close

خصخصة الصحة: مستثمر يفوز.. حكومة تربح ومواطنون خارج اللعبة

القانون 87 لسنة 2024 يفتح الباب لإسناد إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص، بعقود تصل إلى 15 عامًا مع مستثمرين محليين وأجانب.
Picture of رشا عمار

رشا عمار

تتجه وزارة الصحة المصرية لطرح نحو 40 منشأة صحية أمام القطاع الخاص خلال الأشهر القليلة المقبلة في سياق تنفيذ قانون منح إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص، تشمل بحسب مصادر حكومية، مستشفيات قائمة بالفعل في عدد من المحافظات، وعدد من المستشفيات قيد الإنشان بالمدن الجديدة، وذلك في خطوة أثارت جدلًا واسعًا بين الأوساط الطبية والمجتمعية، كونها تأتي في سياق توجه أوسع لتعزيز دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة، خاصة في ظل التحديات التمويلية التي تواجهها الدولة.

وبينما تقول الحكومة إنها تسعى من خلال هذه الخطوة إلى تحسين جودة الخدمات الصحية، وجذب استثمارات جديدة للقطاع، وتخفيف العبء المالي عن الموازنة العامة، تتصاعد المخاوف بين المواطنين، خاصة محدودي الدخل، من احتمال تراجع فرص الحصول على العلاج المجاني أو المدعوم، وارتفاع تكلفة الخدمات الصحية.

وتستند خطة الخصخصة الحكومية إلى القانون رقم 87 لسنة 2024 بشأن تنظيم منح التزام المرافق العامة للمنشآت الصحية، وهو التشريع الذي صدّق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في 23 يونيو 2024، وتم نشره في العدد 25 (مكرر) من الجريدة الرسمية ليصبح ساريًا، ويهدف هذا القانون إلى وضع إطار تشريعي منظم لآلية إسناد إنشاء وتشغيل وإدارة وتطوير المنشآت الصحية العامة إلى جهات من القطاع الخاص أو المستثمرين، عبر نظام الالتزام، الذي يُعد أحد أدوات الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتطوير الخدمات وتحسين كفاءتها.

ويتيح القانون للجهات المختصة إبرام عقود التزام مع شركات أو كيانات متخصصة لإنشاء وتشغيل المستشفيات العامة وتقديم خدمات الرعاية الصحية، مع وضع ضوابط صارمة لضمان جودة الخدمة والحفاظ على حقوق المرضى، إلى جانب التأكيد على استمرار الدولة في الإشراف والرقابة على تلك المنشآت.

وفي المقابل، استثنى القانون صراحةً من تطبيق أحكامه مراكز ووحدات الرعاية الصحية الأساسية، ومراكز صحة الأسرة، التي تمثل المستوى الأولي من تقديم خدمات الصحة العامة، لما لها من خصوصية وارتباط مباشر بالصحة الوقائية والخدمات المجتمعية الأساسية. كما استثنى القانون أنشطة عمليات الدم وتجميع البلازما، والتي تظل خاضعة لأحكام القانون رقم 8 لسنة 2021 المنظم لهذا القطاع الحساس، باستثناء ما يُعد من هذه الأنشطة خدمات مكملة تدخل ضمن إطار الالتزام وفقًا لتقدير السلطات المختصة.

وفي وقت سابق تقدّم المحامي والحقوقي خالد علي بدعوى قضائية أمام مجلس الدولة، طالب فيها بإلغاء القانون، ووقف العمل به لحين الفصل في دستوريته. واعتبر خالد علي في دعواه أن القانون يفتح الباب أمام خصخصة قطاع حيوي يمسّ الحق الدستوري في الصحة، وينطوي على مخاطر تهدد بإضعاف قدرة الفئات الفقيرة على الحصول على العلاج، مطالبًا بوقف كافة الإجراءات المتعلقة بطرح المستشفيات للقطاع الخاص إلى حين التأكد من مطابقة القانون لأحكام الدستور، خاصة فيما يتعلق بضمانات المساواة، وحق المواطنين في خدمات صحية ميسّرة وآمنة بعيدًا عن منطق الربحية.

