close

غرق أراضي الدلتا.. غياب التنسيق يضع مصر تحت رحمة “تشغيل النهضة الأحادي”

إثيوبيا صرفت أكثر من 7 مليارات متر مكعب من المياه خلال 10 أيام دون إخطار مسبق، ما أدى إلى غمر ألف فدان من الأراضي الزراعية في مصر، وسط تضارب حكومي حول حجم الأزمة وتوصيف المناطق المتضررة.
Picture of آية ياسر

آية ياسر

يشهد نهر النيل في مصر ارتفاعًا ملحوظًا في منسوبه، منذ مطلع أكتوبر الجاري، إثر قيام إثيوبيا بإفراغ كميات كبيرة من المياه بشكل مفاجئ، ورفع التصريف من 280 مليون متر مكعب يوميًا إلى 110 مليون متر مكعب، ما أدى إلى غمر بعض الأراضي الزراعية على ضفاف النهر في محافظتي البحيرة والمنوفية، تُقدّر مساحتها بحوالي ألف فدان، وفي السودان المجاور، بلغ المنسوب 16.9 متر، وهو ثاني أعلى مستوى تاريخي بعد 17.6 متر في 2020، مما يهدد 16 ولاية بفيضانات كارثية، ويعكس التأثير الإقليمي لإدارة السد الإثيوبي. 

بدورها أقرت الحكومة المصرية إجراءات وقائية، بما في ذلك زيادة تصريف المياه من السد العالي لاستيعاب التدفق الزائد، والذي من المتوقع أن يستمر حتى نهاية أكتوبر الجاري، فيما حذرت وزارة الموارد المائية والري من مخاطر على المناطق المنخفضة، ودعت المزارعين إلى اتخاذ احتياطات، موضحة أن بعض الأراضي المغمورة مخصصة للزراعة الشتوية فقط، وعزت الوزارة الارتفاع المفاجئ في منسوب نهر النيل بدولتي المصب إلى الإدارة الأحادية غير المنضبطة للسد الإثيوبي، وقيام إثيوبيا بتخزين كميات كبيرة من المياه ثم تصريفها بشكل مفاجئ بعد احتفال افتتاح السد في سبتمبر، ما تسبب في فيضان صناعي مفتعل أضر بالسودان وأراضيه الزراعية. 

وقالت الوزارة، في بيان لها، الجمعة، إن الأراضي التي غمرتها المياه في مصر هي أراضي طرح نهر بطبيعتها معرضة للغمر، وليست محافظات غارقة كما يُشاع، كذلك طمأنت المواطنين إلى أن السد العالي يُدار بكفاءة لحماية مصر من تقلبات الفيضان وضمان تلبية الاحتياجات المائية، وبالتزامن عقد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، اجتماعًا لمتابعة الخطة التنفيذية لمنظومة تطهير المجاري المائية، بحضور وزراء الري والتنمية المحلية والزراعة ومسؤولي الجهات المعنية.

 

المصدر: الصفحة الرسمية لوزارة الموارد المائية والري

وفي السياق ذاته أعلن الهلال الأحمر المصري رفع درجة الاستعداد القصوى لمساندة جهات الدولة في مواجهة آثار ارتفاع منسوب نهر النيل بالمحافظات المتضررة، كما وجهت الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي ونائبة رئيس الهلال الأحمر، بمتابعة احتياجات الأهالي وتقديم الدعم العاجل، وتعمل فرق الطوارئ بمحافظة المنوفية على الوصول للقرى المتضررة، فيما تتابع غرفة العمليات المركزية جاهزية الفروع في 15 محافظة معرضة للمخاطر، كما تجري تقييمًا ميدانيًا بقرية جُزيّ لرصد الأضرار التي اقتصرت على غرق حظائر مواشي دون خسائر بشرية، مع الاستعداد لتدخلات عاجلة بقرية دلهوم بمركز أشمون.

قرية دلهمو بمحافظة المنوفية
قرية دلهمو بمحافظة المنوفية.. فيسبوك

من ناحيته اعتبر الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري السابق، أن غرق بعض أراضي طرح النهر في مصر، مؤخرًا، يرتبط بمجموعة من العوامل الطبيعية والفنية المعقدة، وفي مقدمتها غياب التنسيق حول تشغيل سد النهضة الإثيوبي، موضحًا أن إثيوبيا ترفض حتى الآن توقيع اتفاقية ملزمة بشأن ملء وتشغيل السد بما يحقق أهدافها التنموية من توليد الكهرباء، ويحافظ في الوقت نفسه على الأمن المائي لدولتي المصب، مصر والسودان. 

وقال علام ، في تدوينة له عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إن أكبر مخاوف مصر تتعلق بفترات الجفاف الممتد، حين قد تحتفظ أديس أبابا بمخزون مائي ضخم لتوليد الكهرباء، ما يهدد بتقليص كميات المياه الواردة إلى مصر، مضيفًا أن مصر، كإجراء وقائي مؤقت، نفذت خلال السنوات الماضية مشروعات ضخمة لتأمين مواردها المائية، من بينها معالجة مياه الصرف الزراعي، وتبطين الترع لتقليل الفاقد، وتقليص زراعة المحاصيل الشرهة للمياه كالقصب والأرز، حفاظًا على مخزون كافٍ في بحيرة ناصر لمواجهة أي نقص محتمل في الإيراد المائي.

وأشار الوزير الأسبق إلى أن ما جرى في الأسابيع الماضية تزامن مع امتلاء سد النهضة بالكامل وتصريف كميات محدودة خلال شهري أغسطس وسبتمبر، بالتزامن مع معدلات أمطار استثنائية على النيل الأزرق، ما رفع الإيراد المائي للنهر إلى نحو 750 مليون متر مكعب يوميًا، في حين كانت السدود السودانية ممتلئة وغير قادرة على استيعاب كميات إضافية من المياه، وهو ما تسبب في غرق مساحات واسعة من الأراضي السودانية، موضحًا أن هذه الزيادات المائية اتجهت نحو مصر بينما كانت بحيرة ناصر ممتلئة بالفعل مع انتهاء موسم الري الصيفي، ما دفع السلطات المصرية إلى فتح مفيض توشكى لتصريف المياه الزائدة، وهو ما تسبب في غمر نحو ألف فدان من أراضي طرح النهر المنخفضة، دون أن تتعدى المياه جسور النيل أو تسبب أي خسائر في المناطق المأهولة.

وكان رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، قد أعلن في يوليو الماضي، إنجاز بلاده العمل على سد النهضة الذي شيدته على النيل الأزرق، زاعمًا انفتاح بلاده على الحوار واستعدادها الكامل للدخول في مفاوضات مع مصر والسودان، لتحقيق التنمية المشتركة وضمان مصالح جميع الأطراف، وفي التاسع من سبتمبر المنقضي افتتحت  أديس أبابا  سد النهضة رسميًا، بحضور عدد من الرؤساء والمسؤولين الأفارقة.

فيما أكدت مصر إنها لن تغض الطرف عن مصالحها الوجودية في نهر النيل، واعتبرت وزارة الخارجية المصرية، خلال خطاب وجهته إلى مجلس الأمن الدولي، منتصف سبتمبر الماضي، أن التصرفات الإثيوبية الأخيرة تمثل خرقاً جديداً يضاف إلى قائمة طويلة من الانتهاكات الإثيوبية للقانون الدولي، والبيان الرئاسي لمجلس الأمن الصادر في 15 سبتمبر عام 2021، والذي دعا مصر والسودان وإثيوبيا إلى استئناف المفاوضات للوصول إلى اتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل السد.

ويؤكد السفير رخا أحمد حسن، – مساعد وزير الخارجية الأسبق وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية وعضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة-، لـ”زاوية ثالثة”، أن المفاوضات بشأن سد النهضة متوقفة حاليًا، إلا أن استئنافها يظل احتمالًا قائمًا، مشددًا على ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم بين مصر وإثيوبيا والسودان لتنظيم إدارة المياه، خصوصًا في فترات الجفاف أو الفيضانات العالية، موضحًا أن هذا المطلب يمثل ثابتًا رئيسيًا في الموقف المصري، الذي لن تتنازل عنه القاهرة، باعتباره الضمان الوحيد لتجنب الأضرار الناجمة عن السياسات الأحادية.

ويرى السفير أن قيام إثيوبيا بفتح أربع بوابات من السد بشكل مفاجئ وتصريف كميات كبيرة من المياه نحو السودان ومصر يعكس غياب التنسيق بين الدول الثلاث، مشيرًا إلى أنه لو وُجد اتفاق ملزم بشأن إدارة السد لما حدث هذا الأمر بتلك الصورة، مُبيّنا أن فتح أربعة من بوابات سد النهضة قد يكون نتيجة ارتفاع منسوب الفيضان، أو رغبة إثيوبيا في إظهار قدرتها على تشغيل السد وتوليد الكهرباء، إلا أن ما يثير التساؤل هو غياب أي إخطار مسبق لدولتي المصب، وهو ما يُبرز مجددًا أهمية التنسيق الثلاثي لتفادي الأضرار المحتملة.

وكان السفير بدر عبد العاطي، وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، التقى، السفير محي الدين سالم وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني، خلال زيارته إلى بورسودان، مطلع أكتوبر، وخلال لقائهما أكد الجانبان على وحدة موقف بلديهما كدولتي مصب لنهر النيل، وشددا على ضرورة الالتزام الكامل بالقانون الدولي في حوض النيل الشرقي، والرفض التام للإجراءات الأحادية في نهر النيل.

وفيما يتعلق بزيارة وزير الخارجية إلى السودان، أوضح السفير رخا أحمد حسن أن الزيارة جاءت في إطار التنسيق الثنائي والتشاور حول الأزمة السودانية، والسعي إلى تسوية سياسية بين طرفي الصراع، إلا أن ملف سد النهضة كان حاضرًا بقوة خلال اللقاءات مع كل من رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء، ووزير الخارجية السوداني، مشيرًا إلى أن الجانبين المصري والسوداني شددا على ضرورة التنسيق المشترك بين دولتي المصب في مواجهة الإجراءات الأحادية الإثيوبية، وعلى أهمية التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم يراعي مصالح البلدين في أوقات الجفاف والفيضانات، خاصة بعد أن امتدت آثار الفيضانات إلى أطراف العاصمة السودانية الخرطوم.

يقول حسن لزاوية ثالثة: “التنسيق بين مصر والسودان بات أمرًا ضروريًا للتحرك على المستويين الإقليمي والدولي، ويجب ممارسة ضغط دولي على إثيوبيا بعد اكتمال بناء السد، إذ لم يعد هناك مبرر لاستمرار التعنت، وأي اتفاق مرتقب يجب أن يُبنى على الاعتراف بحقيقة أن النيل الأزرق رافد رئيسي من نهر النيل وليس نهرًا إثيوبيًا خالصًا، ما يفرض التزامات قانونية واضحة تجاه دولتي المصب”، مؤكدًا أن تلك التحركات تعكس رؤية مصرية شاملة تربط بين الأمن المائي والأمن الإقليمي في حوض النيل والقرن الإفريقي.

 

سد النهضة. المصدر: Maxar Technologies
سد النهضة. المصدر: Maxar Technologies

نوصي للقراءة: من “التمويل الغبي” إلى وعود بالحل… لماذا يتحدث ترامب عن سد النهضة الآن؟

إجراءات استباقية من وزارة الري

سد النهضة. المصدر: Seleshi Bekele. X
سد النهضة. المصدر: Seleshi Bekele. X


في السياق ذاته تربط الدكتورة
باكيناز عبد العظيم زيدان، – أستاذة هندسة الموارد المائية والسدود بكلية الهندسة جامعة طنطا-، زيادة التصريفات الحالية بارتفاع معدلات الفيضان والأمطار الموسمية في إثيوبيا والسودان، موضحة أن الحكومة الإثيوبية اضطرت إلى تصريف كميات أكبر من المياه بعد امتلاء خزان سد النهضة عن آخره وعدم تشغيل التوربينات حتى الآن، مؤكدة أن التشغيل الأحادي لسد النهضة يمثل “جريمة دولية”، مؤكدة أنه يحق لمصر والسودان التقدم بشكاوى رسمية إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ضد الممارسات الإثيوبية المنفردة التي تخالف قواعد القانون الدولي للأنهار المشتركة.

وكان المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري، المهندس محمد غانم، عزى ارتفاع منسوب النيل إلى قيام إثيوبيا بتخزين كميات مياه أكبر من المتوقع في السد الإثيوبي نهاية أغسطس الماضي، مع تقليل كبير في تصريفات المياه، بهدف تحقيق لقطة إعلامية خلال افتتاح السد الإثيوبي، بدلًا من تخزين المياه تدريجيًا على مدى عدة أشهر حتى أكتوبر ثم تشغيل التوربينات، موضحًا خلال مداخلة تليفزيونية، أن السلطات الإثيوبية اضطرت بعد امتلاء السد إلى إطلاق كميات كبيرة من المياه دفعة واحدة، بلغت نحو 2 مليار متر مكعب.

