close

عسكرة الأحزاب في مصر: الطريق إلى انتخابات 2025 يمر عبر الأجهزة

كيف تحوّلت الأحزاب المصرية بعد 2013 إلى أدوات بيد الأجهزة الأمنية، مع هيمنة لافتة للضباط السابقين داخل البرلمان، وتهميش شبه كامل للتمثيل المدني.

ميريت أشهد

منذ عام 2013، وسعت دوائر أمنية سلطتها على المشهد السياسي في مصر، ليس فقط من خلال التدخل المباشر باختيار قيادات الأحزاب أو مرشحيها للانتخابات، وإخضاعهم لمراجعة أمنية دقيقة، لكن بدفع عدد من العسكريين والقيادات الأمنية السابقين نحو المعترك السياسي، من خلال تدشين الأحزاب، أو المشاركة في قيادتها، والاستحواذ على نسبة من تمثيلها البرلماني.

وإن كانت الحياة الحزبية المصرية قبل 2011، اتسمت بضعفها وشهدت محاولات محدودة للتأثير في المجال السياسي، ثم جاءت مرحلة الانفتاح السياسي التي أعقبت ثورة يناير، فإن مرحلة ما بعد 30 يونيو شهدت انتقالًا أكثر جذرية نحو ما يمكن وصفه بـ”عسكرة السياسة”، أو سيطرة القيادات ذات الخلفية العسكرية والأمنية على مفاصل المجال الحزبي والبرلماني، إلى درجة بات فيها حضورهم جزءًا أصيلًا من بنية النظام السياسي، وليس مجرد استثناء.

ففي انتخابات 2020 التي أفرزت مجلس النواب الحالي، والمكوَّن من 568 عضوًا منتخبًا و28 معينًا (إجمالي 596 نائبًا)، تجلى حضور القيادات الأمنية بشكل لافت، إذ ضم المجلس ما يقارب 71 نائبًا من الضباط السابقين في الجيش والشرطة، أي ما يعادل نحو 12% من إجمالي الأعضاء، بحسب تقارير إعلامية وتحليلات انتخابية.

وبالعودة قليلة للوراء، لم تكن النسبة بعيدة عن تلك التقديرات في برلمان (2015-2020)، إذ سجلت قيادات أمنية وعسكرية سابقة، حضورها داخل البرلمان مستحوذة على نحو 75 مقعدًا من مختلف الأحزاب الموالية للسلطة، أي بنسبة تقارب 13% من إجمالي مقاعد البرلمان (596 عضوًا)، الكتلة الأكبر منهم جاءت داخل حزب مستقبل وطن الذي يملك 316 نائبًا، حيث يقدَّر عدد الضباط السابقين داخله بين 50 و55 عضوًا، يضاف إليهم ما بين 10 و15 نائبًا في حزب حماة الوطن (23 نائبًا إجمالًا)، فضلًا عن أسماء موزعة بين حزب الشعب الجمهوري ومستقلين.

 

70 مليون للمقعد: من يشتري طريقه إلى برلمان مصر؟


أحزاب الولاء لا تصنع سياسة

يرى مراقبون أن الدولة حرصت على وضع حدود صرامة للعمل السياسي في مصر ما بعد 2013، اتسمت بتقليص هامش الحريات والحفاظ على صورة ديموقراطية كرتونية، بينما تحظى الأحزاب الداعمة للسلطة وحدها بامتيازات واسعة، مقابل الولاء الكامل للسلطات.

