل المدنيون بالقصف والتجويع والتصفيات، في ظل حصار مطبق وتجويع ممنهج واستهداف متعمد للمرافق المدنية والأسواق ومعسكرات النزوح”.

 

نوصي للقراءة: الهروب من ساحات القتال إلى تحدّيات الاستقرار: اللاجئين السودانيين في مصر وأزمة السكن


إعدامات ميدانية وسط تعتيم إعلامي

اندلع الصراع المسلح في السودان منتصف أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بعد شهور من التوترات المتصاعدة بين الطرفين، إثر فشل المفاوضات المتعلقة بدمج قوات الدعم السريع في الجيش وفقًا لاتفاق “الإطار السياسي” الموقع في ديسمبر 2022.

كان الاتفاق قد جمع المكوّن العسكري في السودان مع عدد من القوى المدنية، في مقدمتها تحالف قوى الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم سابقًا)، بهدف إيجاد مخرج للأزمة السياسية التي أعقبت انقلاب أكتوبر 2021، إلا أن الخلافات حول هيكل القيادة، وجدول دمج الدعم السريع، أججت لاحقًا الحرب الأوسع في تاريخ السودان الحديث.

بدأت المواجهات المباشرة بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023 بالعاصمة الخرطوم ومحيطها، قبل أن تمتد بسرعة إلى ولايات دارفور وكردفان ومناطق أخرى.
  وبحلول منتصف عام 2024، كانت قوات الدعم السريع قد أحكمت سيطرتها على معظم إقليم دارفور، بينما احتفظ الجيش السوداني بالسيطرة على مدن الشرق والشمال وميناء بورتسودان.

وعلى مدار الأيام الماضية، ومع إعلان قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر، انتشرت مقاطع مصوّرة وصور توثّق ما يحدث داخل المدينة، أظهرت مشاهد مروّعة لعمليات إعدام ميدانية جماعية نُفذت أمام الكاميرات، ما أثار حالة من الاستياء والغضب بين متابعي تطورات الصراع على منصات التواصل الاجتماعي.

وفي بيان لها، اتهمت القوة المشتركة المتحالفة مع الجيش السوداني قوات الدعم السريع بارتكاب ما وصفتها بـ”مجازر مروعة” في الفاشر، مؤكدة أن أكثر من ألفي مدني أعزل، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، قُتلوا خلال يومي 26 و27 أكتوبر. وأشارت القوة إلى أن صورًا ملتقطة بالأقمار الاصطناعية تدعم روايتها بشأن وقوع هذه الانتهاكات الواسعة بحق المدنيين.

وأكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، مساء الثلاثاء، أنها تلقت تقارير ميدانية توثق عمليات إعدام مروعة وأعمال عنف جنسي استهدفت نساءً وفتيات، ارتكبتها مجموعات مسلحة أثناء الهجمات الأخيرة على مدينة الفاشر. وأعربت المفوضية عن قلق بالغ إزاء تصاعد أعمال العنف الوحشية منذ سقوط المدينة بيد قوات الدعم السريع، مشيرة إلى أن السكان يعيشون في حالة خوف شديد بعد أكثر من 500 يوم من الحصار المتواصل الذي سبق الانهيار الأمني الكامل.

وفي السياق ذاته، كشف مختبر البحوث الإنسانية بجامعة ييل الأميركية، في تقرير مدعوم بصور الأقمار الاصطناعية ومقاطع فيديو ميدانية، عن وقوع عمليات قتل جماعي واسعة عقب سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر. وأشار التقرير إلى ما وصفه بـ “نمط ممنهج من التطهير العرقي المتعمّد” يستهدف الجماعات القبلية غير العربية، ولا سيما الفور والزغاوة والبارتي، في استمرار لسياسات العنف الإثني التي شهدها إقليم دارفور خلال موجات الصراع السابقة.

كذلك أعلنت تنسيقية لجان المقاومة في الفاشر ما وصفته بـ”سقوط المدينة” أمس الثلاثاء 28 أكتوبر، مؤكدة أن “آخر جندي مقاوم أطلق رصاصته الأخيرة في وجه الميليشيا داخل الفاشر قبل أن يستشهد واقفًا كما وُلد واقفًا، حارسًا للأرض التي أحبها حتى الرمق الأخير”.

 

نوصي للقراءة: كيف أثر خطاب الكراهية ضد السودانيين في النوبيين المصريين؟


كواليس اللحظات الأخيرة

يقول سيف الدين سليمان، – رئيس تحرير شبكة سودازول الإخبارية-، إن مدينة الفاشر تشهد منذ 26 أكتوبر معارك ضارية هي الأعنف منذ اندلاع الحرب، حيث شنّت قوات الدعم السريع هجومًا واسعًا، مستخدمة طائرات مسيّرة هجومية وصواريخ وأسلحة ثقيلة ضد المدنيين والمنازل السكنية، ما تسبب في دمار واسع وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا.

