close

قانون التعليم الجديد: هكذا تتآكل مجانية التعليم في مصر

وُضِعت مواد في القانون تتعلق بـ’تحسين المستوى’؛ فعندما يدخل الطالب لتحسين درجاته في بعض المواد، تُفرض عليه رسوم كانت في السابق بسيطة تبلغ 20 جنيهًا، أما الآن، فقد جعلها 1000 جنيه و250 جنيهًا
Picture of آية ياسر

آية ياسر

أثارت موافقة مجلس النواب، في الـ8 من يوليو الجاري، بشكل نهائي على مشروع القانون المقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام قانون التعليم الصادر بالقانون رقم 139 لسنة 1981، حالة من الجدل داخل الأوساط التعليمية والبرلمانية ومخاوف واسعة بين أولياء أمور التلاميذ، المقبلون على مرحلة الثانوية العامة ونظام البكالوريا الذي استحدثته تعديلات القانون، كما واجت التعديلات انتقادات لجعلها نسبة النجاح في مادة التربية الدينية تبدأ من نسبة 70%، وفرض رسوم مالية في حال رسوب الطالب وقيامه بإعادة اختبار المادة أو إعادة السنة الدراسية، الأمر الذي قد يثقل كاهل أولياء الأمور محدودي الدخل.

وعلى الرغم من وجود تحفظات واعتراضات برلمانية أبداها عدد من نواب الأحزاب السياسية المحسوبة على المعارضة كالمصري الديموقراطي الاجتماعي والوفد والتجمع، وبرلمانيون أعضاء في تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، بسبب منح وزير التعليم صلاحية إقرار برامج موازية للثانوية العامة وفرض رسوم عليها دون الرجوع إلى البرلمان، الأمر الذي اعتبروه تغولًا من السلطة التنفيذية على سلطة مجلس النواب في التشريع وإقرار نظام التعليم، منتقدين غياب أي مخصصات مالية واضحة في مشروع الموازنة لدعم البرامج الجديدة، بجانب اشتراط القانون نسبة 70% للنجاح في مادة التربية الدينية، رغم عدم توافر معلمين متخصصين، خاصة في الدين المسيحي، معتبرين أن مشروع القانون بصيغته الحالية قد يكون بداية لخصخصة التعليم، مبدين تخوفاتهم من تحويل الطلاب إلى حقل تجارب لأي نظام تعليمي مستحدث، إلاّ أن البرلمان سرعان ما وافق على مشروع القانون.

وجاءت الموافقة عقب إعادة صياغة عدد من مواد مشروع القانون، وحذف مواد أخرى، وإدخال مواد جديدة خاصة بشهادة البكالوريا المصرية، لتكون بذلك نظامًا تعليميًا اختياريًا، بشكل مجاني، دون أن يكون النظام الجديد بديلًا للثانوية العامة، كما أجريت تعديلات برلمانية على نظام التحسين، بحيث تكون إعادة المادة في أول مرة مجانية تمامًا، وفي حالة إعادة الطالب لاختبار المادة يسدد رسوم قدرها 200 جنيه فقط للمادة الواحدة، مع إمكانية زيادة المبلغ تدريجيًا بقرار من مجلس الوزراء، لكن بشرط أن لا تتعدى الزيادة 400 جنيه للمرة الواحدة في نفس المادة، وهو ما ينطبق كذلك على التعليم الفني والتقني، بما فيه الثانوي التكنولوجي.

فيما اعتبر المستشار محمود فوزي، وزير الشئون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، أن مشروع القانون الذي تضمن أن الامتحان الأول فقط، للطلاب داخل النظام الجديد سيكون مجانياً بالكامل، لا يمس مجانية التعليم بأي حال من الأحوال، وأن مبدأ المجانية مصون دستوريًا ومحفوظ بنصوص القانون المعدل، موضحًا أثناء مناقشة مشروع القانون، أن النظام الجديد المقترح، والمعروف بـ”البكالوريا”، لا يُلغي النظام القائم للثانوية العامة، وإنما يُشكل مسارًا اختياريًا موازياً، يتيح للطلاب مزايا إضافية تتوافق مع النظم التعليمية الدولية، دون أن يُفرض عليهم، وأن النظام الحالي سيظل قائمًا، ومن يرغب في الاستمرار فيه له كامل الحق، بينما يوفر النظام الجديد بدائل تتماشى مع توجه الدولة نحو ربط التعليم بسوق العمل، لافتًا إلى أن مشروع القانون يعزز الهوية الوطنية، من خلال التأكيد على أن مواد التربية الدينية، واللغة العربية، والتاريخ الوطني تُعد مكونات أساسية وراسخة في المنظومة التعليمية.

