القهر يفعل أكثر من ذلك..!

239

دار حديث بيني وبين أحد الأصدقاء – يدرس العلوم الطبيعية – في فلك تحقيق العدالة في ربوع المجتمع، وحماية حقوق الإنسان، لم يتردد صديقي في إطلاق سهام مبلورة في صورة تساؤلات تقدح في كيان المجتمع، وتجعلنا أن نعيد النظر في نظرية العقد الإجتماعي – فعلى سبيل المثال؛ هل التنازل عن جزء من حريتنا في سبيل الفرار من حالة الفطرة منطقي خاصة في ظل المثالب التي تخللت كل الحقب الزمنية في العلاقة بين المحكومين والأداة الحاكمة؟ - التي عفا عليها الزمن.

ولكن، لو أفتراضنا مصداقية جوهر هذه النظرية وصحتها وإيمان المجتمع بها وتطبيقه لها، ماذا نفعل لو أفتراضنا أن الغاية لم تتحقق؟، أي أن الهدف الأساسي منها – النظام – بات شكلي بلا جوهر، لا سيما في ظل الفساد الإداري وأفول دولة سيادة القانون، مما يتمخض على ذلك، خلق مجتمع ينهش وباء الإستبداد في أوصاله، كما تنطوي إنتهاكات الأداة الحاكمة إزاء المحكومين على تعقب أصحاب الرأي الحر، وكل مقارع للفساد، فما هي مغبة هذا التعقب، أي ما هي نتيجة الزج بشاب بالتذرع بحفنة من الإتهامات المجحفة في غياهب السجون؟، هل هذا الشاب سيخنع للأمر الواقع، أ أن هذا التنكيل سينمي في صدره غريزة الأنتقام في آن واحد قد يتعرض فيه لتحولات فكرية راديكالية؟، هل التنازل عن جزء من الحرية للفرار من الحالة الأنارشية تقتضي إعادة النظر فيها إذا تخطى أحد المسؤولين – الأداة الحاكمة – حدود وظيفته؟

تساؤلات كانت لا محل للإجابة عليها في اللحظة التي أنطلقت فيها، ولكن أكتشفت أن الإجابة على هذه التساؤلات نسبية، فبعد أن أجبرني حديث يدور بين شباب – أثناء ركوبي وسيلة مواصلات- على إرهاف السمع له، تبين لي من الكلمات التي لاكتها ألسنتهم، أن هناك فريق في المجتمع يرى أن من العبث التحدث عن أحترام القانون في مجتمع تعصف فيه الأداة المسؤوة عن وضعه حيز النفاذ آناء الليل وأطراف النهار بمضمونه، فبالتالي أستخدام العنف مطلوب وإزاحة الأذى عن الناس في مجتمع تتغاضى فيها الأداة المسؤولة عن حمايتهم عنه ضرورة لا مراء فيها.

وأتضحت لي مرة أخرى النسبية بصورة فضفاضة، عندما حضرت ندوة أنعقدت في الجامعة تحت عنوان مجابهة الإرهاب فكر بفكر، وتفحصت ردود أفعال الشباب والشابات لا سيما قبل الندوة، فبالرغم من أن فكرة الندوة كانت جيدة، إلا أن وضعها في خانة الفعل أفقدتها جودتها من ناحيتين، فمن ناحية أولى؛ عزف العديد من الطلاب والطالبات عن الحضورإما لعدم أكتراثهم بهذه القضية أو لهواجسهم التي شبهت الندوة بالمصيدة المنصوبة من قبل الأجهزة الأمنية لكل صاحب رأي مارق عن القطيع، فأحال التجس بينهم وبين الحضور. ومن ناحية ثانية؛ تناقض آلية إدارة الندوة مع عنوانها، فأحادية - أي أن الحوار كان من طرف واحد من قبل المحاضرين فقط دون إتاحة الفرصة للشباب الحاضرين للحديث عما يدور في نفوسهم- الندوة بلورة ديكوريتها .

ما بين هذين الموقفين؛ أصابتني الحيرة في الإجابة على هذه التساؤلات فالفريق الأول يرفض الخنوع والمقاومة السلمية، والفريق الثاني أنزلق في خانات السأم، ولكني في نهاية الأمر تيقنت أن غض الطرف عن الممارسات القمعية والرضوخ لها لمسايرة الحياة – خلقنا لنعترض (مكسيم جوركي)- يفقدنا آدميتنا، كما أن العنف لا يمكن أن يواجه بعنف لأن مواجهة العنف بعنف لن يسفر إلا عن إساغة العنف الموجهه من قبل الأداة الحاكمة للمحكومين – لا سيما أصحاب الرأي الحر والمدافعين عن حقوق الإنسان- فالتمسك بالسلمية عن طريق سلك السبل القانونية في الدفاع عن حقوق الإنسان ومبادئ العدالة هي التي تزج بنا في خانة المنتصر حتى ولو كنا في ذات الوقت قابعين في غياهب السجون، أو تعرضنا لتصفية الجسدية، كما تيقنت أيضاً أن مقارعة الإرهاب لن تأتي إلا عن طريق مقارعة أفكاره بصورة منهجية وحقيقية تنحو ناحية تقويض دعائمه بمنطقية، وأن الشباب الذين يتعرضون لتحولات فكرية راديكالية لانبغي بلورتهم في صورة الفزاعة بل يجب الإحاطة بالظروف والملابسات التي وضعتهم على بداية طريق الأنصياع وراء أفكارهم الإرهابية، فالفريق الأول من الشباب يرى أن من الأحرى مواجهة القوة بالقوة، والفريق الثاني الذي عزف عن المشاركة في ندوة تنظمها الجامعة عزوفه كان بمثابة إعلان صريح عن سقوطه في مستنقع القنوط وخوفه من إبداء رأيه يعتبر نتيجة طبيعية ولا نبالغ إذا قولنا أن القهر يفعل أكثر من ذلك.

محمد عيسى

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك