close

بيوت السويس.. حين تصبح قرارات الهدم أقوى من ذاكرة المدينة

منزل بطرس كساب، أحد أقدم مباني السويس المشيدة منذ القرن التاسع عشر، هُدم بحكم قضائي رغم نجاته من الحروب وتاريخه العريق، وسط غياب تام لوزارة الآثار التي بررت الموقف بعبارة “غير مسجّل كأثر
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

“يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي.. استشهد تحتك وتعيشي أنتِ”، أحد أبرز الأغاني الشعبية التراثية في محافظة السويس”، على أنغام السمسمية، طالما غنى أهل السويس لمنازلهم، كل البيوت عن أصحابها غالية، لكن البيوت التي كانت شاهدة على الحرب والتاريخ وكفاح الشعب السويسي، ربما لها مكانة خاصة في قلوب كل المصريين، واليوم مع انهيار جزء كبير من تلك المباني بسبب الإهمال من جانب الحكومة، وإقدام السلطات المحلية بهدم ما تبقى من معمار السويس المميز، يبقى السؤال مُلحًا من المسؤول عن تدمير تراث شعب؟ 

منذ عام 2020، مع شروع الحكومة المصرية في تنفيذ خطط التطوير العمراني، والتي طالت العديد من المنشآت القديمة ذات القيمة التاريخية والمعمارية، تتجدد حالة الجدل والاستنكار بين الحين والآخر. ومع كل واقعة هدم، ورغم اختلاف المكان والزمان والظروف، ظل رد وزارة الآثار ثابتًا: “غير مسجّل كأثر”. هذا الموقف المتكرر، لم يصاحبه أي تحرك جاد لمعالجة ثغرات التسجيل أو تطوير آليات الحماية، ما أثار انتقادات واسعة من خبراء التاريخ والآثار والمعمار، الذين يرون أن جزءًا كبيرًا من التراث العمراني المصري خارج سجلات الحماية الرسمية، ليبقى مهددًا دومًا تحت جرافات الهدم.

كانت آخر حلقات الجدل ما تعرض له منزل بطرس كساب في مدينة السويس، إذ أثار هدمه غضبًا واسعًا بين بعض الأهالي والمهتمين بالتراث بعدما انهار واحد من أقدم معالم المدينة، المشيّد الطراز الأوروبي، وأعيد بناءه على يد أحد أبناء كساب عام 1896. وبالعودة إلى التاريخ، ارتبط اسم بطرس كساب بالسويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ تشير المصادر إلى أنه كان موظفًا إداريًا مهمًا في عهد محمد علي باشا ومن بعده، وتولى مهمة تحصيل الضرائب على السفن المارة بين مصر والهند قبل شق قناة السويس.

(صورة للمنزل قبل الهدم- المصدر: صفحة اكتشف معنا السويس/فيس بوك)
صورة للمنزل قبل الهدم- المصدر: صفحة اكتشف معنا السويس/فيس بوك

ظل المنزل شاهدًا على حقبة محمد علي باشا، أقام فيه أحمد عرابي بضعة أيام بعد عودته من المنفى، كما نجا من العدوان الثلاثي وحرب 1967 وحصار 1973، قبل أن ينتهي مصيره إلى الهدم بحكم قضائي لصالح الشركة المالكة بدعوى خطورته على السلامة العامة. في ظل غياب الجهات المختصة بالتراث والآثار عن المشهد، ما اعتبره مثقفون ومؤرخون “جريمة في حق ذاكرة السويس”.

في سبتمبر 2017، انهارت أجزاء من سقف الطابق العلوي وجدران داخلية بالمنزل، الأمر الذي دفع محافظ السويس آنذاك، اللواء عبد المجيد صقر، إلى تشكيل لجنة للتحقق مما إذا كان المبنى مُدرجًا في سجلات الآثار أو خاضعًا للتنسيق الحضاري، فضلاً عن بحث وجود شبهة إهمال من عدمه.