الباحث في الشؤون السياسية بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سيف الإسلام عيد، يقول في حديث إلى زاوية ثالثة إنّ تفسير صعود القيادات العسكرية والأمنية داخل الحياة الحزبية في مصر بعد عام 2013 يرتبط بمجموعة من العوامل البنيوية التي أعادت تشكيل المجال السياسي. ويوضح أنّ العامل الأول يتمثل في الثقة التي يمنحها النظام لهذه الفئة القادمة من المؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد فعليًا، إذ ينظر إليها باعتبارها أكثر جدارة وولاءً من المدنيين، وأكثر قدرة على الالتزام بالخطوط العامة التي يحددها النظام. أما العامل الثاني فيتعلق بالعلاقة التبادلية التي تنشأ بين الطرفين، حيث يضمن النظام لهؤلاء الضباط السابقين مكانًا ودورًا بعد خروجهم من الخدمة العسكرية أو الأمنية، بينما يقدمون له في المقابل الولاء والانضباط والانخراط في ما يطلق عليه “الحياة الحزبية الشكلية”.

ويضيف عيد أنّ الحديث عن تعددية حزبية أو ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه عالميًا غير ممكن في السياق المصري الراهن، مشيرًا إلى أن ما يجري هو مجرد هندسة سياسية تهدف إلى إنتاج أحزاب صورية تسعى لتجميل صورة النظام خارجيًا، دون أن تعكس بالفعل تعددية أيديولوجية أو اجتماعية حقيقية. فهذه الأحزاب، على حد تعبيره، لا تؤدي دورًا تمثيليًا للمجتمع، وإنما تُنشأ أساسًا لتكون داعمة للدولة أو للرئيس، وهو ما يميز الحالة المصرية عن غيرها من التجارب.

ويرى الباحث أنّ الأحزاب الحقيقية في النظم الديمقراطية من المفترض أن تعبر عن مصالح وشرائح اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، لكن ما يحدث في مصر هو العكس تمامًا؛ حيث تقتصر هذه الأحزاب على تمثيل مصالح نخب ضيقة متحالفة مع السلطة أو خاضعة لتوجيهات الأجهزة الأمنية. ويشير إلى أن المنافسة بين هذه الأحزاب ليست انعكاسًا لتقلبات المزاج الشعبي أو تباين المصالح الاجتماعية، بل هي انعكاس لديناميكيات الصراع داخل دوائر السلطة نفسها.

ويستشهد عيد بتجربة السنوات الأخيرة ليؤكد هذا الطرح، موضحًا أن حزب “مستقبل وطن” تمكن من فرض هيمنته السياسية باعتباره الأقرب إلى الأجهزة النافذة، قبل أن يبرز لاحقًا حزب “الجبهة الوطنية” المدعوم من دوائر أخرى في السلطة. وبرأيه، فإن هذا الصعود والهبوط لا يعكس تغيرات طبيعية في الخريطة الحزبية كما يحدث في الديمقراطيات، بل يعكس تحركات محسوبة من جانب السلطة لإعادة توزيع النفوذ وتوجيه المشهد السياسي في الاتجاه الذي يخدم مصالحها.

ويخلص الباحث إلى أن الحياة الحزبية في مصر منذ عام 2013 وحتى اليوم لا يمكن وصفها بأنها حياة سياسية طبيعية، فهي قائمة على “المظهر” أكثر من كونها معبرة عن المجتمع أو مصالحه الحقيقية. بل أصبحت مجرد أدوات لإدارة المشهد من أعلى، حيث تحدد الأجهزة الأمنية والعسكرية قواعد اللعبة، فيما تتحرك الأحزاب داخل هذه الحدود دون أن تمتلك مساحة حقيقية لتمثيل المواطنين أو التعبير عن القوى الاجتماعية المختلفة.

 

البرلمان المقبل… توزيع مسبق للمقاعد؟

هشاشة سياسية تهدد استقرار المجتمع

لم يأتِ التحول نحو “عسكرة الحياة الحزبية في مصر” في صورة انخراط أفراد بعينهم من ذوي الرتب السابقة في الجيش أو الشرطة داخل البرلمان أو في مواقع حزبية قيادية، بل تجسد أيضًا في إعادة تشكيل الأحزاب نفسها على نحو يجعلها أذرعًا داعمة للسياسات الرسمية، وفي مقدمتها حزب مستقبل وطن الذي صار القوة المهيمنة على البرلمان، وحزب حماة الوطن الذي تأسس على يد قيادات عسكرية سابقين وأصبح بمثابة واجهة سياسية للعسكريين.