 

نوصي للقراءة: البكالوريا: تطوير للثانوية العامة أم نهاية لعصر التعليم المجاني؟

انتهاك صارخ لمجانية التعليم

النائبة البرلمانية سناء السعيد، أكدت لـ”زاوية ثالثة”، على رفض نواب حزب مصر الديمقراطي الاجتماعي، لمشروع القانون المقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام قانون التعليم؛ من حيث المبدأ وكانت لديهم ملاحظات على التعديلات وقاموا بطرحها، معتبرة أن القانون الذي تمت الموافقة النهائية عليه، الثلاثاء، يعد انتهاكًا صارخًا لمجانية التعليم في مصر، إذ وُضِعت مواد في القانون تتعلق بـ”تحسين المستوى”؛ فعندما يدخل الطالب لتحسين درجاته في بعض المواد، تفرض عليه رسوم كانت في السابق بسيطة تبلغ 20 جنيهًا، أما الآن، فقد جعلها 1000 جنيه و250 جنيهًا، وهذه الأرقام بالطبع تمنع تكافؤ الفرص، حيث لا يستطيع الطالب الفقير تحملها، وبالتالي يتم منح ميزة لمن يملك المال على حساب الطبقة الفقيرة.

تقول النائبة: “جاء هذا القانون في وقتٍ يفتقر إلى أي دراسة مجتمعية، ودون عقد أي جلسات حوار مع الخبراء والمتخصصين في التربية والتعليم، ودون الاستناد إلى إحصائيات وأرقام تتناول معدلات الفقر والوضع الحالي والبنية التحتية للمنظومة التعليمية في مصر. ويشمل ذلك بالطبع حالة المدارس، وكثافة الطلاب في الفصول، ونقص المعلمين؛ فنحن حتى هذه اللحظة نعاني من عجز في أعداد المعلمين.. إن وزير التربية والتعليم يتحايل في تقاريره على المجلس والنواب والشعب، مدعيًا أنه حل مشكلة عجز المعلمين من خلال “معلمي الحصة”، الذين أرى أن وضعهم الوظيفي غير مستقر، وبالتالي لا يمكن أن نحصل منهم على ناتج تعليمي جيد لأبنائنا”.

وتضيف: “هناك مواد من المفترض أن تشكل ثقلاً في المستوى العلمي لأبنائنا منذ مرحلة رياض الأطفال وحتى نهاية المرحلة الثانوية، عندما تلغى مواد وتجعل أخرى خارج المجموع، فإن ذلك بمثابة قلبٍ كاملٍ للعملية التعليمية رأسًا على عقب، لم تُراعَ مستويات الفقر الموجودة في المجتمع المصري، فالوزير يريد أن ينقل تجارب، من المدارس الدولية وغيرها، ليطبقها في التعليم العام، بينما البنية التحتية للتعليم العام في مدارسنا الحكومية غير مؤهلة لاستقبال فكرة وجود نظامين في المرحلة الثانوية: النظام العادي الطبيعي، ونظام البكالوريا”.

وتكشف سناء السعيد، عن أن وزير التعليم صرح بلسانه في لجنة التعليم عندما ناقشه نواب البرلمان، بأنه ما زال سيتقدم بطلب لاعتماد نظام البكالوريا في المؤسسات الدولية في الخارج، لأن الشهادة الوحيدة المعتمدة في مصر هي الثانوية العامة، والتي تتيح للطالب الالتحاق بالجامعات في أي دولة يسافر إليها، أما موضوع البكالوريا، فحتى صدور القانون، هو غير معترف به على الإطلاق. ومن المستحيل أن يكون لدينا نظامين يختار الطالب بينهما، ثم تعتمد المؤسسات الدولية هذين النظامين معًا، معتبرة أن المنظومة بها خلل كبير وواضح، وسينعكس أثر ذلك على الطلاب ومستقبلهم أولاً، ويزيد من المعاناة التي سيتكبدها أولياء الأمور.