ويوضح سليمان في حديثه لـ”زاوية ثالثة” أن الهجوم الأخير انتهى باقتحام مقر الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش السوداني، والتي كانت “خالية تقريبًا من القوات”، بعد انسحاب الجيش إلى مناطق أخرى داخل المدينة. مشيرًا إلى أن الفاشر كانت تحت القصف اليومي لأكثر من عام ونصف، حيث كان يسقط على المدنيين مئات القذائف يوميًا، ما دفع السكان إلى حفر خنادق داخل المنازل للاحتماء من القصف الجوي والأرضي.

ويشير رئيس تحرير سودازول إلى أن قوات الدعم السريع نفّذت عمليات قتل جماعي بحق المدنيين الذين حاولوا الفرار، مؤكدًا أن “الكثير من هذه الجرائم تم توثيقها عبر مقاطع مصوّرة بثتها عناصر من الدعم السريع نفسها”، مضيفًا أن المدينة تعيش كارثة إنسانية مكتملة الأركان في ظل انقطاع الاتصالات وشحّ الغذاء والمياه.

في السياق ذاته، تقول نضال عجيب – الصحفية السودانية-، إن مدينة الفاشر أصبحت بالكامل تحت سيطرة قوات الدعم السريع بعد انسحاب الجيش السوداني والقوات المشتركة المتحالفة معه، مشيرة إلى أن الوضع داخل المدينة يلفّه تعتيم إعلامي تام، إذ توقفت خدمات الاتصال الفضائي (ستارلينك) فور دخول قوات الدعم السريع، مما جعل من المستحيل معرفة حقيقة ما يجري على الأرض.

وتضيف في حديثها لـ”زاوية ثالثة”، أن مجازر مروّعة ارتُكبت بحق المدنيين الذين ظلوا داخل المدينة ولم يتمكنوا من مغادرتها، مؤكدة أن الفيديوهات المتداولة على المنصات الرقمية تم تصويرها من قبل عناصر تابعة لقوات الدعم السريع نفسها، وهي توثّق فظائع وانتهاكات واسعة النطاق.

وتوضح عجيب أن الفاشر كانت تعيش تحت حصار خانق استمر نحو 12 شهرًا قبل سيطرة الدعم السريع، حيث تعرض السكان لتجويع ممنهج، واضطر كثيرون إلى أكل “الأمباز” (مخلفات الحبوب الزيتية المخصصة لتغذية الحيوانات) للبقاء على قيد الحياة. وأشارت إلى أن أي محاولات لتهريب الغذاء إلى المدينة كانت تُواجَه بالقتل أو الاعتقال من قبل عناصر الدعم السريع.

وتابعت: “خلال الأيام الماضية، تمكن عدد محدود من المدنيين من الفرار ليلًا إلى معسكر طويلة للنازحين، لكن كثيرين قُتلوا أثناء الهروب أو في الطريق. أما من وصلوا إلى معسكر طويلة، فبلغ عددهم نحو 2000 شخص بحسب تقديرات ميدانية، بينما يعاني المعسكر نفسه من نقص حاد في الغذاء والدواء والمياه النظيفة وسط تكدس يقارب نصف مليون نازح في ظروف إنسانية بالغة القسوة”.

وتوضح أن منظمة أطباء بلا حدود أعلنت وصولها إلى معسكر طويلة قبل يومين لتقديم الرعاية الطبية للناجين من الفاشر، مشيرة إلى أن كثيرًا منهم يعانون من صدمات نفسية حادة جراء مشاهد الحرب والمجازر.

 

نوصي للقراءة: الإفلات من الحرب في السودان لا يعني النجاة في مصر


اتهامات بالتطهير العرقي ومطالبات بتحركات دولية 

أدانت مؤسسة مانديلا للحقوق والديمقراطية ما وصفته بـ”الفظائع والانتهاكات الممنهجة” التي ترتكبها قوات الدعم السريع في مدينة الفاشر بشمال دارفور. وطالبت المؤسسة بـتحرك دولي عاجل لوقف الانتهاكات وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب.

وأوضحت المؤسسة في بيان لها بأن هناك تقرير موثقة وشهادات مصورة من داخل المدينة تشير إلى عمليات إعدام ميدانية طالت مدنيين وعسكريين بعد استسلامهم، إضافة إلى احتجاز المئات واستهداف السكان على أسس عرقية وقبلية، في انتهاك صارخ للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف التي تحظر الاعتداء على الأشخاص غير المشاركين مباشرة في الأعمال العدائية.