ظهر ذلك جليًا في أداء البرلمان الحالي، الذي وصف، بحسب تقارير حقوقية، بأنها أداة بيد السلطة التنفيذية، وليس منصة تشريع مستقلة، وفقًا لما ينص عليه الدستور المصري، وفي السياق يشير تقرير أصدرته الجبهة المصرية لحقوق الإنسان قبل أيام، تحت عنوان “تشريعات سلطوية ورقابة غائبة”، أن الغالبية العظمى من القوانين التي أقرها البرلمان وبلغ عددها 879 قانونًا كانت مقدمة من الحكومة، في حين لم يقدم النواب سوى 16 مشروع قانون فقط بشكل مستقل، معتبرًا أن هذه الإحصائية تكشف عن “ميل ميزان القوى في صناعة التشريع لصالح السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية”.

التقرير المبني على بحث ورصد مكتبيين لمخرجات ونشرات مجلس النواب، لفت إلى أن العديد من التشريعات التي تم إقرارها، مثل قانون الإجراءات الجنائية وتعديلات قانون مكافحة الإرهاب، تمثل “ردة عن منجزات القانون الحديث” وتعمل على “تقييد الحقوق والحريات وتسمح بانتهاك حقوق الإنسان ومنظومة العدالة”.

ويرى أكرم إسماعيل -العضو المؤسس لحزب العيش والحرية-، (تحت التأسيس) أن هذا الواقع متسق مع طبيعة المرحلة كلها، إذ فُتحت أبواب السياسة والاقتصاد أمام ضباط سابقين ومن خدموا في الأجهزة الأمنية، ليكون لهم دور كبير في الحياة العامة. لكن الأهم من ذلك هو أن الأحزاب التي تشكلت في هذه المرحلة هي في جوهرها كيانات مهندسة للغاية. فهي ليست أحزابًا حقيقية، ولا أحزابًا نابعة من الشارع أو تعبر عن قواعد جماهيرية، بل كيانات مصطنعة بالكامل”.

ويضيف في حديثه إلى زاوية ثالثة: “بما أن النظام نفسه لا يتيح نشوء أحزاب طبيعية مرتبطة بالجمهور، يصبح من الطبيعي أن تكون رموز هذه الأحزاب أشخاصًا مرتبطين بالنظام مباشرة. فالرموز في التجارب الحزبية الطبيعية تُنتَج محليًا من النقابات والجامعات والشارع، أما في مصر فهي نتاج عملية هندسة من أعلى، حيث يُمنح الأولوية لمن يملكون الولاء أو ينتمون إلى شبكات النفوذ القريبة من السلطة”.

وفي السياق يشدد إسماعيل على أن “غياب الأحزاب الحقيقية المرتبطة بالجمهور يحوّل المجال السياسي إلى ساحة مغلقة، تُصنع رموزها وفق أهداف محددة مسبقًا. لذا ليس مستغربًا أن يكون أغلب هذه الرموز من الضباط السابقين أو من شخصيات لها ولاء مباشر للنظام”.

وبسؤاله حول التداعيات المستقبلية لحالة الإغلاق السياسي، أجاب إسماعيل: “المجتمع والدولة يضعفان بقدر ما تضعف مؤسساتهما، فالمجتمع القوي هو الذي يملك نقابات وأحزابًا وتنظيمات قادرة على التفاوض مع السلطة وإدارة الأزمات من دون انفجار. أما المجتمع الضعيف، المحروم من هذه الأدوات، فهو مجتمع مهدد في استقراره وانتقال السلطة داخله محفوف بالمخاطر”.

ويضيف: “كلما كان المجتمع ضعيفًا بلا أدوات تنظيمية، أصبحت خطوات الانتقال السياسي في خطر، وكذلك التعامل مع الغضب الشعبي الناتج عن الأوضاع الاقتصادية. على العكس، وجود نقابات وأحزاب قوية يجعل المجتمع قادرًا على إيجاد قنوات للتفاوض والوصول إلى حلول من دون انفجارات، ويضمن انتقالًا مرتبًا وآمنًا للسلطة”.

ويشدد السياسي المصري في حديثه معنا على أنه “طالما يُمنع المجتمع من امتلاك أدواته التنظيمية، سيبقى في مهب الريح، وهذا ما رأيناه بوضوح في انهيار مجتمعات ودول مجاورة، لأنها كانت ضعيفة ومحرومة من تنظيمات سياسية ونقابية فاعلة. أما في مصر، فإن غياب هذه الأدوات لا يعني فقط إضعاف الأحزاب، بل إضعاف المجتمع نفسه والدولة على المدى البعيد”.

حضور لافت للجنرالات

بالعودة إلى مؤشرات السيطرة الأمنية على الحياة الحزبية في مصر، تجدر الإشارة إلى أن حزب مستقبل وطن تأسس رسميًا عام 2014 على يد مجموعة من الشباب المقربين من السلطة، لكنه سرعان ما تحوّل إلى الكتلة البرلمانية الأكبر بحصده 316 مقعدًا في برلمان (2020-2025)، لم يكتفِ باستقطاب كوادر مدنية، بل فتح أبوابه، لاستيعاب ضباط متقاعدين من الجيش والشرطة، الذين شكّلوا نواة صلبة لكتلته البرلمانية.

أما حزب حماة الوطن، فهو التعبير الأكثر وضوحًا عن عسكرة المجال الحزبي، تأسس الحزب عام 2013 على يد اللواء جلال هريدي، الذي توفى في يناير الماضي وعدد من الضباط السابقين، وصاغ هويته حول فكرة الدفاع عن “الأمن القومي”. ومنذ البداية، ضم الحزب عشرات الجنرالات المتقاعدين في قياداته.

وبرز داخل البرلمان الحالي حضور لافت لعدد من القيادات السابقة في الجيش والشرطة، ممن تولوا مواقع مؤثرة داخل الأحزاب واللجان البرلمانية. ففي حزب حماة الوطن، يبرز اللواء أحمد العوضي (ضابط جيش سابق ورئيس لجنة الدفاع)، واللواء طارق نصير (ضابط جيش، يشغل منصب الأمين العام للحزب ووكيل أول لجنة الدفاع والامن القومي بمجلس الشيوخ)، واللواء أيمن عبد المحسن (ضابط جيش، وهو عضو بمجلس الشيوخ الراهن)، إلى جانب سيد فؤاد أبو زيد عضو مجلس الشيوخ عن قنا، وهو أيضًا عضو لجنة الدفاع والأمن القومي، وأحمد محمد صالح، عضو مجلس النواب عن دائرة أسوان وعضو لجنة الدفاع والأمن القومي، كذلك في حزب الشعب الجمهوري، يتقدم المشهد اللواء محمد صلاح أبو هميلة (ضابط جيش سابق والأمين العام للحزب ورئيس الهيئة البرلمانية). وفي حزب مستقبل وطن، يبرز اللواء خالد سعيد محافظ الشرقية السابق، واللواء يحيى العيسوي، واللواء أحمد محمد سعد إلى جانب علاء عابد ضابط شرطة سابق ورئيس النقل والمواصلات وشغل في وقت سابق منصب رئيس لجنة حقوق الإنسان.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على امتداد التاريخ البرلماني المصري كان حضور العسكريين والأمنيين محدودًا نسبياً وغالبًا ما كان يُقتصر على حالات فردية أو على نواب معيّنين من قبل الرئيس أو عبر قوائم الحزب الحاكم، وليس على كتلاً منظّمة ذات تأثير حقيقي داخل البرلمان.