 أما عملية الإزالة الأخيرة وتمت خلال سبتمبر الماضي، لصالح شركة القناة للتوكيلات الملاحية التابعة لوزارة النقل، وبمشاركة قوات الأمن والمرافق، حيث أكدت الشركة أن قرار الهدم صدر بحكم قضائي نهائي بعد أن بات المبنى مهددًا بالانهيار- وفقًا لتصريح صحفي سابق للعميد أحمد علاء، رئيس حي السويس تناقلته مواقع صحفية محلية.

في المقابل، أوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في تعليقه لــ”زاوية ثالثة” أن العقار لم يكن مسجّلًا كأثر تاريخي، وبالتالي ووفقًا للقانون لا يخضع لاختصاص الوزارة أو حمايتها القانونية، مؤكدًا أن عدم تسجيله معناه أنه مبنى عادي لا يحمل صفة التراث أو الآثر الرسمي.


السويس تفقد ملامحها التاريخية 

تُعد مدينة السويس إحدى أهم مدن مصر الساحلية ضمن مدن القناة، وتعتبر بوابة استراتيجية بين البحرين الأحمر والمتوسط، ونقطة اتصال حيوية بين الشرق والغرب.

تاريخيًا، ارتبطت مدينة السويس بالملاحة والتجارة، وازدادت أهميتها في عهد محمد علي باشا الذي جعل منها قاعدة بحرية رئيسية لمواجهة التهديدات في البحر الأحمر. كذلك لعبت دورًا بارزًا خلال العدوان الثلاثي عام 1956، وحرب يونيو 1967، وحصار 1973، حيث تحولت إلى رمز للمقاومة الشعبية.

إلى جانب قيمتها العسكرية، شكّلت السويس مركزًا للعمارة المميزة، خاصة النمط الخشبي المعروف بـ”العمارة البغدادية” أو “السويسية”، فضلًا عن مبانٍ تاريخية. واليوم تظل المدينة شاهدًا على تاريخ طويل من الصراع والصمود، دون اهتمام حقيقي بالمنشآت الشاهدة على المحطات التاريخية للمدينة العريقة.

في السياق يقول أنور فتح الباب عبد العال، -الباحث في التاريخ والثقافة المصرية-،  إن مدينة السويس لها خصوصية عمرانية مميزة، لكن جزءًا كبيرًا منها اندثر بسبب الحرب. ويضيف في حديثه إلى زاوية ثالثة أن المحافظة كانت تُعرف بعمارة خشبية تسمى “البغدادي”، أشار إليها علي مبارك في الخطط التوفيقية بوصفها “العمارة السويسية”وهي تعتمد على المشربيات والأرابيسك والخشب. هذه الملامح، بحسب عبدالعال، دُمرت بالكامل خلال الحرب، ولم يُبذل أي جهد لاحق لإحياء هذا النمط أو الحفاظ على ما تبقى منه.

ويشير إلى أن من أبرز معالم السويس القديمة قصر محمد علي، الذي بُني في إطار الاستعدادات العسكرية في البحر الأحمر إبان الحروب الوهابية (الحملات العسكرية التي قادها محمد علي (والي مصر) في شبه الجزيرة العربية بين عامي 1811 و1818)، لكن القصر استُخدم لعقود في أعمال حكومية، كــ مقر للمحافظة أو مديرية الأمن أو المحكمة الشرعية، ما أدى إلى تدهور حالته. “المكان شبه منتهي”، يقول عبد العال، مضيفًا أن وزارة الآثار لم تُسجله إلا في 2016 كأثر، بعد مطالبات طويلة ومحاولات لإعادة ترميمه منذ ثورة يناير، ويعتبر المكان الوحيد المسجل كأثر في السويس؟

ويوضح أن بيت المساجيري، الذي كان يُستخدم في القرن التاسع عشر كمخازن وفندق مملوك للشركة الفرنسية عبر البحار، ظل مهددًا بالاستيلاء في 2019 رغم قيمته التاريخية، ولم يُسجل كأثر حتى اليوم. “منذ أسابيع فقط، فوجئنا بهدم السور الخشبي للمبنى – الذي تجاوز عمره 150 عامًا – واقتلاع أشجار تاريخية كانت شاهدة على تاريخ السويس”، يروي عبدالعال.

