يعمل محمد عبد الرحمن، (37 عامًا)، لمدة تزيد عن 10 ساعات يوميًا، في مجال البناء، نظير أجرًا يوميًا لا يتجاوز 250 جنيهًا في أفضل الحالات، بالكاد يوفر حاجيات منزله المكون من 5 أشخاص، ولأن عمله غير منتظم، لا يتمكن في أحيان كثيرة من تغطية نفقاته الأساسية. يروي لزاوية ثالثة: “أعمل في مهنة البناء منذ أكثر من عشر سنوات، وأتقاضى أجرًا يوميًا يتراوح بين 200 و250 جنيهًا إذا توفر العمل، لكن في كثير من الأحيان يمر أسبوع كامل دون أن أجد فرصة عمل. لدي ثلاثة أبناء، ومسؤوليات كثيرة، وكل شيء أصبح مكلفًا، بدءًا من الطعام وحتى إيجار السكن.”
لا يعرف محمد إذا كان من حقه الحصول على الحد الأدنى للأجور أم لا، كل ما يطمح إليه هو عمل ثابت يمكنه من تأمين التزاماته الشهرية. يقول في حديثه معنا: “في كل مرة أسمع فيها عن قرارات الحكومة المتعلقة برفع الحد الأدنى للأجور، أتساءل: هل نحن محسوبون ضمن هذه القرارات؟ الحقيقة أن أغلبنا خارج هذا الإطار، لا أحد يسأل عنا، ولا نحظى بأي تأمين صحي أو اجتماعي، زوجتي أيضًا تعمل في تنظيف المنازل، لكنها لا تحصل على أجر ثابت أو تأمين، ومع ذلك نحاول أن نكافح لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ونسعى لتعليم أبناءنا حتى لا يواجهون ذات المصير”.
رغم إقرار الحكومة المصرية زيادات متتالية للحد الأدنى للأجور، كان آخرها في مارس 2024 ليصل إلى 7 آلاف جنيه شهريًا للعاملين بالجهاز الإداري للدولة، تطبق بداية من يوليو الجاري، إلا أن ملايين المصريين ما زالوا خارج إطار هذه الزيادات، يعانون من الفقر والبطالة والدخل غير الكافي لتلبية احتياجات المعيشة الأساسية.
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لا تزال نسب الفقر مرتفعة في مصر، حيث بلغت نسبة السكان تحت خط الفقر 29.7% وفق بحث الدخل والإنفاق لعام 2019-2020، وسط تقديرات غير رسمية تشير إلى زيادات لاحقة بسبب موجات التضخم وارتفاع الأسعار في أعقاب الأزمات الاقتصادية العالمية. ويتركز الفقر بشكل لافت في محافظات الصعيد، حيث تسجّل محافظات مثل أسيوط وسوهاج والمنيا نسب فقر تتجاوز 50% من السكان في بعض المناطق.
نوصي للقراءة: “تضاعف جرائم قتلهن”.. النساء يسددن فاتورة الفقر مرتين
المطرودون من جنة الحد الأدنى
مثل محمد تحلم سعاد أحمد، (44 عامًا)، تبيع الخضروات في أحد شوارع مدينة أسيوط، براتب ثابت يمكنها من توفير حياة كريمة لأبنتيها بعد وفاة والدهم. تقول في حديثها معنا: “منذ وفاة زوجي قبل خمسة عشر عامًا وأنا أتحمل مسؤولية إعالة بناتي بمفردي، عملت بائعة للخضروات على عربة صغيرة في الشارع، لأنني لم أجد بديلًا آخر يوفر لنا مصدر رزق، أتابع الأخبار وأسمع عن قرارات رفع الحد الأدنى للأجور، لكنني أدرك جيدًا أنها لا تعنيني، فأنا أعمل في الشارع، لا تأمين لدي، ولا مرتب ثابت، أحيانًا يكون الدخل جيدًا، وأحيانًا أخرى أعود إلى المنزل بخسارة أو دون دخل على الإطلاق بسبب تلف بعض الخضروات.”