يمثل حزب الجبهة الوطنية أحدث الوافدين إلى الساحة السياسية في مصر، ويُنظر إليه باعتباره موجة جديدة ضمن محاولات إعادة تشكيل الحياة الحزبية لتكون ظهيرًا داعمً للنظام السياسي، أسسه رجل الأعمال إبراهيم العرجاني، الذي نسج علاقات متشعبة مع الأجهزة السيادية، وفتح أبوابه أمام مجموعة واسعة من الشخصيات العامة. فقد ضم الحزب بين صفوفه عددًا من القيادات العسكرية السابقة، إلى جانب وزراء ومسؤولين سابقين ورموز سياسية من خلفيات ناصرية وليبرالية.

على الرغم من أن التشكيل كان مفترض يمنح الحزب ثِقلًا سياسيًا وإعلاميًا، إلا أنه عزز حالة الجدل حول طبيعة تكوينه ودلالاته، خصوصاً مع وجود تضارب مصالح محتمل بين النفوذ الاقتصادي للعرجاني وبين الدور السياسي الجديد للحزب. ويرى مراقبون أن الجبهة الوطنية قد تتحول إلى لاعب محوري في الانتخابات المقبلة، سواء عبر منافسة الأحزاب الكبرى مثل مستقبل وطن أو من خلال تقديم نفسها كمنصة جامعة لمختلف الأطياف المقرّبة من الدولة.

هذه الأحزاب لم تُبنَ على برامج اجتماعية أو اقتصادية بالمعنى التقليدي، وفقًا لمراقبين، بل على سردية الأمن والاستقرار، وهي سردية تستمد شرعيتها من المؤسسة العسكرية، والنتيجة أن المجال الحزبي لم يعد ساحة تنافس سياسي بين مشاريع مدنية مختلفة، وإنما مساحة لإعادة إنتاج خطاب الدولة عبر قنوات حزبية متشابهة.

في الحملات الانتخابية لبرلمان 2020، كان لافتًا أن العديد من المرشحين العسكريين السابقين قدّموا أنفسهم كـ”مدافعين عن الأمن القومي” أكثر من كونهم ممثلين لقضايا الدوائر المحلية. هذا التحول في الخطاب يعكس كيف أن مفهوم “السياسة” بات مرادفًا لـ”الأمن”، وكيف جرى تقليص مساحة النقاش حول العدالة الاجتماعية أو حقوق العمال أو الحريات المدنية.

الإعلام بدوره ساهم في تكريس هذا المسار، إذ تم تصوير وجود الضباط السابقين في البرلمان كضمانة للاستقرار وحماية “هيبة الدولة”، في مقابل تصوير المرشحين المدنيين المستقلين باعتبارهم أضعف أو أقل خبرة. وهكذا تم تعزيز منطق العسكرة ليس فقط عبر البُنى التنظيمية، بل أيضًا عبر تشكيل وعي الجمهور.

تشير بيانات الهيئة العامة للاستعلامات إلى أن عدد الأحزاب السياسية المشهرة رسميًا في مصر يبلغ نحو 104 حزبًا، غير أن الفاعلية السياسية الفعلية تبدو محدودة للغاية، إذ لا يمثل منها في البرلمان الحالي سوى 14 حزبًا فقط. ويتصدر المشهد حزب مستقبل وطن الذي يسيطر على الأغلبية البرلمانية.

 

 

أحمد الطنطاوي: السلطة غير راغبة في انتخابات جادة والشعب قادر على التغيير (حوار)

قتل عمد للحياة السياسية والمجتمع المدني

بحسب دراسة لمركز كارينغي للدراسات، للباحث المختص بشؤون الشرق الأوسط يزيد صايغ، أفرزت سياسات السلطات المصرية خلال السنوات الماضية، نفورًا واضحًا من أي تنظيم أو نشاط سياسي مستقل، تُرجم إلى هجوم ثلاثي الأبعاد استهدف إفراغ الساحة السياسية المصرية من مضمونها.