وتتوقع أستاذة هندسة الموارد المائية والسدود، أن تداعيات التصريفات المائية القادمة من سد النهضة الإثيوبي لن تتجاوز أراضي طرح النهر، موضحة أن هذه الأراضي تُعد جزءاً من مجرى النيل نفسه، وليست مناطق خارجه، مشيرة إلى أن ما يحدث حاليًا من ارتفاع طفيف في منسوب المياه يشبه ما كان يحدث قبل إنشاء السد العالي خلال موسم الفيضان، حين كانت المياه تغمر طرح النهر والأراضي المحيطة به مؤقتاً.

تقول لـ”زاوية ثالثة”: “التأثير الحالي يقتصر على ارتفاع محدود في منسوب المياه على جانبي النهر، وقد يؤدي إلى غمر أجزاء من طرح النهر فقط في المحافظات التي يمر بها فرعا النيل، والحديث عن غمر محافظات بأكملها غير دقيق، المشكلة أن المواطنين يتعاملون مع هذه الأراضي المزروعة على ضفاف النيل باعتبارها ملكًا لهم، رغم أنها من أملاك الدولة”.

وترى زيدان أن منظومة إدارة المياه في مصر قادرة على التعامل مع أي تصريفات زائدة، موضحة أن هناك ثلاث وسائل رئيسية لذلك: أولها تخزين المياه في بحيرة ناصر حتى أقصى سعتها، والتي تمت زيادتها فعليًا بنحو 15 مليار متر مكعب من المياه، وثانيها توجيه الفائض إلى مفيض توشكى الذي جرى تطويره ليستوعب كميات كبيرة من المياه، وثالثها فتح بوابات السد العالي عند الضرورة لتصريف المياه الزائدة، سواء لتغذية الأراضي الزراعية مباشرة أو لتطهير مجرى النهر من الرواسب والملوثات، مؤكدة أن القناطر والمنشآت المائية الجديدة صُممت لتحمل تصريفات كبيرة ويمكن تخزين المياه أمامها، ما يجعل الوضع “تحت السيطرة بالكامل”.

وفيما يتعلق بالمنخفضات جنوب توشكى، تؤكد زيدان أن البحيرات امتلأت بالكامل نتيجة زيادة التدفقات المائية، مشيرة إلى أنه يمكن الاستفادة من أي فائض إضافي عبر توجيهه إلى الأراضي الجديدة في غرب الدلتا وتوشكى أو إلى مناطق الصحراء لتغذية الخزانات الجوفية، مؤكدة أن هذه المياه “لن تسبب أي ضرر لمصر، بل تمثل موردًا إضافيًا يمكن استثماره”.

من جهته، يشرح الدكتور عباس شراقي، – أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة-، أن الفيضان الذي شهدته دول حوض النيل خلال الأيام الماضية استمر نحو أسبوعين، كان أحدهما الأكثر شدة، إذ وصلت معدلات التصريف خلاله إلى ما يتراوح بين 750 و800 مليون متر مكعب يوميًا، وهي كميات وصفها بـ”الهائلة”، مشيرًا إلى أنه لو استمر هذا المعدل لأيام إضافية، لكان سد الروصيرص في السودان معرضًا لخطر الانهيار بالفعل.

ويوضح شراقي أن الجانب الإثيوبي خفّض معدلات التصريف إلى النصف تقريبًا (حوالي 400 مليون متر مكعب يوميًا)، وهو ما أدى إلى استقرار الوضع تدريجيًا، وانخفاض منسوب المياه في السودان، سواء في النيل الأزرق أو النيل الرئيسي، وبدء انحسار المياه عن المناطق السكنية التي غمرها الفيضان، مؤكدًا أن “المشكلة في طريقها إلى الانتهاء”، مشيرًا إلى أن البلاد تشهد استقرارًا ملحوظًا منذ ثلاثة أيام، وأن الفيضان الذي حدث بدأ بالانحسار ولم يعد في تزايد.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “ما جرى ليس فيضانًا طبيعيًا ناجمًا عن أمطار غزيرة، وإنما نتيجة لسوء إدارة تشغيل سد النهضة، إذ أن إثيوبيا صرفت كميات ضخمة من المياه دفعة واحدة تعادل أربعة أضعاف تصريفات السد العالي في الظروف العادية، وهو ما تسبب في الفيضان الكبير بالسودان، المشكلة أن إثيوبيا تمتلك 21 بوابة تصريف لسد النهضة، وقد فتحت أربعًا منها فقط فتسببت في هذه الأزمة، ما يعني أنها قادرة على إغراق السودان متى أرادت”.