فيما ينتقد النائب الدكتور فريدي البياضي، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، من الطريقة التي مررت بها تعديلات قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981، خلال أسبوع فقط ودون عرضه على حوار مجتمعي شامل يضم المعلمين وأولياء الأمور والطلاب وخبراء التعليم، ويُحذّر من العواقب الخطيرة لتلك التعديلات على العدالة الاجتماعية وجودة التعليم في مصر، واصفًا ذلك بالعبث التشريعي الذي يهدد استقرار منظومة التعليم .

وفي حين يرى النائب أن بعض التعديلات إيجابية مثل إدخال نظام “البكالوريا التكنولوجية”، واعتماد نظام الجدارات، وتطوير آليات التقييم، وربط التعليم الفني بسوق العمل، فإنه يشير لوجود عيوب جوهرية في تعديلات القانون من شأنها ضرب مبدأ مجانية التعليم المنصوص عليه في المادة 19 من الدستور، من خلال فرض رسوم امتحانات وإعادة تصل إلى 2000 جنيه، وهو ما يُهدد بزيادة معدلات التسرب من التعليم، وخلق تمييز طبقي صارخ. 

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “أرى أن رفع نسبة النجاح في مادة التربية الدينية إلى 70٪؜، دون مراعاة غياب المعلمين المتخصصين، وضعف المناهج، والتفاوت بين الأديان والطوائف، سيدفع التلاميذ لأخذ دروس خصوصية في الدين أو اللجوء للغش، كما أن القانون منح صلاحيات واسعة للوزير في تحديد الرسوم وشروط القبول والمعايير الأكاديمية، دون رقابة برلمانية أو ضمانات تشريعية، وفتح الباب أمام برامج مهنية مدفوعة داخل المدارس دون ضوابط كافية لضمان الجودة أو اعتماد رسمي، وهذا الأمر سيُحوّل التعليم إلى سلعة”.

ويعتبر النائب أن إصلاح التعليم قضية أكبر من تعديلات القانون، وأكبر من قدرات أي وزير مهما كانت نواياه، داعيًا إلى أن يصبح التعليم مشروعًا قوميًّا تتبناه الدولة بأكملها، وتضعه على رأس أولوياتها.

 

نوصي للقراءة: الجامعات الأهلية في مصر: من الحق في التعليم إلى امتياز مدفوع الثمن

 حالة ارتباك؟

لا يُخفِ الدكتور محمد عبد العزيز، أستاذ العلوم والتربية بجامعة عين شمس، استياؤه تجاه حالة الارتباك والتخبط المنهجي في النظام التعليمي الجديد الذي وافق عليه مجلس النواب تحت مسمى “نظام البكالوريا المصرية”، والذي اعتبره يفتقر إلى رؤية واضحة أو أسس علمية لبناء منظومة تربوية حديثة، ومن شأنه أن يحمل كوارث ستثقل كاهل الطالب وولي الأمر.