ويتوقف الباحث في التاريخ عند منزل بطرس كساب، المشيد في القرن التاسع عشر بطراز الباروك الفرنسي، مؤكدًا أنه “رغم تدهوره وتصدع واجهاته، فإن قيمته كانت في طرازه المعماري”. لكن انهياره الأخير جاء مع غياب أي تدخل رسمي، حتى إن اللوحة التذكارية لم تُحفظ بعد هدمه.

ويشير الباحث إلى أن الإهمال ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى عقود مضت: “السويس دُمّرت في الحرب، وما تبقى منها هُدم بدم بارد في الستينيات، خاصة بعد ثورة يوليو، حين استُخدمت المباني التاريخية كمقرات حكومية دون أي اهتمام بصيانتها”. ويصف حال قصر محمد علي اليوم بأنه “رث، بلا أي تقدير لقيمته كأثر يمكن أن يكون مصدر دخل للمدينة”.

ويستشهد بمثال آخر: قصر سليم شحاتة، الذي شُيّد في الثلاثينيات، وكان صاحبه عضوًا في مجلس النواب وممولًا لبناء مستشفى الصدر بالسويس – والتي كانت تحفة معمارية قبل أن تُهدم ضمن مشروع التأمين الصحي الشامل. القصر نفسه يخضع حاليًا لسيطرة اتحاد نقابات البترول، وتُجرى فيه تغييرات عشوائية على الواجهات والنوافذ دون أي وعي بالقيمة التاريخية للمكان.

يختم عبدالعال حديثه لـ”زاوية ثالثة” بقوله: “نحن لا نملك وعيًا حقيقيًا بقيمة آثارنا. بلدان أخرى بلا تاريخ تسعى لصنع تاريخ لنفسها، بينما نحن لدينا تاريخ ومع ذلك ندمّره بأيدينا”.

 

كيف يدار ملف الآثار في مصر؟

غير مسجَّل كأثر تاريخي

لم يكن بيت بطرس كساب وحده ما أثار الجدل حول طريقة هدمه مؤخرًا، ولم تقتصر وزارة الآثار المصرية على تبرير موقفها تجاهه فقط بعبارة “غير مسجَّل كأثر تاريخي”، إذ اعتمدت الوزارة هذا الرد في العديد من الحالات المشابهة التي طالت مباني ومقابر ذات قيمة تاريخية ومعمارية بارزة. 

وبموجب هذا الموقف، تُترك عشرات العقارات التراثية عرضة للهدم أو التغيير الجذري لمجرد أنها لم تُدرج في سجلات الآثار الرسمية، وهو ما يراه أثريون ومؤرخون وقانونيون قصورًا إداريًا يحرم المدن من حماية مبانيها القديمة، ويُفقد المجتمع أجزاء من ذاكرته العمرانية والثقافية.

فعلى سبيل المثال، قامت السلطات المصرية بهدم مقابر وأضرحة في جبانة المماليك ضمن مخطط محور “الفردوس”، بعدما اعتبر قطاع الآثار الإسلامية أن هذه المباني “غير مسجَّلة في عداد الآثار الإسلامية والقبطية”، وهو ما جعلها خارجة عن نطاق الحماية الرسمية. وبالمنطق ذاته، جرى التعامل مع قبة محمد علي في جبانة الإمام الشافعي التي أزيلت رغم ارتباطها المباشر بعهد محمد علي باشا، بدعوى أنها “غير مسجَّلة ضمن المواقع الأثرية”.