من جهتها تقول نضال عجيب الصحفية السودانية: “نحن أمام وضع إنساني مأساوي، واتفاق السلام وحده لا يكفي. المطلوب الآن وقف فوري لإطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية آمنة، ووقف جميع الأعمال العدائية، حتى يمكن إيصال المساعدات للمدنيين المنكوبين في دارفور وكردفان والمناطق الأخرى. السودان يعيش أزمة مركّبة ومعقدة للغاية، ولا توجد منطقة آمنة في البلاد حاليًا”.

في السياق، تقول نون كشكوش الناشطة الحقوقية السودانية، إن انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت في مدينة الفاشر فاقم من سوء الأوضاع الإنسانية، وجعل من الصعب توثيق الانتهاكات أو إيصال المساعدات إلى المدنيين المحاصرين.

وتضيف كشكوش في حديثها لـ “زاوية ثالثة” أن المنظمات الحقوقية وجهت منذ الإثنين 27 أكتوبر، نداءات عاجلة للمجتمع الدولي من أجل إلزام قوات الدعم السريع والقوات المتحالفة معها باحترام القانون الدولي الإنساني، وبخاصة المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف التي تُلزم الأطراف المتحاربة بحماية المدنيين وضمان سلامتهم.

وإلى جانب الممرات الآمنة، تطالب الناشطة الحقوقية بتوفير الحماية للعاملين في المجال الإنساني، مؤكدة أن هذه الحماية يجب أن تشمل أيضًا المتطوعين في “التكايا” وغرف الطوارئ الذين يقدمون خدمات إغاثية للمجتمع المحلي.

وتختتم كشكوش حديثها بالتشديد على ضرورة أن تسمح قوات الدعم السريع بدخول المساعدات الإنسانية بشكل فوري ومن دون قيود، محذّرة من أن استمرار الحصار وانقطاع الاتصالات يهددان حياة الآلاف في الفاشر ومحيطها.

تنص المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف لعام 1949، والموقع عليها السودان، على وجوب معاملة جميع الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية معاملة إنسانية، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين ألقوا أسلحتهم أو عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو أي سبب آخر.

وتحظر الاتفاقية بشكل قاطع الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، بما في ذلك القتل والتعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة، كما تحظر أخذ الرهائن أو إصدار أحكام أو تنفيذ عقوبات من دون محاكمة عادلة أمام محكمة قانونية تضمن جميع الحقوق القضائية الأساسية. وتُلزم أطراف النزاع بـجمع الجرحى والمرضى والعناية بهم، وتتيح للهيئات الإنسانية المحايدة، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تقديم خدماتها لمساعدة الضحايا.

وتُعتبر هذه المادة الحد الأدنى من القواعد التي لا يجوز انتهاكها في أي نزاع مسلح داخلي، إذ تؤكد أن الإنسانية لا تُستثنى في زمن الحرب، وأن احترام الكرامة الإنسانية واجب على جميع الأطراف، بصرف النظر عن طبيعة الصراع أو هوية المتقاتلين.

في السياق، دعا الحزب الشيوعي السوداني المجتمع الدولي إلى تحرك عاجل لوقف الحرب وفتح الممرات الإنسانية وإجراء تحقيقات مستقلة في جرائم الحرب، مطالبًا بفرض عقوبات سياسية واقتصادية ودبلوماسية على المتورطين في الانتهاكات، وحظر تصدير السلاح للأطراف المتحاربة. كما وجّه نداءً إلى القوى الديمقراطية والشعوب الحرة حول العالم للتضامن مع الشعب السوداني، وتحويل البيانات الشكلية إلى خطوات عملية لحماية المدنيين وتحقيق العدالة للضحايا.

ماذا يعني السيطرة على الفاشر؟

الصراع في دارفور ليس وليد اللحظة، بل له جذور تاريخية تعود إلى عام 2003، حين اندلعت المواجهات بين الحكومة السودانية وحركات التمرّد، وفي مقدمتها حركة تحرير السودان (SLA) وحركة العدالة والمساواة (JEM)، التي هاجمت مواقع حكومية احتجاجًا على ما وصفته بـ”التهميش السياسي والاقتصادي” للأقاليم الغربية وسكان دارفور من ذوي الأصول غير العربية.

وردّت الحكومة حينها بتسليح ودعم ميليشيات الجنجويد للتصدي للتمرد، لكنّ هذه الميليشيات ارتكبت انتهاكات واسعة بحق المدنيين، ما أدّى إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخ السودان الحديث. ورغم الجهود الدولية اللاحقة، بما في ذلك إنشاء البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي (يوناميد) منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فإن الصراع تعمّق ولم تُحقق جهود السلام اختراقًا حقيقيًا.