 

نوصي للقراءة: من يتحمل مسؤولية معاناة مرضى مركز هرمل للأورام بعد الخصخصة؟

 من يعالج ملايين الفقراء؟

يتزامن الحديث عن تخصيص مستشفيات حكومية مع أرقام رسمية تشير إلى توسع ملحوظ في مظلة الخدمات الصحية المجانية خلال السنوات العشر الأخيرة، بالتزامن مع تصاعد الأزمات الاقتصادية، خاصة في إطار المبادرات الرئاسية ومنظومة التأمين الصحي الشامل، التي استهدفت بالأساس توسيع الخدمات الطبية المجانية للفقراء والمستحقين، ما يثير مخاوف حول مدى قدرة هذه الخطط على الاستمرار في ظل توجه الدولة نحو إسناد إدارة بعض المستشفيات للقطاع الخاص. فبحسب البيانات الحكومية، شهدت مصر بين عامي 2014 و2024 زيادة كبيرة في عدد المواطنين المستفيدين من الخدمات الصحية المجانية، ارتفع عدد المؤمن عليهم من 54 مليون مواطن في عام 2014 إلى نحو 70 مليونًا في عام 2024، بنسبة نمو بلغت 29.6%.

بالموازاة شهدت معدلات الفقر في مصر خلال الأعوام الأخيرة نموًا ملحوظًا، تأثرت بشكل مباشر بأعباء القرارات الاقتصادية وموجات التضخم، فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفعت نسبة الفقر من 27.8% في عام 2015 إلى 32.5% خلال عامي 2017/2018، في أعقاب إجراءات تحرير سعر الصرف ورفع الدعم عن الوقود، ورغم تسجيل أول انخفاض ملحوظ في معدلات الفقر إلى 29.7% بحلول عام 2019/2020، مدفوعًا بتوسيع برامج الحماية الاجتماعية مثل “تكافل وكرامة”، إلا أن الاتجاه التصاعدي عاد ليظهر بوضوح خلال السنوات اللاحقة. فقد أظهرت تقديرات رسمية وغير رسمية ارتفاع معدل الفقر مجددًا إلى 32.5% في عام 2022، وصولًا إلى 33.3% في 2023، وسط توقعات بأن يتخطى حاجز 36% بحلول 2025، في ظل استمرار ارتفاع معدلات التضخم، التي بلغت 42.6% في المناطق الريفية، وتراجع القوة الشرائية للأسر محدودة الدخل.

في ضوء ذلك أطلقت الدولة عدة مبادرات صحية واسعة النطاق، أبرزها مبادرة “100 يوم صحة”، التي قدمت من يونيو 2023 إلى يناير 2024 نحو 60.1 مليون خدمة طبية مجانية، شملت الفحوصات الوقائية والعلاجية في جميع المحافظات، كذلك استفاد 16.4 مليون مواطن من مبادرة الفحص المبكر والعلاج المجاني للأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي، بينما تم إنهاء معاناة أكثر من 2.5 مليون حالة كانت على قوائم انتظار العمليات الجراحية والعلاج خلال نفس الفترة.

ورغم الأرقام الرسمية التي تتحدث عن توسع منظومة التأمين الصحي الشامل، إلا أن هذه المنظومة لا تزال تواجه انتقادات واسعة بشأن بطء تطبيقها وفعاليتها على الأرض، ففي الوقت الذي تشير فيه البيانات الحكومية إلى أن محافظات بورسعيد، الأقصر، الإسماعيلية، جنوب سيناء، أسوان، والسويس، شهدت تقديم نحو 3 ملايين خدمة طبية وعلاجية خلال الربع الأول فقط من العام المالي 2024/2025، استفاد منها أكثر من 870 ألف مواطن، يبقى هذا الرقم محدودًا مقارنة بحجم السكان ونطاق الاحتياج الفعلي للخدمات الصحية، خاصة في المناطق الفقيرة والأكثر تهميشًا.