ويؤكد شراقي أنه لم يحدث فيضان في مصر، موضحًا أن السد العالي يقوم بحجز جميع كميات المياه الواردة وتخزينها في بحيرة ناصر، ويتم التحكم في تصريف المياه عبر بوابات السد بما يتناسب مع احتياجات الري والزراعة فقط، ويرجّح أن ارتفاع منسوب النيل مؤخرًا وغمر بعض أراضي “طرح النهر” يعود إلى إجراءات استباقية من وزارة الموارد المائية والري لتصريف جزء بسيط من المياه حفاظًا على أمان السد العالي، موضحًا أن طرح النهر جزء من مجرى النيل، وأن هذه الأراضي تُستخدم للزراعة فقط دون السماح بالبناء عليها لأنها معرضة للغمر في أي وقت.

وفيما يخص آليات التعامل مع كميات المياه الكبيرة، أوضح شراقي أن مصر تمتلك عدة حلول، أهمها مفيض توشكى، الذي لا يُفتح إلا عند الحاجة لتصريف كميات ضخمة تصل إلى 300 مليون متر مكعب يوميًا إلى الصحراء بعيدًا عن مجرى النهر، أما في حال كانت الزيادة محدودة، مثل 10 أو 20 مليون متر مكعب، فيتم تمريرها مع مياه النيل المستخدمة في الري دون الحاجة إلى فتح المفيض، مشيرًا إلى أن بحيرة ناصر لم تصل إلى أقصى سعتها بعد، ولا تزال قادرة على استقبال مزيد من المياه خلال الشهر المقبل، ما يتيح فرصة لتخفيف الضغط وحماية أراضي طرح النهر.

ويوضح شراقي أن حصة مصر السنوية من مياه النيل تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، وتصل معظمها خلال أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر، التي تمثل نحو 70% من إجمالي الإيراد السنوي، مؤكدًا أن السنة المائية تبدأ في الأول من أغسطس، ولا يمكن الحكم على حجم الحصة السنوية إلا في نهايتها، بعد احتساب كميات المياه الواردة على مدار العام.

وتقدَّر حصة مصر في مياه نهر النيل بـ55.5 مليار متر مكعب، تعتمد عليها بنحو 97 % في استخدامات الشرب والزراعة، ويتجاوز إجمالي الموارد المائية لمصر، بما في ذلك المياه الجوفية ومياه الصرف المعاد تدويرها، الـ 85 مليار م3، وفقًا لرئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي

ويضيف أن “سد النهضة سيغيّر النمط الزمني لتوزيع المياه، إذ لن تتركز تدفقات النيل في فصل الصيف كما كان الحال سابقًا، بل سيتم إطلاق المياه تدريجيًا على مدار العام وفقًا لإدارة السد الإثيوبي، موضحًا أن موسم الأمطار الغزيرة يقتصر على أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر، ويمكن أن يمتد إلى أكتوبر، وأن هذه الفترة تمثل ثلاثة أرباع الإيراد السنوي للنيل، فيما تكون بقية أشهر العام أقل مطرًا، مؤكدًا أن الوضع المائي في مصر، لا يزال تحت السيطرة تمامًا، وأن جميع المنشآت والسدود تعمل بكفاءة وتدار وفق خطط دقيقة تضمن التعامل الآمن مع أي زيادة في التصريفات.

 

الملء الخامس لسد النهضة: تحديات جديدة للحكومة المصرية

تقديرات حسابية غير دقيقة

فيما يؤكد الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية والأراضي بكلية الزراعة جامعة القاهرة، والخبير بالجمعية العمومية لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، أن مفيض توشكى مفتوح بالفعل وبكامل طاقته لتصريف كميات كبيرة من المياه، وهو ما تسبب في تدفق المياه إلى مزارع المستثمرين في توشكى وإتلاف بعض المحاصيل هناك، لكنه يرى أن ما حدث من غمرٍ لأراضي في بعض المحافظات كالمنوفية والبحيرة، يعكس وجود سوء إدارة مشتركة من الجانبين الإثيوبي والمصري، مشيرًا إلى أن إثيوبيا قامت بتصريف نحو 7.2 مليار متر مكعب من المياه خلال عشرة أيام فقط، وهو ما أدى إلى فيضانات واسعة في السودان.

قرى سودانية تعرضت للغرق.. فيسبوك
قرى سودانية تعرضت للغرق.. فيسبوك

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “وزارة الموارد المائية والري في مصر أفرغت جزءًا من بحيرة السد العالي بصورة استباقية، بهدف إفساح المجال أمام مياه الفيضان القادمة من إثيوبيا، إلا أن التقديرات الحسابية لم تكن دقيقة بما يكفي، ما نتج عنه تصريف كميات كبيرة أدت إلى ارتفاع منسوب النيل وغمر مساحات زراعية واسعة في بعض مناطق الدلتا المنخفضة، وما حدث في المنوفية لم يقتصر على طرح النهر كما ورد في بيان وزارة الري، بل شمل دخول المياه إلى حقول زراعية قائمة، الأمر الذي تسبب في تلف محاصيل ونفوق بعض الماشية في محافظات مثل البحيرة والمنوفية”.