ومع اندلاع الحرب الأهلية الجديدة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (RSF) في أبريل 2023، عادت دارفور مجددًا إلى واجهة المشهد، لتتحول إلى أحد أكثر ميادين الصراع اشتعالًا في البلاد، حيث تجددت أنماط العنف العرقي والانتهاكات التي شهدها الإقليم قبل عقدين.

وتكتسب المدينة أهمية استراتيجية بالغة، كونها تشكل عمقًا ميدانيًا حيويًا لولايات كردفان والشمالية ونهر النيل، فضلًا عن موقعها الرابط بين السودان وشريط حدودي واسع يمتد إلى تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان. ويرى محللون أن إحكام الدعم السريع قبضته على الفاشر يزيد من خطر تفكك السودان جغرافيًا، ومن عودة النزاعات القبلية المسلحة التي عانت منها الإقليم لعقود.

ويعني سقوط الفاشر فعليًا أن قوات الدعم السريع باتت تفرض سيطرة شبه كاملة على الشريط الغربي للسودان من دارفور حتى كردفان، ما يمنحها تفوقًا ميدانيًا وقدرة أكبر على التحكم في خط الدفاع الغربي للبلاد وإعادة تموضع قواتها باتجاه الشمال والوسط -بحسب ما وصفت نضال عجيب الصحفية السودانية.

وفي ما يتعلق بتوازن القوى العسكرية، تقول نضال إن الفاشر كانت آخر معقل للجيش السوداني في إقليم دارفور، ومع سقوطها بات الإقليم بأكمله تحت سيطرة قوات الدعم السريع، باستثناء بعض الجيوب الصغيرة محدودة التأثير. وبذلك، باتت دارفور بالكامل تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ما يعني فعليًا سقوط آخر معاقل الجيش النظامي في إقليم الغرب.

وعن الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع، أكدت الصحفية السودانية أن قوات الدعم السريع تتلقى دعمًا مباشرًا من دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو أمر موثق في تقارير الأمم المتحدة.

وفي حديثه عن أهمية الفاشر الاستراتيجية، يقول سليمان إن السيطرة عليها تعني “إحكام القبضة على كامل إقليم دارفور وفتح طرق الإمداد نحو تشاد وليبيا، ما يتيح للدعم السريع تعزيز تسليحه وتموين قواته”، محذرًا من أن “سقوط المدينة بالكامل قد يفتح الطريق أمام تمدد المليشيا نحو الولاية الشمالية والخرطوم”.

وعن أهميتها الاقتصادية يقول سليمان، إن إقليم دارفور من أكثر مناطق السودان ثراءً بالموارد الطبيعية، إذ يضم نسبة كبيرة من الثروة الحيوانية والمعدنية في البلاد، ما يجعل السيطرة عليه ذات أهمية استراتيجية واقتصادية أيضًا، إذ أن الحروب القادمة اقتصادية وحروب المياه.

على مدار العامين الماضيين، وُجهت اتهامات متكررة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بدعم وتمويل قوات الدعم السريع، في خطوة يُعتقد أنها ساهمت في تأجيج الصراع المسلح داخل السودان وإطالة أمد الحرب الدائرة منذ أبريل 2023.

وأشارت تقارير صحفية وحقوقية، من بينها تقارير صادرة عن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة (مايو 2024)، إلى وجود شبهات “موثوقة” حول تورط أبوظبي في تزويد قوات الدعم السريع بالسلاح والمعدات عبر مسارات تمرّ من تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى. كما لفتت تلك التقارير إلى استخدام قوات الدعم السريع طائرات مسيّرة وصواريخ متطورة لم تكن ضمن ترسانتها قبل الحرب، ما يعزز فرضية الدعم الخارجي.

نشأت ميليشيات “الجنجويد”، والتي هي ذاتها قوات الدعم السريع  قبل حرب دارفور رسمياً عام 2003، وهي في الأساس ميليشيات عربية تنتمي إلى القبائل الرحّالة في إقليم دارفور، والتي تعمل في رعي الإبل والماشية. 

خلال عهد الرئيس عمر البشير، عمد إلى تسليح ودعم الجنجويد خلال عملية القمع ضد حركات التمرد التي ظهرت في دارفور بين 2002 و2003، والتي طالبت بإصلاحات دستورية وإعادة توزيع السلطة والثروة بين أقاليم السودان. وفق تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، تكشف وثائق حكومية أن قيادة البشير ساهمت في تجنيد وتسليح هذه الميليشيات ودعم عملياتها. 

ومع تراجع الحاجة لميليشيات خارجة عن الإطار الرسمي، أعيد تشكيل الجنجود، وأصبحت تعرف بـ قوات الدعم السريع (RSF) وتم إضفاء عليها صفة شبه نظامية ضمن هيكل أمن الدولة، تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search