ويرى الخبير التربوي الأكاديمي أن المنظومة الجديدة، خصوصاً ما يتعلق بتطبيق نظام البكالوريا في المرحلة الثانوية، تقوم على قاعدة غير متجانسة من المناهج، ولا ترتبط بمصفوفة معايير واضحة تُراعي السياقات التعليمية السابقة، متسائلًا: “من الذي وضع هذه المناهج؟ أين المعايير التي بُنيت عليها؟ كيف يتم إطلاق نظام مصيري دون إعداد المعلمين أو تجهيز المناخ المدرسي المناسب؟”، مؤكدًا أن ما يجري لا يعدو كونه “مقترحًا شكليًا لم يُناقش مع أهل التخصص، وقد جرت الموافقة عليه في البرلمان دون مساءلة أو تدقيق”.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “كيف أُطالب بتدريس مقررات”المستوى الرفيع”، بينما لم يمر الطالب بأساسيات المقرر نفسه؟! من الذي سيدرسها؟ وهل المدارس أصلًا مؤهلة لذلك؟، ويمثل تعديل نظام التقييم في الصف الثالث الإعدادي، ليتم احتساب 20% من المجموع الكلي لأعمال السنة، ضغطًا ممنهجًا على الطلاب وأولياء أمورهم، خاصة في سنة دراسية مصيرية، وهذا القرار يضع جزءًا كبيرًا من مصير الطالب في يد المعلم، دون ضمانات تمنع استغلاله أو الضغط به على التلميذ. هو ببساطة وسيلة لإجبار الطالب على الحضور، بينما تظل أسباب غيابه الحقيقية، وعلى رأسها ضعف جودة التعليم، بلا علاج”.

ويشير إلى أن فرض الحضور بدرجات أعمال السنة في ظل كثافة طلابية مرتفعة، ونقص حاد في المعلمين، ومناهج تحتاج إلى تطوير جذري، لا يعدو كونه “تنمّرًا تعليميًا”، مضيفًا: “إذا كنتم تريدون عودة الطالب إلى المدرسة، فابدؤوا بتحسين ما يُقدَّم له داخلها. لا تجبروه على الرجوع لمنظومة منفرة، بل قوموا بتغييرها من الداخل”، مشددًا على أهمية عرض أي مشروع تعليمي جديد وفق الأعراف التربوية، على المتخصصين والخبراء، قبل تمريره كقانون نهائي، لأن المجتمع لا يتحمل مزيدًا من التجريب العشوائي على جيل كامل من الطلاب”.

 

نوصي للقراءة: إلغاء مواد من الثانوية العامة في مصر: خطوة نحو التغيير أم تقليص للتعليم؟

إقصاء المعلم من القانون

وفي السياق نفسه تٌحذّر الدكتورة بثينة عبد الرؤوف، الخبيرة التربوية، من أن إدخال نظام “البكالوريا المصرية” كمسار موازٍ للثانوية العامة سيُنتج حالة من الفوضى التشريعية والتعليمية، خاصة في ظل غياب أي إعداد حقيقي للمعلّمين أو الطلاب أو حتى إدارات المدارس لفهم النظام الجديد، ناهيك عن تنفيذه؛ إذ أ نظام البكالوريا، كما طُرح، يعتمد على تقسيم المسارات إلى أربع فروع: الهندسة، الطب، التجارة، وهذا التصنيف جديد تمامًا على العقل التربوي المصري، متسائلة: كيف نُدخل الطلاب في مسار متخصص من الصف الأول الثانوي دون أن نُعدّهم نفسيًا أو معرفيًا؟ ومَن سيتولى تدريس هذه المقررات؟.

وترى الخبيرة أن تعدد المسارات، وما يتضمنه من إمكانية اختيار الطالب لمسار إضافي بغرض تحسين فرصه في الالتحاق بالجامعة، يعني عمليًا تمديد الدراسة إلى أربع سنوات، وتحميل الأسرة تكاليف دراسية مضاعفة، خصوصًا في ظل ارتفاع تكلفة الدروس الخصوصية، متوقعة أن يضطر أولياء أمور التلاميذ لدفعهم نحو اختيار أكثر من مسار خوفًا من ضياع الفرصة، والنتيجة ستتمثل في تحملهم عبء مالي، وحدوث تمييز طبقي صارخ، وأن يكون لدينا تعليم مشوّش.

وتصف الخبيرة التربوية خريطة الثانوية العامة في مصر اليوم بـ”المتشظية”، إذ صار هناك أكثر من نظام داخل التعليم الحكومي نفسه: الثانوية العامة التقليدية، البكالوريا المصرية، نظام مدارس النيل، بجانب الأزهر، والمدارس الدولية بأنظمتها الأمريكية والبريطانية، مشيرة إلى أن كل طبقة اجتماعية في مصر أصبحت لديها ثانوية عامة مختلفة، معتبرة أن هذه ليست مرونة تربوية، بل فوضى مقنّنة.