بالإضافة إلى ذلك، ينتقد نور الدين استخدام مصطلح “أراضي طرح النهر” في بيان وزارة الري، معتبرًا أنه تعبير غير دقيق من الناحية العلمية، لأن جميع الأراضي الخصبة الطينية في مصر هي في الأصل أراضي طرح نهر تكونت من الطمي الذي رسّبه النيل عبر القرون، مٌبينًا أن التوصيف الأدق هو “أراضي شط النهر”، أي الأراضي الملاصقة للمجرى. 

ويشير أستاذ الموارد المائية والأراضي بكلية الزراعة إلى أن أغلب المزارعين المتضررين ليسوا معتدين على أراضي الدولة كما يُشاع، بل يمتلكون عقود إيجار رسمية من وزارة الري نفسها ويسددون مقابلها بانتظام، لكنه ينفي ما يُشاع من اتهامات للحكومة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتعمد إغراق هذه الأراضي بهدف إخلائها لطرحها للاستثمار، موضحًا أن الدولة تمتلك الوسائل القانونية والتنفيذية الكفيلة بإزالة أي تعديات إن وُجدت، دون اللجوء إلى هذا الأسلوب، مؤكدًا أن ما حدث نتيجة سوء تقدير وحسابات غير دقيقة في إدارة المياه، من وزارة الري.

أما عن تأثير غرق ألف فدان من الأراضي الملاصقة لنهر النيل على المحاصيل الزراعية، يوضح خبير الفاو أن التوقيت جاء في نهاية موسم المحاصيل الصيفية، مثل: الأرز والذرة، وبالتالي لم تتأثر الزراعة القائمة بشكل مباشر، لكن الضرر الأكبر طال المحاصيل التي كانت في مرحلة التجفيف بعد الحصاد، حيث تعرض بعضها للتلف بسبب تراكم المياه، وفي المقابل، لم تتأثر المحاصيل الخريفية، مثل: بنجر وقصب السكر بنفس الدرجة.

وفيما يخص الجزر السكنية الواقعة في مجرى النيل، كالوراق والزمالك والذهب، يرى نور الدين إلى أنها الأكثر عرضة للخطر في حال حدوث تصريفات مائية جديدة من سد النهضة، لوقوعها داخل المجرى المائي مباشرة، موضحًا أن جزيرتي الوراق والذهب قد تتأثران بشدة نتيجة أي ارتفاع في المنسوب، بينما تظل محافظات الدلتا أكثر تضررًا من محافظات الصعيد، نظرًا لانخفاض أراضيها وقربها من المصب.

ويختتم نور الدين تصريحاته معنا بالتأكيد على أن الأزمة الحالية تستدعي مراجعة دقيقة لآليات إدارة المياه والتنسيق الإقليمي، مشددًا على أن غياب الشفافية في إعلان كميات التصريف من سد النهضة يزيد من المخاطر على دولتي المصب، ويدفع إلى ضرورة وجود نظام إنذار مبكر وتنسيق فني ملزم بين مصر والسودان وإثيوبيا.

وفي سياق متصل يشير الدكتور مجدي قرقر، – أستاذ التربة بكلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة-، إلى أن تأثير ارتفاع منسوب مياه النيل على الأراضي الزراعية وطرح النهر من جهة، والجزر النيلية مثل الوراق والدهب من جهة أخرى، يختلف باختلاف فروق المناسيب، مبيّنًا أن الجزر الكبرى مثل الروضة والزمالك والذهب تتميز بارتفاع منسوبها النسبي الذي يقترب من مناسيب الجسور المحاذية للنهر، سواء كانت الشواطئ الطبيعية أو الكورنيش، وهو ما يجعلها أعلى من مستوى المياه حتى في فترات الفيضان، مشيرًا إلى أن هذه الجسور تعمل فعليًا كحواجز طبيعية تقسم النهر إلى مجريين، مما يحمي الجزر الكبيرة من الغمر الكامل بالمياه.