ويضاف إلى ذلك أن المبادرات الرئاسية، ورغم ضخامتها على الورق، حيث سجلت تقديم أكثر من 218 مليون خدمة طبية لنحو 94 مليون مواطن عبر 3527 وحدة صحية حتى عام 2024، إلا أنها تظل مبادرات وقتية تُعالج الأزمات في إطار حملات محددة، دون تقديم حلول جذرية للأزمات الهيكلية في القطاع، مثل نقص الكوادر، تهالك البنية التحتية، وتفاوت جودة الخدمات بين المحافظات.

وفيما يتعلق بالبنية التحتية للقطاع الصحي، أظهرت البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن عدد المستشفيات في مصر، سواء الحكومية أو الخاصة، ارتفع من 1673 مستشفى في عام 2014 إلى 2700 مستشفى في عام 2024، بنسبة زيادة 61.4%. أما عدد المستشفيات الحكومية، فقد استقر نسبيًا عند حدود 664 مستشفى حتى عام 2021، بينما ارتفع عدد الأسرة الحكومية إلى 88,597 سريرًا في نفس العام، وسط مطالب مستمرة بزيادة الطاقة الاستيعابية لمواجهة الطلب المتزايد على الخدمات الصحية.

كذلك زاد عدد المستشفيات الجامعية من 88 مستشفى في 2014 إلى 125 مستشفى بحلول عام 2023، وقدمت هذه المستشفيات خدماتها لما يزيد عن 24.5 مليون مريض خلال العام المالي 2023-2024. وعلى صعيد العلاج على نفقة الدولة، استفاد نحو 20.4 مليون مواطن خلال السنوات العشر الماضية من 33.9 مليون قرار علاج، بتكلفة إجمالية بلغت 114.2 مليار جنيه، وفق بيانات وزارة الصحة.

رغم هذا التوسع الكمي، يرى خبراء الصحة العامة أن غياب الضمانات في عقود التخصيص الجديدة يهدد بتقليص نطاق هذه الخدمات المجانية، خاصة مع ترك إدارة المستشفيات لاعتبارات السوق وربحية المؤسسات الخاصة، دون وضوح في آليات الرقابة والمحاسبة.

 

نوصي للقراءة: تداعيات إلغاء تكليف الأطباء في مصر

 إجهاض خطط تطوير المنظومة الصحية

يقول الدكتور – محمد حسن خليل، منسق حملة الحق في الصحة، واستشاري أمراض القلب-، منذ صدور دستور يناير 2014، الذي ألزم الدولة بتخصيص حد أدنى لا يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الحكومي على الصحة، كانت الآمال معلقة على تحسين منظومة الرعاية الصحية والاقتراب من المعايير الدولية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، والمقدرة بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل تقريبا 15% من الموازنة العامة للدولة. إلا أن الواقع خلال السنوات الماضية كشف فجوة صارخة بين هذه الالتزامات الدستورية والواقع الفعلي للإنفاق، الذي ظل متدنيًا بل وتراجع في بعض الفترات.

ويضيف في تصريح إلى زاوية ثالثة: “خلال الأعوام الثلاثة التالية لإقرار الدستور، ارتفع الإنفاق الحكومي على الصحة بشكل طفيف ليبلغ 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى الدستوري، قبل أن تعود النسبة إلى التراجع مجددًا مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي عام 2016، الذي فرض سياسات انكماشية أضعفت المخصصات الاجتماعية، وفي مقدمتها الصحة.

وبحسب البيانات الرسمية، التي يشير إليها خليل في حديثه معنا، بلغ أدنى مستوى للإنفاق الحكومي على الصحة في مشروع موازنة 2024-2025، حيث لم يتجاوز 1.17% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضئيلة للغاية، خاصة إذا ما قورنت بمتوسطات أفريقيا، أفقر قارات العالم، فضلا عن المعدلات العالمية، ما يعكس اختلالاً خطيرًا في أولويات الإنفاق العام.

ويُضاف إلى ذلك مشكلة أكثر عمقًا تتعلق بتركيبة مصادر التمويل الصحي في مصر، إذ يمثل الإنفاق الشخصي المباشر من جيوب المواطنين نحو 71% من إجمالي الإنفاق على الصحة، مقابل متوسط عالمي لا يتجاوز 19%، ما يعني أن المرض في مصر يتحول إلى عبء اقتصادي ثقيل يدفع الأسر نحو الفقر عند مواجهة أزمات صحية، وفق خليل.

أما من حيث مقومات الرعاية الصحية، فيرى الدكتور محمد حسن خليل أنها شهدت تدهورًا ملحوظًا في مؤشرات توفر الأسرة بالمستشفيات والأطقم الطبية، ففي ستينيات القرن الماضي، بلغ عدد الأسرة 22 سريرا لكل عشرة آلاف مواطن، بينما تقلص هذا المعدل إلى 8.1 سريرا فقط حاليًا، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 29 سريرا.

ويؤكد منسق لجنة الحق في الصحة في حديثه مع زاوية ثالثة أن الوضع ليس أفضل حالاً فيما يتعلق بالأطباء والتمريض، حيث تراجعت النسب إلى نحو نصف المعدل العالمي، نتيجة الهجرة الواسعة للكفاءات الطبية إلى الخارج، هربًا من تدني الأجور، وضعف بيئة العمل، وصعوبة التدريب، وغياب الأمان الوظيفي. وتقدّر الأرقام الرسمية وجود ما بين 120 إلى 150 ألف طبيب مصري يعملون بالخارج، وهو رقم يقارب إجمالي الأطباء العاملين داخل البلاد، ما ينذر بأزمة هيكلية في توافر الكوادر الطبية.

قوانين منظمة أم أعباء تثقل كاهل المواطن؟

وعلى صعيد التشريعات، يلفت خليل إلى أن قانون التأمين الصحي الشامل رقم 2 لسنة 2018 من أبرز التغييرات، ورغم التعديلات الإيجابية التي طرأت عليه مقارنة بمسوداته الأولى، إلا أن التطبيق العملي خالف الوعود، إذ ظل التأمين الصحي الجديد يغطي أقل من 4.5 مليون مواطن حتى نهاية 2023، أي نحو 4.2% فقط من السكان، بينما كان الهدف تغطية 100% بحلول 2030، وفق تصريحات الحكومة.

المشكلة الأكبر في القانون الجديد، وفق خليل، تكمن في تحميل المواطنين أعباء إضافية، سواء من خلال مساهمات مالية عند تلقي الخدمات، أو عبر نقل عبء التأمين على الأطفال والزوجات إلى عائل الأسرة، فضلاً عن تقليص التزامات أصحاب الأعمال. كذلك، شهدت السنوات الماضية فرض ضرائب ورسوم جديدة لصالح التأمين، أبرزها على السجائر والتبغ وتجديد تراخيص السيارات، وهو ما يزيد العبء الضريبي دون ضمانات حقيقية بتحسين مستوى الخدمات.

ويضيف: “أما الاستراتيجية الحكومية الأخيرة لتطوير المنظومة الصحية، فقد تجلت في إصدار قانون منح التزام إدارة المنشآت الصحية للقطاع الخاص في مايو 2024، والذي يسمح بتأجير مستشفيات الدولة لمستثمرين مصريين أو أجانب لفترات تصل إلى 15 عامًا، ما يُنذر بتحول تدريجي للمستشفيات الحكومية إلى كيانات ربحية، مع تخصيص نسبة غير محددة من الأسرة لمرضى التأمين الصحي والعلاج على نفقة الدولة، ما يُهدد بإضعاف قدرة الفئات الفقيرة على الحصول على الخدمة.”

ويُحذر الدكتور محمد حسن خليل من أن هذا التوجه نحو خصخصة الرعاية الصحية، سواء عبر التأجير أو الشراكات مع القطاع الخاص، لا يعالج جوهر المشكلة المتمثلة في ضعف الإنفاق الحكومي، وتآكل البنية التحتية الصحية، ونقص الكوادر الطبية، بل قد يؤدي إلى مزيد من التمييز في فرص الحصول على العلاج، وتفاقم أزمة العدالة الصحية.