وتكرر الموقف في قضية مقابر باب النصر بالقاهرة، حيث بررت وزارة الآثار عمليات الإزالة بأنها “غير مسجَّلة كأثر تاريخي”، رغم قيمتها المعمارية وصلتها بتاريخ القاهرة الإسلامية المصنفة على قائمة التراث العالمي لليونسكو. كما أُثيرت انتقادات مشابهة عند إزالة أجزاء من مقابر الإمام الليث بن سعد في البساتين، وهي من أقدم جبانات مصر الإسلامية، لكن الرد ظل ثابتًا: “غير مسجَّلة كأثر”.

وامتدت هذه السياسة أيضًا إلى مبانٍ سكنية وتاريخية في الإسكندرية، مثل فيلات وحدائق محرم بك والمنتزة، التي واجهت الهدم أو التغيير الجذري خلال مشروعات التطوير، مع الاكتفاء برد رسمي بأنها لا تحمل صفة التسجيل الأثري.

وبينما تصرّ الجهات الرسمية على اعتبار التسجيل هو الفيصل القانوني الوحيد لحماية المباني والمواقع، يرى خبراء التراث والآثار والباحثون في التاريخ أن هذا النهج يُختزل فيه معنى التاريخ والمعمار، ويُعطي الذريعة للتباطؤ في تنفيذ القانون وتسجيل الأماكن التراثية ذات القيمة. وبهذا، يُترك مصير مبانٍ عريقة عرضة للجرافات دون أي حماية أو مراجعة متخصصة.

في هذا السياق، علّقت الآثارية نرمين خفاجي بغضب في حديثها إلى زاوية ثالثة، على تجاهل المسؤولين لمناشدات المتخصصين والمهتمين بالتاريخ بضرورة تسجيل المباني التراثية القديمة. “الإجابة عن أي سؤال يخص الآثار والمنشآت القديمة التي تُهدم ولا يتم تسجيلها، غير موجودة إلا عند المسؤولين الذين لم يستجيبوا لأي مناشدات أو مطالبات في هذا الإطار.”- تقول نرمين.

من جانبنا، تواصلنا مع الدكتور جمال عبد الرحيم، عضو اللجنة الدائمة بوزارة الآثار، الذي نفى بشكل قاطع في حديثه إلى زاوية ثالثة تعرّض أي أثر للهدم أو الإزالة. وأقرّ في الوقت نفسه بوجود حاجة ملحّة إلى إدراج بعض المواقع القديمة ضمن قوائم التسجيل الأثري، لكنه شدّد على أن عملية الضم تخضع لقواعد ومعايير محددة، موضحًا أن “ليس كل مبنى قديم يصلح تسجيله كأثر.”

 

التراث المصري في المزاد..إرث حضاري مهدد بالسرقة 

 

تاريخ من هدم التراث

في ورقة “بعنوان هدم المعالم التراثية بمصر: الواقع والمخاطر” قدمها الدكتور حسين بقيل الباحث والأكاديمي في الآثار، على المعهد المصري للدراسات بتاريخ 31 أغسطس 2020، أن هناك فرق كبير بين التراث والأثار؛ فالمواقع الأثرية هي تلك المواقع المسجلة بوزارة الآثار، أو تلك المواقع التي تتحقق فيها شروط التسجيل بالآثار غير أن هناك معوقات قد تكون منعت من تسجيلها، خاصة وأن عملية تسجيل الآثار في مصر عملية معقدة. والمواقع الأثرية والحفاظ عليها وعدم التعرض لها يتبع قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته.

أما المعالم التراثية، فهي تلك المعالم المميزة التي لا ينطبق عليها تعريف الموقع الأثري، ولكنها تتسم في ذات الوقت بإحدى ثلاث صفات أو أكثر، وهي: أن تحمل طرازا معماريا متميزا وفريدا، أو تعود لحقبة تاريخية معينة، أو تلك التي كانت مسكنا خاصا لإحدى الشخصيات المهمة والتاريخية. والمعالم التراثية والحفاظ عليها وعدم الإضرار بها يتبع عددا من القوانين الخاصة بها، مثل: القانون رقم 144 لسنة 2006، والقانون 119 لسنة 2008.