خلال الشهر الماضي لم يتجاوز الدخل الشهري ثلاثة آلاف جنيه، وهذا مبلغ بالكاد يغطي تكاليف الطعام والإيجار وفواتير الكهرباء، ناهيك عن مصاريف المدارس والجامعة والاحتياجات اليومية الأخرى، للأسف، الفئات البسيطة مثلنا، التي تكافح يوميًا في الشوارع والأسواق، لا تدخل ضمن حسابات الدولة، رغم أننا من أكثر الفئات حاجة إلى الدعم والحماية”، تحكي سعاد.
أما هدى علي، صاحبة الـ 50 عامًا، والتي تعمل في تنظيف المنازل بمنطقة الهرم فتقول إنها وعلى مدار 20 عامًا من العمل لم تحصل على تأمين صحي أو اجتماعي، ولا أي ضمان لدخل ثابت، هجرها زوجها منذ عشر سنوات، وتعول أربعة أبناء، جميعهم في مراحل دراسية مختلفة. تروي لنا: “رغم الجهود اليومية والعمل الشاق، فإنني لا أحصل إلا على أجر يومي يتراوح بين 150 و200 جنيه، وأحيانًا أُضطر للبقاء في المنزل إذا مرضت أو لم تكن هناك فرص عمل متاحة، وهو ما يعني انقطاع الدخل تمامًا.”
وتضيف: “أسمع كثيرًا عن قرارات الحكومة بشأن رفع الحد الأدنى للأجور، ولكنني أعلم أنني لست من بين المستفيدين منها، ولا توجد جهة تضمن لي هذا الحق، أعيش تحت ضغط دائم، أخشى المرض أو التوقف عن العمل، لأن ذلك يعني فقدان مصدر رزقي الوحيد، وكل ما أتمناه هو أن تتوسع مظلة الحماية الاجتماعية لتشملنا نحن أيضًا، فنحن جزء من هذا المجتمع، ونعمل بجد رغم ظروفنا الصعبة.”
ولا تختلف قصة أحمد سعيد، (26 عامًا)، حاصل على بكالوريوس تجارة، من محافظة المنيا، إذ تخرج منذ ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين يبحث عن فرصة عمل مستقرة، لكنه لم يجد سوى أعمال مؤقتة أو في القطاع الخاص بأجور متدنية لا تكفي لتغطية احتياجات المعيشة الأساسية. يحكي في حديثه معنا: “عملت في متجر للملابس مقابل ألفي جنيه شهريًا، ومن دون أي تأمين اجتماعي أو صحي، بينما أسمع عن قرارات الحكومة لرفع الحد الأدنى للأجور إلى سبعة آلاف جنيه، وهي أرقام تبدو بعيدة جدًا عن واقعنا هنا في الصعيد، حيث فرص العمل قليلة، والرواتب المتاحة منخفضة، وغالبية الشركات الصغيرة غير ملتزمة بتطبيق الحد الأدنى للأجور.”
ويتابع: “أسرتي تعتمد عليّ كثيرًا، ولا يوجد لدينا مصدر دخل آخر، ومع ارتفاع الأسعار المستمر، أصبحت الحياة أكثر صعوبة البطالة في محافظات الصعيد أعلى بكثير من بقية المناطق، والحديث عن فرص العمل وتحسين الأجور لا يصل إلينا، وكأننا خارج حسابات الدولة تمامًا.”
ووفقًا للأرقام، يظل الجزء الأكبر من قوة العمل في مصر خارج نطاق هذه القرارات، وهو ما يكشف الفجوة بين السياسات المعلنة والواقع الفعلي لسوق العمل، في مقدمة هذه الفئات يأتي العاملون في القطاع غير الرسمي، الذين يُقدَّر عددهم بأكثر من 12 مليون شخص، بحسب بيانات رسمية وتقارير دولية، بما يمثل نحو نصف قوة العمل في مصر. هؤلاء يعملون في مجالات متعددة، مثل العمالة اليومية، الحرف اليدوية، النقل غير الرسمي، الأنشطة الزراعية غير المنتظمة، والباعة الجائلين، وغالبًا ما يفتقرون لأي شكل من أشكال التأمين أو الحماية الاجتماعية.