يقول، في تدوينة له عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “إن هناك العديد من الجزر الأخرى في الصعيد والدلتا تقع مناسيبها أعلى من سطح المياه بفارق بسيط فقط، فإذا ارتفع المنسوب العام للنهر، تُغمر هذه الجزر بالكامل أو تتقلص مساحتها غير المغمورة”.

وفيما يتعلق بأراضي “طرح النهر”، يوضح قرقر أنها تقع على ارتفاع لا يتجاوز بضع عشرات من السنتيمترات فوق مستوى المياه في فصل الصيف، وهي في الأصل ترسيبات نهرية تكونت من الطمي والرواسب التي كان يطرحها النيل في سنوات الفيضان قبل إنشاء السد العالي. ولهذا، فإنها تمثل جزءًا من قاع النهر القديم أو جوانبه أو ما يُعرف بـ”المسطاح”، أي المنطقة الواقعة بين القاع والجسر، مما يجعلها الأكثر عرضة للغمر مع أي زيادة في منسوب المياه، مؤكدًا على أن فهم فروق المناسيب الطبوغرافية بين الجزر وأراضي طرح النهر ضروري لتفسير ظواهر الغمر الموسمية، وللتعامل مع التغيرات في منسوب النيل بأسلوب علمي يعتمد على القياسات الدقيقة وليس الانطباعات العامة.

ويعتقد الدكتور طارق أبو موسى، أستاذ الاقتصاد الزراعي بمركز البحوث الزراعية، أن الضرر الناتج عن ارتفاع منسوب مياه النيل في الوقت الحالي يقتصر على أراضي “طرح النهر”، وأن منسوب المياه لم يصل بعد إلى مرحلة تُثير قلقًا بالغًا، مشيرًا إلى أن التأثير يتركز في محافظات المنوفية والفيوم والبحيرة، نظرًا لانخفاض أراضيها نسبيًا مقارنة ببقية المناطق.

ويوضح أبو موسى أن أراضي طرح النهر تُستخدم فعليًا في الزراعة، لكنها مساحات صغيرة نسبيًا، لا تمثل نسبة مؤثرة في الاقتصاد أو الإنتاج الزراعي الكلي، وأغلب هذه الأراضي تُزرع بمحاصيل الخضر، نظرًا لصغر مساحتها، مما يجعل زراعة المحاصيل الحقلية مثل القمح أو الأرز غير مجدية اقتصاديًا، مشيرًا إلى أن زراعة الأرز قد تتم في بعض الحالات المحدودة، لأن الهدف هو تحقيق أعلى عائد ممكن من المساحة الصغيرة، وهو ما توفره محاصيل الخضر.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “مصر كانت قد استعدت لمسألة زيادة تصريفات مياه النيل، منذ سنوات من خلال مشروع تبطين الترع والمجاري المائية، موضحًا أن هذا المشروع ليس عبثيًا كما يعتقد البعض، بل يهدف إلى تسريع سريان المياه ومنع فيضانها على الجانبين، خاصة في المناطق المائلة، المشروع أسهم في تحسين وصول المياه إلى نهايات الترع في محافظات مثل الغربية وكفر الشيخ، وهي مناطق كانت تعاني سابقًا من نقص المياه وصعوبة ري الأراضي البعيدة”، مؤكدًا على أن إدارة المياه يجب أن تُبنى على توازن بين الاستفادة القصوى من الموارد المائية وتقليل الفاقد الطبيعي، بجانب ضرورة مراجعة الآثار الجانبية لمشروعات البنية المائية لضمان استدامة الموارد الزراعية.

 

على ضفاف النيل.. أسوان تعيش 12 يومًا بلا مياه

تخوفات من حدوث جفاف ممتد

في السياق ذاته يُحذّر الباحث في الطقس والأرصاد الجوية أحمد سعيد، من أن الخطر القادم بالنسبة إلى مصر يتمثل في احتمال تزامن دورة الجفاف الطبيعية مع استمرار ملء سد النهضة، مما سيؤدي إلى ما وصفه بـ “الجفاف الممتد”، الذي قد يستمر أكثر من سبع سنوات، موضحًا أن نهر النيل يخضع لدورات طبيعية تمتد كل سبع سنوات، تتناوب فيها فترات فيضان مرتفع وأخرى منخفضة (جفاف)، إضافة إلى سنوات متوسطة، وخلال فترات الجفاف، يحدث عادة توازن طبيعي بين روافد النيل الثلاثة: النيل الأزرق ونهر عطبرة والنيل الأبيض، بحيث يُعوّض انخفاض أحدها بزيادة الآخر، غير أن ذروة الجفاف تحدث حين تتراجع الأمطار على منابع الأنهار الثلاثة معاً، وهو ما حدث خلال ثمانينيات القرن الماضي، وأنقذت  بحيرة ناصر، مصر من أزمة مياه حادة.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “في الثمانينيات، كان عدد سكان مصر أقل بكثير، أما الآن فقد تضاعف. فإذا كانت المخزونات المائية الحالية في بحيرة ناصر ومشروع توشكى والقناطر تكفي لسد احتياجات مصر المائية لعامين أو ثلاثة، خلال فترة الجفاف المتوقعة، فماذا سنفعل في السنوات التالية؟، أرى أن الخطر الحقيقي ليس في التصريفات الحالية، بل في السنوات المقبلة حين يجتمع الجفاف الطبيعي مع حجز المياه في السد الإثيوبي، وهو ما قد يُشكّل تحديًا مائيًا غير مسبوق لمصر والسودان”.