وأوضح الباحث أنه بالرغم من أن عمليات هدم التراث في مصر على أيدي الحكومات ازدادت وتيرته خلال السنوات الأخيرة، إلا إن عمليات الهدم تلك قائمة في مصر منذ سنوات طويلة، حيث تم هدم العديد من الفلل والقصور التاريخية والمباني التراثية سواء التاريخية، أو التي تخص شخصيات تاريخية، أو ذات الطابع المعماري والعمراني الفريد، وخاصة في محافظتي القاهرة والإسكندرية.

في تصريح سابق للمهندس محمد أبو سعدة، رئيس الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، قال أن عدد المباني التراثية المسجلة في مصر تجاوز 7000 مبنى، موضحًا أن وأوضح أن عملية التسجيل تتم وفق معايير محددة نصّ عليها القانون رقم 144 لسنة 2006، وتشمل تميز المبنى بطراز معماري فريد، أو ارتباطه بشخصية تاريخية بارزة، أو تجسيده لحقبة زمنية بعينها، أو اعتباره مقصدًا سياحيًا، أو كونه من تصميم أحد الرواد المعماريين.

في حديثه إلى زاوية ثالثة، يوضح المحامي إسلام عبد المجيد أن المباني والمنشآت القديمة في مدن مثل بورسعيد والسويس لا تُسجَّل عادةً كآثار، لكنها تخضع لقانون حماية التراث المعماري رقم 144 لسنة 2006، والمعروف باسم “قانون تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري”. إذ تنص المادة الثانية من هذا القانون على حظر الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني ذات الطابع المعماري المميز، بشرط توافر معايير محددة مثل ارتباط المبنى بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية، أو كونه ضمن خطة تاريخية أو مزارًا سياحيًا.

ويشير عبد المجيد إلى أن “هذا القانون يوفّر حماية قانونية، لكن في الواقع تمّت إزالة عدة مبانٍ رغم إدراجها كتراث معماري، وهو ما يشكل مخالفة صريحة للنصوص القانونية”. ويضرب مثالًا بالقنصلية الأمريكية القديمة في بورسعيد، التي أُزيلت رغم قيمتها البالغة، وكذلك أحد المنازل الإنجليزية في شارع الجمهورية الذي هُدم منذ نحو عامين.

كما يضيف أن رئيس مجلس الوزراء أصدر في عام 2011 قرارًا خاصًا ببورسعيد يحظر هدم العمارات ذات الطابع التراثي المميز، لكن مع ذلك سُجّلت خمس أو ست حالات إزالة مخالفة. ويؤكد أن “مسألة تسجيل الأثر تخضع لمعايير، فليس كل ما تجاوز عمره مئة عام يُعتبر أثرًا، وإنما يتم التقييم وفقًا لقيمته التاريخية والعلمية والدينية”، لافتًا إلى أن هذا التقدير في النهاية يعود إلى السلطة المختصة.

 

مطاعم وأفراح وسط المعابد.. هل أصبحت آثار مصر للإيجار؟

تسجيل التراث لا يحمي من الهدم

قال المهندس المعماري عمرو أبو طويلة في حديثه إلى زاوية ثالثة إن مسألة تسجيل المباني في مصر تنقسم إلى مستويات متعددة، لكل منها معايير مختلفة. فـ”التسجيل الحضاري”، الذي يقوم به الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، يعني إدراج مبنى ما باعتباره “مبنى ذا قيمة” وفق معايير مثل الطراز المعماري، أو ارتباطه بشخصية تاريخية، أو وقوع حدث مهم فيه. لكنه أوضح أن هذا النوع من التسجيل “لا يترتب عليه أي حماية قانونية حقيقية”، بل يظل مجرد توصيف رمزي، إذ لا يمنع الهدم أو التغيير الجذري.