تشمل قائمة الفئات غير المشمولة بالحد الأدنى أيضًا العمالة الزراعية الموسمية، والعاملين بالمنازل، وشريحة كبيرة من أصحاب المهن الحرة، الذين يعتمد دخلهم على ظروف السوق والتقلبات اليومية، دون أي ضمان دخل ثابت، كما يظل أصحاب المعاشات وأصحاب الدخول الثابتة المنخفضة، بعيدين عمليًا عن تأثير قرارات رفع الأجور، لا سيّما في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة المستمر.
إلى جانب القطاع غير الرسمي، هناك جزء من العاملين في القطاع الخاص الرسمي نفسه لا يشملهم الحد الأدنى للأجور، خصوصًا في المؤسسات الصغيرة ومتناهية الصغر التي تواجه تحديات اقتصادية تحول دون التزامها بالحد الأدنى المقرر، رغم الإلزام القانوني بذلك. ورغم قرارات المجلس القومي للأجور، إلا أن آليات الرقابة والتنفيذ تواجه صعوبات في الوصول إلى جميع أماكن العمل، خاصة في المناطق النائية أو غير الخاضعة لرقابة دورية.
نوصي للقراءة: زيادة الحد الأدنى للأجور في مصر.. بين الأرقام والواقع المعيشي
قرارات بلا فاعلية
من جهته يرى – الباحث العمالي بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية-، حسن بربري أن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في غياب قرارات تحديد الحد الأدنى للأجور، بل في غياب تطبيقها على أرض الواقع. ويقول في تصريح خاص إلى زاوية ثالثة إن “الحد الأدنى للأجور يُذكر دائمًا في القرارات الرسمية، لكننا على أرض الواقع لا نراه مطبقًا، فيما نقابل يوميًا عمالًا في قطاعات مختلفة، مثل الخدمات، والمدارس الخاصة، والمستشفيات، يتقاضون أجورًا لا تقترب حتى من الحد الأدنى المُعلن.”
ويؤكد بربري أن الخطاب الاجتماعي الرسمي في هذا السياق يبدو في كثير من الأحيان “مجرد شعارات دعائية لا تنعكس فعليًا على معيشة الناس”. مشيرًا إلى أنه “بالنظر إلى القطاع العام، نجد عمال نظافة في المحليات يتقاضون رواتب تتراوح بين 1500 إلى 3000 جنيه، كذلك هناك العاملون بالعقود المؤقتة أو الصناديق الخاصة في المستشفيات الحكومية أو شركات مثل المصرية للتجارة، لا تصل أجورهم حتى إلى المستوى الأدنى المقرر.”
ويشير بربري إلى أوضاع شركات قطاع الأعمال، مؤكدًا أنها تمثل نموذجًا فجًا لهذا الخلل، مضيفًا: “دار الخدمات النقابية أصدرت بيانًا مؤخرًا يكشف أن شركة غزل المحلة تستخدم عمالة يومية ومؤقتة بأجور أقل بكثير من 7 آلاف جنيه. وفي القطاع الخاص، الوضع أسوأ بكثير.” كذلك يلفت إلى أن شركات الأمن والحراسة، التي تنتشر في كل القطاعات، تُشغّل العمال 12 ساعة يوميًا مقابل رواتب تتراوح بين 2400 و3000 جنيه، وقد تصل إلى 4000 فقط في أحسن الأحوال، أما في المدارس الخاصة والدولية، فالأغلبية الساحقة من المعلمين لا تصل عقودهم إلى الحد الأدنى للأجور إطلاقًا، هذا أمر يكاد يكون مستحيلًا.”