تقول لـ”زاوية ثالثة”: “من أكبر ثغرات قانون التعليم المقترح هو غياب أي رؤية لمعالجة أزمة نقص المعلمين. “كيف نتحدث عن تطوير تعليمي في ظل عجز مزمن؟ التعليم لا يمكن أن يستمر بدون المعلم. حتى لو أدخلنا التكنولوجيا والأنظمة الحديثة، لا بد من وجود إنسان يعلّم ويتفاعل. تجاهل المعلم في القانون، وعدم التطرق إلى سبل سد العجز، يجعل من أي تطوير شكلاً بلا مضمون”.

وترفض الخبيرة إدراج نسبة 20% من درجات الصف الثالث الإعدادي كأعمال سنة، معتبرة أن هذه السنة هي الوحيدة التي يُقاس فيها الطالب بعيدًا عن سلطة المدرس أو تأثير الدروس الخصوصية، وأن إدخال أعمال السنة في هذه المرحلة يفتح الباب أمام عدم العدالة، وربما الاستغلال، مضيفة: “الصف الثالث الإعدادي كان آخر ما تبقّى من مساحات التقييم الموضوعي، لأن الطالب ينجح أو يرسب وفق امتحان رسمي واضح. أما الآن، فقد يُعاقب الطالب فقط لأنه لم يأخذ درسًا، أو لأنه لم يرضَ معلمه. بهذا نفقد البوصلة التربوية”.

ورغم تحفظاتها على القانون الجديد فإنها تعتبر أن الاتجاه نحو تعزيز التعليم الفني التكنولوجي، ومد سنواته إلى خمس بدلاً من ثلاث، يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، كون هذا القطاع كان مهمّشًا، رغم أن سوق العمل في أمس الحاجة إليه.

 

نوصي للقراءة: هل تستعد الجامعات المصرية لمستقبل بلا طلاب دراسات عليا؟

الانتقاص من مجانية التعليم

من ناحيته يرى الدكتور كمال مغيث، الباحث بالمركز القومي للبحوث التربوية، أن المسار الحالي لا يمثل مجرد تطوير شكلي، بل يكشف عن سياسة ممتدة من الانتقاص التدريجي من مجانية التعليم وحق المواطنين في مدرسة حكومية جيدة، مشيرًا إلى أن جذور الأزمة تعود إلى عام 2014، حين أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، فور توليه الحكم، قرارًا بعدم تعيين معلمين جدد في المدارس الحكومية. 

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “منذ ذلك الحين أصبح لدينا عجز هيكلي تجاوز اليوم 600 ألف معلم، والسبب المباشر كان الخضوع لشروط صندوق النقد التي قضت بوقف التعيين في الجهاز الإداري، فدُفنت أي محاولة للإصلاح من أساسها”.

ويوضح الباحث أن الانسحاب لم يقتصر على الموارد البشرية، بل امتد إلى الميزانية نفسها؛ إذ أن المادة 19 من الدستور تلزم الدولة بتخصيص 4% من الناتج المحلي الإجمالي للتعليم، بينما لا يتجاوز ما يُصرف فعليًا 1.8%، أي أقل من النصف، الأمر الذي اعتبره تقليصًا مقصودًا، لا يمكن وصفه إلا بأنه انسحاب سياسي من مسؤولية الدولة تجاه التعليم، مؤكدًا أن فرض المصروفات على التعليم الحكومي، وإن بدت رمزية في ظاهرها، يمثل تحوّلاً في الفلسفة التربوية نفسها، من الحق إلى الامتياز. 

ويضيف، في تصريحاته: “حين تُطالب الأسر الفقيرة بدفع 300 أو 500 جنيه، بعد أن نشأت أجيال على مجانية التعليم، فأنت تخلق طبقية تعليمية تحت غطاء التقشف، وهذه السياسات تمهّد لفكرة واحدة هي أن التعليم الجيد لم يعد للجميع”.