أما تسجيل الآثار فهو أكثر تعقيدًا، ويتم من خلال وزارة الآثار وفق إجراءات قانونية صارمة، لكنه نادر جدًا منذ عقود، باستثناء حالات استثنائية محدودة. وأشار أبو طويلة إلى أن جذور هذا النظام تعود إلى “لجنة حفظ الآثار العربية” التي تأسست في القرن التاسع عشر إبان عصر محمد علي، وتطورت لاحقًا لتصبح جزءًا من المجلس الأعلى للآثار.

وأضاف أن هناك أيضًا تسجيل المناطق ككيانات عمرانية متكاملة، مثل وسط القاهرة، وهو تسجيل حضاري أشمل، فضلًا عن التسجيل الدولي في قوائم التراث العالمي لليونسكو، الذي يخضع لشروط معقدة. ولفت إلى أن القاهرة التاريخية مهددة مرارًا بالإزالة من قوائم التراث العالمي بسبب موجات الهدم والتغيير، فيما طلبت مصر نفسها في وقت سابق رفع بعض المواقع لإتاحة حرية أكبر في التعامل معها.

واعتبر أبو طويلة أن التوسع في التسجيل، لا العكس، هو ما تحتاجه مصر لحماية تراثها العمراني. لكنه انتقد محدودية صلاحيات جهاز التنسيق الحضاري، قائلاً إن “التسجيل الحضاري يظل دون قوة تنفيذية حقيقية، رغم وجود معايير واضحة لدى الجهاز”، وضرب أمثلة بمبانٍ كبرى مثل فيلا جمال عبد الناصر أو مبنى الحزب الوطني، التي تم تسجيلها باعتبارها “مبانٍ ذات قيمة” من الناحية التاريخية، لكن ذلك لم يمنع تعرضها للتغييرات أو الإزالة.

في السياق، يقول المهندس الاستشاري المعماري نادر علي، المتخصص في الحفاظ على التراث المعماري، في حديثه لـ”زاوية ثالثة” إن تسجيل المباني الأثرية في مصر مسؤولية وزارة الآثار من خلال لجنة متخصصة، تعمل وفق معايير محددة. من أهم هذه المعايير مرور أكثر من 100  لسنة عام على المبنى وفقًا لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته ، إلى جانب توافر قيمة معمارية فريدة، سواء في الزخارف أو النقوش أو العناصر الداخلية مثل الأرضيات والأسقف. ويضيف أن هناك أيضًا قيمًا أخرى معتمدة في التسجيل، مثل القيمة التاريخية (ارتباط المبنى بشخصية عامة أو حدث مهم)، والقيمة الإنسانية أو الرمزية، والقيمة الإنشائية إذا كان البناء يتميز بطريقة فريدة في التشييد.

يوضح نادر أن المشكلة تكمن في أن عدد المباني التي تجاوز عمرها 100 عام في مصر كبير جدًا، وغالبية هذه المباني تعاني من الإهمال وسوء الصيانة بسبب ضعف إمكانيات الملاك، خصوصًا في ظل الإيجارات القديمة، ما يؤدي إلى تدهور حالتها وانهيارها تدريجيًا بفعل العوامل الطبيعية أو الحوادث

ويشير الاستشاري المعماري، إلى أن وزارة الآثار تواجه عبئًا ضخمًا، فهي مسؤولة عن حماية الآثار الإسلامية والقبطية والفرعونية والرومانية من الإسكندرية إلى أسوان ومن العريش إلى سيوة، وهو ما يفوق قدرتها المالية والبشرية. لذلك أُنشئ الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ليضع معايير لتصنيف المباني ذات الطابع المعماري المميز، رغم أنها ليست مسجلة كآثار. وقد قسمها الجهاز إلى ثلاث درجات بهدف الحفاظ عليها وتقييد عمليات التجديد أو الهدم.