ويركز بربري على أزمة المناطق الصناعية والاستثمارية، موضحًا أنه “في مناطق مثل العاشر من رمضان، وشبرا الخيمة، والمنيا، وشركات اتفاقية الكويز، لا يُطبّق الحد الأدنى إطلاقًا، وحتى في المصانع الكبرى، نجد أجورًا لا تتجاوز 2500 إلى 5000 جنيه، وقد تصل إلى 6000 فقط للمشرفين. معظم هؤلاء لا يحصلون على تأمينات أو بدلات، ما يعمّق الأزمة.”
ويُرجع بربري هذا الإخفاق في التطبيق إلى عاملين رئيسيين: أولًا، تقاعس وزارة القوى العاملة عن القيام بدورها الرقابي، رغم امتلاكها شبكة كبيرة من مكاتب التفتيش، وثانيًا، تحايل أصحاب الشركات، خاصة في القطاع الخاص، عبر عدة وسائل، مثلًا، “بعض الشركات تُظهر رسميًا أنها تدفع 7 آلاف جنيه، لكنها تخصم من العمال جزءًا كبيرًا تحت بنود مختلفة، مثل الغرامات أو التأمينات أو حتى المستلزمات، ليصل ما يحصل عليه العامل فعليًا إلى نصف هذا الرقم أو أقل.”
ويؤكد الباحث بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن أزمة تطبيق الحد الأدنى للأجور لا ترتبط فقط بالأوضاع الاقتصادية الصعبة، بل هي نتيجة مباشرة لغياب الرقابة، ولقبول ضمني من الدولة بممارسات تخرق القانون وتُبقي ملايين العمال بلا حماية حقيقية.
نوصي للقراءة: العمال.. وقود أرباح رجال الأعمال: الدولة تشاهد!
النساء المعيلات: معاناة مضاعفة
رغم التغيرات المستمرة في سوق العمل المصري، لا تزال معدلات البطالة تمثل واحدة من أكثر المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية دلالة على عمق الأزمة المعيشية، خصوصًا بين الشباب والنساء. ووفقًا لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024، بلغت نسبة البطالة العامة نحو 6.6% من إجمالي قوة العمل، لكن هذه النسبة لا تعبّر بدقة عن الفئات الأكثر تهميشًا في سوق العمل، إذ تخفي وراءها معدلات أعلى بكثير في قطاعات ومناطق جغرافية معينة، وكذلك داخل شرائح عمرية محددة.
وفقًا لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024، بلغ معدل البطالة بين الشباب في الفئة العمرية من 15 إلى 29 سنة 14.9% من إجمالي قوة العمل في نفس الفئة العمرية، مسجلاً انخفاضًا قدره 1% مقارنة بعام 2023. ويظهر التفاوت بين الجنسين بشكل واضح، حيث بلغ معدل البطالة بين الذكور 9.8%، بينما ارتفع بشكل كبير بين الإناث ليصل إلى 37.1%. كما سجلت الفئات العمرية الفرعية معدلات متفاوتة، إذ بلغ معدل البطالة للفئة العمرية 15-19 سنة حوالي 12.2%، وللفئة 20-24 سنة نحو 19.1%، وللفئة (25-29) سنة حوالي 12.2%. أما بالنسبة لحملة المؤهلات المتوسطة وفوق المتوسطة والجامعية، فقد بلغ معدل البطالة 18.7% في هذه الفئة العمرية، مع ارتفاع واضح بين الإناث بنسبة 40.8% مقابل 12.2% للذكور. تعكس هذه الأرقام التحديات الكبيرة التي تواجه الشباب في سوق العمل المصري، خاصة النساء منهم، رغم تحسن المؤشرات العامة للبطالة.