وفي ما يخص تعديلات قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981، يؤكد مغيث أنها لا تنفصل عن هذا المسار، ويعتبرها محاولة تشريعية لتقنين فكرة المصروفات داخل القانون، عبر فرض نظامين مختلفين للتعليم تعليم تقليدي وآخر بنظام البكالوريا، متوقعًا أن النتيجة المباشرة ستكون أن الفقير سيذهب للمدرسة كي ينجح فقط، بينما يستطيع الأغنياء دفع أموال لتحسين الدرجات والحصول على فرص تعليمية أفضل، الأمر الذي سيخلق تمييز طبقي لا يليق بمجتمع يدّعي المساواة.

ويختتم مغيث حديثه معنا، مُحذّرًا من أن “العدالة التربوية تُفكك من الداخل، لا بضربة واحدة، بل عبر قرارات متراكمة تسلب التعليم معناه، وتحوّله من حق دستوري إلى خدمة مدفوعة، يتحدد شكلها وفق قدرة ولي الأمر لا قدرات الطالب”.

 

نوصي للقراءة: لمن استطاع إليه سبيلا.. بيزنس “الكريديت” يجتاح الجامعات الحكومية

فتح الباب لاختيار ديمقراطي؟

على النقيض من آراء الخبراء الذين أبدوا انتقاداتهم وتخوفاتهم تجاه تعديلات قانون التعليم وإدخال “البكالوريا المصرية” كنظام موازٍ للثانوية العامة، فإن الدكتور حسن شحاتة، أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية بجامعة عين شمس، يصف ما يجري بأنه توجه ديمقراطي نادر الحدوث في تاريخ التعليم المصري، كونه يتيح لأول مرة للطلاب وأولياء أمورهم حرية المفاضلة بين نظامين مختلفين للتعليم الثانوي، بناءً على الرؤية الشخصية والقدرة الاستيعابية والاستعداد النفسي والمعرفي للطالب.

ويرى أستاذ المناهج وطرق التدريس أن نظام الثانوية العامة التقليدي أثبت إخفاقه في أكثر من موضع، كونه نظام قائم على الحفظ، لا يُتيح تحسين الدرجات، ولا يؤهل الطالب فعليًا للتعليم الجامعي، ولا يربطه بأي مسار علمي محدد، كما يُقصيه عن تخصصات مطلوبة في سوق العمل، والنتيجة أن الطالب يمر بمرحلة ثانوية خاوية، ثم يُلقى به في جامعة لا يعرف لماذا اختارها؟، أو إلى أين تقوده؟.

في المقابل، يُقدّم شحاتة رؤية مغايرة بشأن نظام البكالوريا المصرية، بوصفه مسارًا يراعي التنوع الأكاديمي والتخصصي، ويمنح الطالب قدرة على بناء مساره العلمي من المرحلة الثانوية نفسها، عبر مسارات متخصصة ترتبط بالهندسة أو الطب أو التجارة أو العلوم الإنسانية، بما يواكب احتياجات الاقتصاد الوطني وسوق العمل، معتبرًا أن الميزة الأبرز للقانون ليست في المحتوى وحده، بل في الفلسفة العامة للنظام الجديد.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “الوزارة لم تفرض البكالوريا على الجميع، بل فتحت الباب لاختيار الطالب بين النظام التقليدي والبكالوريا، وهذا أمر غير مسبوق في تاريخنا التعليمي، ويعكس احترامًا حقيقيًا للتعدد والحوار المجتمعي، وهو أحد توجهات الدولة المصرية الحديثة، ووزارة التعليم لا تعمل بمعزل عن الناس”.

يختم شحاتة تصريحاته بالتأكيد على أن الإصلاحات الحالية في التعليم، وعلى رأسها إتاحة البكالوريا المصرية، ليست مجرد سياسات إدارية، بل تعبير عن رؤية أوسع نحو “بناء الإنسان المصري الجديد”، وفقًا لتوجهات الدولة ورؤية الجمهورية الجديدة، قائلًا: “نحن أمام تعليم يُعاد تشكيله ليكون ضمن منظومة تنافس عالمية، تستند إلى العقل لا إلى الحفظ، وإلى الحوار لا إلى الفرض”.