ورغم بعض الإيجابيات مثل تحسن مؤشرات وفيات الأمهات والأطفال، وتوسع مبادرات الكشف المبكر كحملة 100 مليون صحة، إلا أنها، بحسب رأيه، تظل محدودة وأقرب إلى حملات دعائية موسمية، لا تُعالج جذور الأزمة المتعلقة بضعف النظام الصحي الشامل، وانعدام الاستدامة في توفير الخدمات. مؤكدًا على أن مصر تمتلك إرثًا طبيًا عريقًا، ولكن سياسات الخصخصة وضعف التمويل تجهض هذا التاريخ، مشددًا على ضرورة العودة إلى مبادئ العدالة الصحية المنصوص عليها في دستور 2014، وضمان التزام الدولة بتحمل المسؤولية الأساسية عن تمويل وتأمين العلاج لكل المواطنين بعيدًا عن المنطق الربحي.

وتواجه المنظومة أزمات متراكمة، في مقدمتها ضعف البنية التحتية، ونقص التمويل، وتدهور أوضاع الكوادر الطبية، إلى جانب الضغوط الاقتصادية التي تواجهها الدولة ككل، فعلى الرغم من النص الدستوري الذي يلزم الحكومة برفع الإنفاق على الصحة إلى ما لا يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي، تشير البيانات الرسمية إلى أن الإنفاق الفعلي لا يتجاوز 1.2%، وهو رقم بعيد كل البعد عن تلبية الاحتياجات المتزايدة للقطاع، تزامنًا مع انتشار الأمراض المزمنة، وتزايد نسب الفقر.

إلى جانب ذلك، تعاني من أزمة حادة في الموارد البشرية؛ آلاف الأطباء والممرضين يغادرون مصر سنويًا بحثًا عن ظروف عمل أفضل، في ظل تدني الرواتب وضعف الإمكانيات بالمستشفيات الحكومية. هذا الواقع ترك المؤسسات الصحية العامة غير قادرة على مجاراة الطلب المتزايد على الخدمات الطبية، خاصة في المناطق الفقيرة والأقاليم الريفية. على المستوى الاقتصادي الأوسع، تواجه الحكومة ضغوطًا متصاعدة بسبب الأزمة المالية، ارتفاع حجم الديون، وتراجع الإيرادات، وهو ما يدفعها للبحث عن حلول تقلل من أعباء الإنفاق العام، دون الحاجة إلى ضخ استثمارات ضخمة من الخزانة العامة.

كيف نقرأ تداعيات خصخصة المستشفيات؟

تتسق خطة الحكومة لتخصيص المستشفيات الحكومية مع بيئة استثمارية وتشريعية جديدة، يجري إعدادها بعناية لجذب رأس المال الأجنبي إلى قطاع الصحة، وهو ما يثير تساؤلات حول العلاقة المباشرة بين فتح الباب أمام شركات دولية للاستثمار في الصحة، وبين إصدار قانون منح التزام إدارة وتشغيل المنشآت الصحية العامة للقطاع الخاص في منتصف 2024.

ففي السنوات الأخيرة، شهدت مصر دخول عدد من الشركات الأجنبية الكبرى إلى قطاع الرعاية الصحية، أبرزها مجموعة (Humania) التي تديرها شركة سعودي-ألماني بالشراكة مع مؤسسات تمويلية أوروبية، والتي أطلقت مشروع مستشفى دولي في القاهرة بطاقة استيعابية ضخمة، بالإضافة إلى استثمارات صندوق (CDC) البريطاني في مجموعة Alfa الطبية، وصفقات أعلن عنها الصندوق السيادي المصري بالتعاون مع Concord الأمريكية، لتأسيس صناديق متخصصة في الصحة برأسمال مئات الملايين من الدولارات.

هذه الاستثمارات تأتي في سياق رسمي يدعو إلى تعزيز دور القطاع الخاص والأجنبي في تقديم الخدمات الطبية، وهو ما توّج بإصدار القانون رقم 87 لسنة 2024، الذي ينظم لأول مرة إسناد إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية إلى القطاع الخاص، سواء المحلي أو الأجنبي، عبر عقود التزام تصل مدتها إلى 15 عامًا، تتضمن إنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية العامة. وبينما تقول الحكومة إن القانون يوفر إطارًا شفافًا يضمن استمرار تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، ويحافظ على حقوق الفئات غير القادرة، يرى متخصصون أن النصوص الحالية تفتقر إلى ضمانات قانونية حقيقية تقيّد منطق السوق والربحية، خاصة في ظل غياب آليات رقابة واضحة أو اشتراطات ملزمة تحدد نسب الأسرة المخصصة للعلاج المجاني أو المدعوم داخل هذه المستشفيات بعد تخصيصها.