هذه الأرقام تكتسب دلالة أكبر عند ربطها بواقع المرأة المعيلة، إذ تشير بيانات وزارة التضامن الاجتماعي إلى أن نحو 15% من الأسر المصرية، أي ما يقارب 4.5 مليون أسرة، تُعيلها نساء بمفردهن، دون دعم دائم من الأب أو الزوج، تعمل أغلب هؤلاء النساء في الاقتصاد غير الرسمي: من بيع الطعام في الشارع إلى العمل في المنازل أو ورش صغيرة لا تضمن أي حد أدنى للأجور أو تأمينات، وهو ما يجعل المرأة المعيلة واحدة من أكثر الفئات هشاشة، خصوصًا في ظل تراجع قدرة الدولة على توفير دعم مادي مباشر أو شبكات أمان اجتماعي فعالة.
وفي كثير من الحالات، تكون المرأة المعيلة مسؤولة عن إعالة أكثر من فرد في الأسرة، بما في ذلك أطفال أو أشخاص من ذوي الإعاقة أو آباء مسنين، ما يزيد من الضغط النفسي والاجتماعي والاقتصادي الواقع عليها، ورغم أهمية هذه الشريحة في النسيج الاجتماعي المصري، إلا أن السياسات العامة لا تزال تفتقر إلى أدوات شاملة تضمن تمكينها اقتصاديًا وتوفير حد أدنى من الأمان المعيشي لها ولأسرتها.
وتقول مي صالح، – مديرة برنامج النساء والعمل والحقوق الاقتصادية في مؤسسة المرأة الجديدة-، لزاوية ثالثة إن أزمة الحد الأدنى للأجور في مصر لا تتعلق فقط بضعف القيمة، بل بعدم الالتزام بتطبيقه أصلًا في قطاعات واسعة من سوق العمل، بما في ذلك داخل المنشآت الرسمية. موضحة أن فئات كثيرة لا يطبق عليها الحد الأدنى للأجور، ليس فقط في الاقتصاد غير الرسمي، لكن حتى في شركات ومصانع مسجّلة. هناك عمال زراعة، وعمال موسميون، وعمالة مقاول، فضلًا عن عمال مصانع يتقاضون حتى اليوم أجورًا تتراوح بين 3 آلاف و4 آلاف جنيه، رغم أن الحد الأدنى تم رفعه رسميًا إلى 7 آلاف.”
وتلفت مي إلى أن جوهر المشكلة لا يكمن فقط في ضعف الرقابة، بل في “المرونة القانونية التي تفتح الباب أمام التحايل والتنصل”. مضيفةً أن “نص القرار نفسه يسمح باستثناءات، مثل قصر التطبيق على المنشآت التي تضم أكثر من 10 عاملين، وهو ما يستبعد تلقائيًا نحو 90% من منشآت العمل في مصر، لأنها صغيرة الحجم. بالإضافة إلى ذلك، يُتاح للشركات تقديم تظلمات بحجة التعثر الاقتصادي، وبالتالي يمكنها الإفلات من الالتزام دون عواقب.”
وتشير إلى أسلوب شائع في التحايل من قِبل أصحاب الشركات فالعديد من المؤسسات تُدرج بدلات الطعام والملبس والمواصلات ضمن بند الأجور، حتى تظهر أمام الجهات الرسمية وكأنها تطبق الحد الأدنى، بينما في الواقع القيمة النقدية التي يحصل عليها العامل أقل بكثير من الحد الحقيقي المفترض.”
وترى صالح أن ربط النقاش بالحد الأدنى وحده لم يعد كافيًا، وتدعو إلى تبني مبدأ “الأجر العادل” بديلًا: “في ظل موجات التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، يصبح الحديث عن الحد الأدنى غير واقعي. الأجر العادل هو ما يضمن للعامل أو العاملة حياة فوق خط الفقر، ويمكّنه من تلبية احتياجاته الأساسية بكرامة. وهو أجر يجب أن يتغير دوريًا وفق معدلات التضخم والقيمة الشرائية للنقود.” مؤكدة أن المطالبة بتطبيق الحد الأدنى فقط قد تبدو مطلبًا متواضعًا أمام الواقع، وتضيف: “للأسف، حتى المطالبين بتطبيق هذا الحد، والذين يتحركون في المجال العام، يتعرضون أحيانًا للتضييق أو المحاسبة الأمنية، في وقت لا يتم فيه محاسبة الجهات غير الملتزمة، ما يعكس مفارقة واضحة بين خطاب الحقوق وواقع السياسات.”