وفي تحليله للعوامل المناخية في منطقة القرن الإفريقي، يوضح سعيد أن بحيرة سد النهضة تحتوي على نحو 60 مليار متر مكعب من المياه، وتقع في منطقة مدارية حارة تشهد معدلات تبخر مرتفعة للغاية، ما أدى إلى ارتفاع نسبة بخار الماء في الغلاف الجوي فوق إثيوبيا والسودان، وأسهم في زيادة غزارة الأمطار هذا العام.

ويوضح الباحث أن موسم فيضان النيل يبدأ عادة في شهر يوليو ويستمر حتى شهر أكتوبر، بينما تبلغ ذروته في شهر أغسطس، إلا أن موعد الفيضان تغيّر هذا العام نتيجة للتصرفات الإثيوبية المرتبطة بملء سد النهضة، وليس بسبب أي تغيرات مناخية، مؤكدًا أن الفيضان هذا العام كان صناعيًا وليس طبيعيًا، وأن السبب في تأخره لا يرتبط بعوامل مناخية، بل هو نتيجة مباشرة لتصرفات إثيوبيا الأحادية، التي لم تُخطر مصر والسودان مسبقًا بكميات المياه التي تعتزم صرفها كما تقتضي القوانين الدولية، مشيرًا إلى أن سد الروصيرص في السودان، الذي تبلغ طاقته الاستيعابية القصوى 7.4 مليار متر مكعب، استقبل كميات تفوق قدرته، ما أجبر السلطات السودانية على تفريغ المياه والسماح لها بالعبور، وهو ما زاد من مساحة المناطق المتضررة بالفيضانات في الخرطوم وولايتي النيل وسنار.

ويبيّن سعيد أن إثيوبيا قلّلت معدلات تصريف المياه في بداية الموسم لتخزين ما يتراوح بين 110 و280 مليون متر مكعب يومياً بهدف ملء السد، ما حال دون عبور مياه الفيضان في وقتها المعتاد، لاحقًا، وبعد افتتاح السد في سبتمبر الماضي وامتلاء بحيرته عن آخرها، تزايد الضغط المائي على جسم السد إلى حدٍّ بات يهدد سلامته، مما اضطر السلطات الإثيوبية إلى تصريف كميات ضخمة من المياه وصلت إلى نحو 780 مليون متر مكعب يومياً، وهو ما تسبب في غمر مناطق واسعة في السودان، خاصة الخرطوم.

وفي ضوء ما تشهده مصر والسودان من تداعيات ارتفاع منسوب نهر النيل، تتجدد الأسئلة حول مستقبل إدارة المياه في حوض النيل الشرقي، في ظل استمرار السياسات الأحادية لإثيوبيا، وغياب التنسيق الفني بين دول المنبع والمصب. وبينما تؤكد الحكومة المصرية أن الوضع المائي “تحت السيطرة” بفضل جاهزية منظومة السدود والمنشآت المائية، يحذر خبراء من أن استمرار تشغيل سد النهضة دون اتفاق قانوني مُلزم سيجعل دولتي المصب عرضة لموجات فيضانية وجفاف مفاجئ في آن واحد، ما يهدد الأمن المائي والغذائي لملايين المواطنين.

ومع انحسار المياه تدريجيًا عن الأراضي المغمورة، تبقى الأزمة الأخيرة تذكيرًا عمليًا بخطورة إدارة النيل خارج أطر التعاون المشترك، وبأن الحل لا يكمن في الإجراءات الفنية وحدها، بل في إرادة سياسية حقيقية تعيد النهر إلى مساره الطبيعي كمورد مشترك للحياة لا كسلاح للضغط، حفاظًا على استقرار المنطقة ومستقبلها المائي.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search