لكن، بحسب نادر علي، يظل تطبيق هذه القوانين ضعيفًا للغاية، إذ تتم أحيانًا أعمال هدم أو تغيير في هذه المباني دون الرجوع للجهاز، ما أدى إلى فقدان عدد من العقارات ذات القيمة.

ويلفت إلى أن مصر تعرضت أكثر من مرة لانتقادات من منظمة اليونسكو، التي هددت بشطب بعض المناطق المسجلة على قائمة التراث العالمي بسبب موجات الإزالة والتغييرات العمرانية، وهو ما يمثل مؤشر خطر يستوجب اهتمامًا أكبر. وأضاف: “لدينا مبانٍ عمرها 150 عامًا تُهدم بسهولة، بينما في دول أخرى تُسجل المباني التي لم يتجاوز عمرها 70 عامًا باعتبارها تراثًا يجب حمايته”.

وفقًا لاتفاقية حماية التراث العالمي الصادرة عن المؤتمر العام لليونسكو في 16 نوفمبر 1972، والتي صادقت عليها 180 دولة من بينها مصر، وتهدف إلى تصنيف وتوثيق وصون المواقع ذات الأهمية الاستثنائية للإنسانية، سواء كانت ثقافية أو طبيعية، تحصل الدول التي تُدرج مواقعها في القائمة على دعم مالي بشروط محددة. وقد بلغ عدد المواقع المسجلة في هذه القائمة حتى عام 2018 نحو 1092 موقعًا موزعة على 167 دولة.

وتنص الاتفاقية على أن ملكية مواقع التراث تعود إلى الدولة التي تقع داخل حدودها، غير أنها تحظى باهتمام المجتمع الدولي لضمان صونها للأجيال القادمة، وتشارك الدول الأعضاء كافة في مسؤولية حمايتها. 

 في المقابل لا تضم مصر سوى سبعة مواقع فقط على قائمة التراث العالمي، ستة منها مواقع أثرية أُدرج آخرها قبل أكثر من ربع قرن، بينما يُعد الموقع السابع تراثًا طبيعيًا. وتشمل هذه المواقع: منطقة أبو مينا الأثرية بالإسكندرية، ومنطقة القاهرة التاريخية، ومنطقة آثار منف، ومدينة طيبة القديمة، ومدينة النوبة ومعابدها، ودير سانت كاترين، إضافة إلى وادي الحيتان بمحافظة الفيوم، وهو الموقع الوحيد المسجَّل ضمن التراث الطبيعي.

الجدير بالذكر أن القاهرة التاريخية كانت قد واجهت خلال السنوات الماضية،  تهديدًا من منظمة اليونسكو برفعها من قائمة التراث العالمي، على خلفية تراجع أوضاعها العمرانية وعدم الالتزام بمعايير الحماية الدولية.

في المقابل وفي خطوة مثيرة للجدل، طالبت مصر منظمة اليونسكو تقليص مساحة القاهرة التاريخية المدرجة كتراث عالمي عام 2023، الأمر الذي رفضته اليونسكو واعتبره خبراء التراث إشارة إلى رغبة الدولة في التخلص من القيود الدولية المرتبطة بالحفاظ على التراث داخل مصر.

في الوقت الذي تسعى فيه دول أخرى تفتقر إلى التاريخ لصناعة ذاكرة عمرانية رمزية تتفاخر بها، تواصل مصر التفريط في معالمها الحقيقية التي تختزن قرونًا من الصراع والتطور وتشكل ملامح الهوية الوطنية. ما يثير تساؤلًا: هل تمتلك الدولة الإرادة الكافية لحماية ما تبقى من تراثها العمراني والثقافي قبل أن يُمحى من الذاكرة الجمعية، أم ستظل لافتة “غير مسجَّل كأثر” مبررًا رسميًا لمحو التاريخ؟

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search