نوصي للقراءة: مصر: رفع الدعم يعمق الفجوة بين الأجور والأسعار
تفاوت جغرافي وامتداد مزمن
ما تزال خريطة الفقر في مصر تكشف عن واقع شديد التفاوت بين المحافظات، وتحديدًا بين الدلتا والصعيد، وبين الحضر والريف. تُظهر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك (2019–2020) أن نسبة الفقر على مستوى الجمهورية بلغت 29.7%، لكن هذه النسبة العامة تخفي ورائها تفاوتًا جغرافيًا صارخًا.
تُعد محافظات الصعيد الأكثر تأثرًا بالفقر، حيث سجلت نسبًا تتجاوز 50% في بعض المناطق. على سبيل المثال، تجاوزت نسبة الفقر في محافظة سوهاج 59.6%، وفي أسيوط 66.7%، والمنيا 54%. هذا التركز المرتفع للفقر في جنوب البلاد لا يُعزى فقط إلى نقص الموارد، بل أيضًا إلى ضعف البنية التحتية، وغياب فرص العمل، وتدني مستويات التعليم والخدمات الصحية، ما يؤدي إلى تكريس دائرة فقر متعددة الأبعاد.
في المقابل، تسجّل محافظات القاهرة الكبرى والإسكندرية والدلتا نسب فقر أقل نسبيًا، إلا أن التفاوت داخل المحافظة الواحدة قد يكون واسعًا، خاصة بين المناطق الحضرية الراقية والعشوائيات أو القرى الطرفية. كما تشير دراسات مستقلة إلى أن بعض المناطق الحضرية الفقيرة قد لا تُرصد بدقة في الإحصاءات الرسمية، ما يعني أن الفقر في المدن يأخذ أشكالًا أكثر خفاءً لكنه لا يقل خطورة.
ومن الملاحظ أن الفقر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغياب الحماية الاجتماعية والعمل غير المنتظم، وهو ما يتقاطع مع الفئات غير المشمولة بالحد الأدنى للأجور. كما أن معدلات الفقر ترتفع بين الأسر التي تعيلها نساء، وبين السكان الذين يعيشون في مساكن غير ملائمة أو لا يملكون حيازة أراضٍ زراعية في الريف. وبينما تشير الحكومة إلى تراجع طفيف في نسب الفقر مقارنة ببحث 2017–2018، إلا أن السنوات التالية شهدت صدمات اقتصادية متتالية نتيجة التضخم، وتحرير سعر الصرف، وتأثيرات الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، ما يجعل من المرجّح أن الأرقام الحالية أعلى من المُعلن.
تعكس خريطة الفقر في مصر ليس فقط تفاوتًا اقتصاديًا، بل أيضًا خللًا في توزيع التنمية والخدمات، ما يتطلب تدخلًا هيكليًا يتجاوز السياسات النقدية قصيرة الأجل، ويأخذ في اعتباره الفئات والمناطق الأكثر هشاشة وتهميشًا.
وأخيرًا.. وسط موجات متتالية من رفع الحد الأدنى للأجور في مصر، يظل ملايين العمال والنساء المعيلات والعاطلين عن العمل وكأنهم في الضفة الأخرى من الوطن. قرارات تُعلن في المؤتمرات الرسمية، لكنها لا تجد طريقها إلى ورش المصانع، أو عربات الخضار، أو منازل التنظيف، أو مكاتب الخريجين في الصعيد. تتسع الهوة يومًا بعد يوم بين الخطاب العام حول العدالة الاجتماعية، وبين واقع اقتصادي تُدار فيه حياة كاملة بأجر لا يكفي لوجبة يوم أو إيجار غرفة.