 

نوصي للقراءة: توزيع مدرسي يُبعد أطفالًا في الجيزة 100 كم عن مدارسهم

معاملة ولي الأمر كخصم لا كشريك

فيما تٌعبّر فاطمة فتحي، مؤسسة مبادرة “تعليم بلا حدود”، عن قلقها المتصاعد بوصفها إحدى أولياء الأمور الذين سيلتحق أبناؤهم بالنظام الجديد للثانوية العامة، المعروف باسم “البكالوريا المصرية”، واصفة أن النظام الجديد غامض وغير مكتمل الملامح، معتبرة أن تقسيم المواد على سنتين قد يكون خطوة جيدة لبعض الطلاب، لكنه في المقابل سيطيل أمد الثانوية العامة إلى أربع أو خمس سنوات في بيوت مصرية لا تملك رفاهية الوقت أو المال، موضحة أن هناك أُسر لديها توأم أو أكثر قد تجد نفسها في حلقة مفرغة لا تنتهي من الثانوية”.

تقول لـ”زاوية ثالثة”: “الوزارة لم تُطلعنا حتى الآن على ما سنختار، فكل ما نعرفه حتى الآن منشورات مبعثرة على فيسبوك، وقرارات متضاربة لا ترقى لمستوى أن تُحدد مستقبل جيل بأكمله، نريد تصريحًا واضحًا من الوزير، لا من مدونة مجهولة أو تصريح صحفي مقتضب”، متسائلة: “ما شكل المناهج؟ هل هي نفس مناهج الصفين الثاني والثالث الثانوي التي وضعتموها مؤخرًا؟ ماذا عن نظام الامتحانات؟ هل ستُجرى باستخدام البابل شيت أم لا؟ وهل نظام البكالوريا معتمد فعليًا أم ما زال قيد البحث؟، كيف أدخل ابني نظامًا دراسيًا لا أعلم إن كانت شهادته معترفًا بها؟ ماذا لو لم ينجح؟ هل تصبح الشهادة الإعدادية آخر محطة في تعليمه؟”.

وتضيف مؤسسة المبادرة: أن “تحسين الدرجات مجرد فخ جديد، لأنه مرتبط بالقدرة على الدفع، حتى لو كان المبلغ 200 جنيه؛ فمن أنهى لتوه ماراثون الدروس الخصوصية لا يحتمل المزيد”، معتبرة أن وزير التربية والتعليم الحالي يبدو أنه قرر أن يجعل من ولي الأمر عدوه الأول، وأن الآن لا المعلم ولا الإداري، ولا النائب البرلماني، ولا ولي الأمر يفهمون المنظومة التي وضعها بنفسه.

وتشير فاطمة إلى أن الوزارة تُطبّق مناهج مختلفة على أربع دفعات متتالية منذ الصف الرابع الابتدائي، مما يخلق جيلًا لا يحمل خبرة تعليمية مشتركة، كون كل دفعة درست منهجًا مختلفًا عن سابقتها، والآن تُغيّر مناهج الصفين الثاني والثالث الثانوي وتُحقهم بنظام جديد قد يتغيّر مجددًا بسبب البكالوريا.

وفي الوقت الذي تروّج فيه الحكومة لتعديلات قانون التعليم باعتبارها “نقلة نوعية” نحو تعليم حديث ومتعدد المسارات، فإن كثير من التربويين والخبراء وأولياء الأمور يعتبرون أن القانون الجديد بمثابة قفزة في المجهول، يتحمّل الطالب وولي الأمر والمعلم تبعاتها، وفي ظل غياب خريطة تنفيذية واضحة، وبنية تحتية مؤهلة، وتكافؤ في فرص الوصول إلى المعرفة، لا تبدو الوعود الرسمية كافية لطمأنة المواطنين، الذي يخشون أن يتحول أبنائهم إلى فئران تجارب للنظام التعليمي الجديد، وأن تفقد مجانية التعليم معناها تدريجيًا تحت مسمى التطوير، فيما تظل العدالة الاجتماعية هدفًا مؤجلاً.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search