الأول ضرب الحياة الحزبية من أساسها، مع الإبقاء في الوقت نفسه على مظهر ديمقراطي شكلي عبر تنظيم انتخابات دورية والحفاظ على صورة برلمانية شكلية. كذلك وصفت المحللة مارينا أوتاوي، تفريغ المجال السياسي كساحة تنافس بين قوى منظّمة تمثل مصالح شرائح المجتمع المختلفة أدى إلى “موت الحياة السياسية”، حيث باتت الأحزاب ضعيفة وفاقدة للوزن. وقد أكدت الهيئة العامة للاستعلامات الحكومية في تقرير عام 2022 أن الأحزاب القديمة السابقة لعام 2013 ما تزال “تصارع بين التطوير والفناء” في ظل “الجمهورية الجديدة”.

في المقابل، برزت أحزاب موالية جديدة دفعتها الأجهزة الأمنية إلى الواجهة، لتلعب الدور الأساسي في إظهار التأييد الشعبي لسياسات السلطة، وفق الدراسة، بخلاف عهد حسني مبارك الذي اعتمد على الحزب الوطني الديمقراطي كأداة مركزية للسيطرة، اعتمد النظام السياسي للرئيس عبد الفتاح السيسي على نموذج أكثر لامركزية عبر إنشاء أحزاب موالية متعددة بعد عام 2013.

وتلفت الدراسة إلى أن “هذه الأحزاب تحولت إلى واجهات مرتبطة بشبكات المحسوبية، فيما تولت الأجهزة الأمنية اختيار المرشحين وتشكيل الكتل البرلمانية بدرجة تحكم أكبر حتى مما كان عليه الوضع في عهد مبارك، وزاد هذا التوجه رسوخًا بعد تعديل تشريعي أنهى الإشراف القضائي على الانتخابات ابتداءً من 2024. النتيجة كانت واضحة في انتخابات 2020، حيث انهار حزب “المصريين الأحرار” الليبرالي، بينما اكتسح حزب “مستقبل وطن” الموالي مقاعد البرلمان ومجلس الشيوخ المُعاد إحياؤه مؤخرًا.”

وتشير الدراسة كذلك إلى أن مؤسسة البرلمان فقدت ما تبقى من دورها كمنصة للاختلاف السياسي السلمي، إذ تقلص دوره أكثر ليصبح مجرد أداة للتصديق على المراسيم الرئاسية ومشاريع القوانين الحكومية، ويوضح الباحث أن “السيطرة على تشكيل الكتل والأحزاب داخل البرلمان كانت الخطوة الأولى، تلاها إفراغه من أي ثقل سياسي. وهكذا، بات البرلمان مجرد واجهة توحي بالانفتاح، بينما يجري تأسيس منصات وأحزاب شكلية من حين لآخر، مثل حزب “الجبهة الوطنية” الذي أُعلن عن تأسيسه في ديسمبر 2024 وسط احتفاء إعلامي باعتباره “علامة على التعافي السياسي”.

وفق الدراسة، امتد النهج نفسه إلى المجتمع المدني، حيث عملت السلطة على إعادة توجيه النشاط الأهلي بما يمتص أي تأثير سياسي محتمل. في البداية ركّزت الحكومة على قمع الجمعيات الإسلامية الخدمية التي اعتُبرت تهديدًا سياسيًا، ثم جاء قانون العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019 ليقنن هذا التوجه، من خلال حصر دور المنظمات في “تنمية المجتمع وفق خطط الدولة واحتياجاتها”.