ويحذر باحثون من أن الشركات الأجنبية، رغم ما تحمله من وعود بنقل التكنولوجيا وتحسين الكفاءة، قد تدفع تدريجيًا نحو تحويل مؤسسات الصحة العامة إلى كيانات تجارية بحتة، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية وتصاعد معدلات الفقر، ما يُهدد بتقليص فرص ملايين المواطنين في الحصول على خدمات صحية ميسّرة كانت تعتمد عليها الفئات الأشد احتياجًا.

في هذا السياق يعبر الباحث في الشؤون الصحية كريم طارق عن مخاوفه من تداعيات خطة تخصيص المستشفيات، مشددًا على أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في مبدأ إسناد الإدارة للقطاع الخاص، بل في غياب الضمانات الواضحة التي تحمي حق المواطن في العلاج.

ويقول لزاوية ثالثة: “اطلعت على الأخبار المتعلقة بطرح أكثر من 40 مستشفى للقطاع الخاص، سواء من خلال الإدارة أو التشغيل، لفترات تتراوح بين ثلاث وخمس عشرة سنة، لكننا أمام مشكلتين رئيسيتين، سبق وأن عبّرنا عنهما مرارًا”. موضحًا أن أولى هذه المشكلات تتعلق بعدم وضوح الآلية التي تضمن استمرار تقديم الخدمات العلاجية للمواطنين على نفقة الدولة داخل هذه المستشفيات بعد انتقال إدارتها إلى القطاع الخاص، قائلًا: “لا توجد ضمانات حقيقية بأن تظل هذه المستشفيات ملتزمة بتقديم خدمات علاجية ميسّرة للفئات الأكثر احتياجًا، وما من جهة رقابية واضحة لمتابعة الأداء أو محاسبة المؤسسات الجديدة حال التقصير”.

أما المشكلة الثانية، وفق طارق، فتتمثل في إمكانية تسريح العاملين داخل تلك المستشفيات بنسبة قد تصل إلى 75% من إجمالي القوى العاملة، استنادًا إلى تقدير الجهة المشغّلة، وهو ما يثير مخاوف مشروعة بشأن مصير هؤلاء الموظفين ومستقبلهم المهني، خاصة في ظل غياب أي خطط معلنة لتوفير بدائل لهم.

ويؤكد الباحث المختص بالشؤون الصحية أن الاعتراض القائم لا يستهدف فكرة إدارة القطاع الخاص للمستشفيات في حد ذاتها، بل ينصبّ على غياب الشفافية، وضعف الرقابة، وعدم وجود التزامات قانونية تضمن تقديم خدمات طبية محسّنة دون تحميل المواطن أعباء مالية إضافية. مستشهدً بتجربة مستشفى هرمل، التي شهدت، بحسب تقارير حقوقية، تأخيرًا في صرف الأدوية وتقديم العلاج لبعض المرضى بعد التعاقد مع جهات خاصة لإدارتها، معتبرًا أن “هذه الواقعة تمثل إنذارًا مبكرًا لما قد تشهده بقية المستشفيات إذا استمر التوسع في التخصيص دون ضوابط واضحة”.

ويضيف: “ما زالت هناك فجوة كبيرة في المعلومات الرسمية بشأن المستشفيات المطروحة للتخصيص، وعدد المرضى المستفيدين من العلاج المجاني فيها، وحجم الخدمات المقدّمة للفئات محدودة الدخل، وكلها عوامل تجعل من الصعب تقييم مدى تأثير القرار على المدى القريب، فضلًا عن استحالة قياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي قبل مرور فترة زمنية كافية، وهو ما يُعمّق مخاوفنا من غياب الرقابة وضعف المحاسبة”.

 

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search