ما خريطة التواجد العسكري في البرلمان المقبل؟

مع اقتراب الاستحقاق النيابي القادم، والمزمع أجراءه في نوفمبر، بدأت الساحة الحزبية والسياسية في مصر تشهد حَرَكة مكثفة وتحالفات إستباقية، في ظل توقعات بأن يظل التنافس الداخلي مُشكَّلًا ضمن مناخ مُحرَّف لصالح الأحزاب الموالية، وبدأت التحالفات تستقر، والقوائم الوطنية تُعَدُّ مسبقًا، مع مساعٍ واضحة لضخ شخصيات ذات وزن أمني أو عسكري في مواقع بارزة داخل القوائم الفردية والقائمة المشتركة.

من أبرز التحركات أن التحالف الوطني للأحزاب أعلن خوضه المنافسة على المقاعد الفردية عبر قائمة موحدة تُضم نحو 15 حزبًا من أصل 42 في التحالف، حسب ما أفاد به مدحت بركات، رئيس القطاع الإعلامي للتحالف، كما أن القائمة الوطنية “من أجل مصر” التي تضم 12 حزبًا، بينها أحزاب بارزة مثل مستقبل وطن وحماة الوطن والجبهة الوطنية، أصدرت أسمائها للمرشحين في مختلف المحافظات.

أما على مستوى القوائم الحزبية، فيُلاحَظ أن الأحزاب المهيمنة الآن مثل مستقبل وطن وحماة الوطن والجبهة الوطنية تسعى لضم مرشحين من ذوي خلفيات أمنية وعسكرية إلى قوائمها، على الأقل في الدوائر التي يُحتمل أن تكون فيها المنافسة أقوى، وفق مراقبين.

أما على الصعيد الفردي، يتوقع مراقبون أن بعض الضباط المتقاعدين أو من كانوا في أجهزة الأمن قد يُدرَجون كمرشحين مستقلين أو عبر القوائم في دوائر يُحسب فيها تأثيرهم المحلي. وقد شهدنا في السنوات السابقة أن بعض الأحزاب تُدرِج أسماء من خلفيات عسكرية في قوائم محافظاتها أو في الدوائر المتنازع عليها، بهدف الاستفادة من الانتشار الأمني والشعبي لهم في تلك الدوائر.

وفي ورقة بحثية صادرة عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، مايو الماضي، حملت عنوان: “في سبيل التعددية البرلمانية: مراجعة واجبة للقوانين المنظمة للانتخابات”، تأتي الانتخابات البرلمانية لعام 2025 في ظروف شديدة الحساسية والدقة للدولة المصرية في ظل التطورات الإقليمية التي تمر بها المنطقة العربية والسياسة الدولية كذلك، إضافة لما يمر به الداخل المصري من أزمة اقتصادية واجتماعية وحقوقية متفاقمة من المتوقع أن تزداد بؤر السخط تجاهها، مصحوبة باحتمالات عدم استقرار.

 إضافة لذلك، فيُنتظَر من البرلمان المقبل التعامل مع قضية الانتخابات الرئاسية القادمة لعام 2030، وتنظيمها، خاصة في شق عدد مرات الترشح للمنصب، واحتمال تعديل النص الدستوري بما يسمح للرئيس عبد الفتاح السيسي بالترشح للرئاسة للمرة الرابعة أو الإبقاء على النص دون تغيير ليفتح الباب لوجود مرشحين آخرين جادين للرئاسة بحلول عام 2030، وكلها قضايا من المتوقع أن تُحال للبرلمان القادم للتعامل معها تشريعيا، والتي ستفرض أعبائها وتتطلب معالجات احترافية ومعبرة عن الشارع بشكل حقيقي غير مصطنع، وقادرة على التواصل مع الجمهور بشكل فعلي. وبالتبعية سيتوقف جدية تعامل البرلمان معها تبعا للكيفية التي سيُشكَل بها، وطريقة وصول أعضائه لمقاعدهم.

 

ميريت أشهد
صحفية مصرية حاصلة على ماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة

Search