لم يكن السيد محمد السيد قد تجاوز السابعة عشرة من عمره حين غادر بيته في قرية العايد التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية، ذات صباح قائظ من يوليو العام الماضي. خرج بخطى مترددة، يحمل في صدره حلمًا يراه أكبر من حدود قريته الصغيرة، وأملًا بعيشٍ كريمٍ في أرضٍ جديدة، دون أن يُفصح لأحد من أسرته عن وجهته. لم يكن يدرك أن رحلته نحو “الحياة الأفضل” ستقوده إلى جحيمٍ حقيقي، وأن مجرد العودة إلى فقره الذي كان يهرب منه سيغدو حلمًا بعيد المنال.
كان السيد طالبًا في المدرسة الثانوية الفنية الصناعية، حين تعرف عبر الإنترنت إلى شخصٍ زعم قدرته على تهريبه إلى إيطاليا عبر الإسكندرية. حين أخبر والده بالأمر، رفض الأب بشدة وحذّره من مغبة الهجرة غير النظامية، مؤكدًا له أنه لا يملك جواز سفر ولا أوراقًا رسمية تخوّله السفر. وعده الأب بأن يشترك في “جمعية” لتدبير نفقات السفر الشرعي لاحقًا، لكن الأسرة صُدمت في اليوم التالي باختفائه، بعدما غادر فجأة دون أن يودّع أحدًا.
في البداية، ظن الوالدان أن الابن يعمل مع عمه كـ”مبلّط أرضيات” لتأمين نفقاته ومساعدة أسرته المتواضعة. لكن سرعان ما انكشف المستور، حين أبلغه أحد شباب القرية أن “السيد” في طريقه إلى ليبيا، تمهيدًا للعبور إلى إيطاليا عبر البحر.
يتذكر الأب تفاصيل تلك الليلة الثقيلة حين تلقى اتصالًا من ابنه بعد منتصف الليل، قال فيه إنه وصل إلى السلوم برفقة مجموعة من المهربين، يقودهم شخص يُدعى “أبو أدهم” من المنصورة، تعرف إليه عبر الإنترنت. أخبره أن نحو خمسة أو ستة من أبناء القرية رافقوه، وأنهم سيُسلّمون هواتفهم قبل دخول ليبيا. بعد ذلك أُغلق الخط. لاحقًا، تواصل المهرب مع الأب طالبًا 220 ألف جنيه مقابل استكمال الرحلة إلى إيطاليا، أو 50 ألف جنيه لإعادته إلى مصر، لكن الأب العاجز رفض لأنه لا يملك المبلغ.
كان آخر اتصال تلقاه الأب من ابنه من داخل مركز احتجاز في بئر الغنم، وهي بلدة صغيرة تابعة لمحافظة الزاوية الليبية، تبعد نحو 90 كيلومترًا عن طرابلس. أخبره الشاب أن المهربين يحتجزونه ويطالبونه بدفع 120 ألف جنيه لإطلاق سراحه. وبعد أيام، علم الأب أن ابنه وقع في قبضة السلطات الليبية، بعد مداهمة السيارة التي كانت تقله مع آخرين.
يقول محمد السيد في حديثه لـ”زاوية ثالثة”: “ابني تواصل معي منذ نحو عشرين يومًا فقط عبر تطبيق واتساب كتابةً، وقال إنني سببت له مشكلة بسبب منشور كتبته عنه على فيسبوك. أخبرني أنهم ضربوه وأهانوه بسبب المنشور، وطلب مني ألا أكتب شيئًا مرة أخرى. قال لي إن السلطات الليبية وعدت بالإفراج عن القُصَّر دون 16 عامًا وكبار السن والمرضى، لكن حتى الآن لم يُفرج عنه رغم خروج دفعات من المحتجزين مؤخرًا.”
ويتابع الأب بصوتٍ متهدّج: “من قريتنا وحدها، خرج نحو خمسين شابًا تتراوح أعمارهم بين 15 و16 عامًا في يونيو الماضي، بعضهم وصل إلى إيطاليا، وآخرون لا يزالون محتجزين في السجون الليبية، وهناك من انقطعت أخبارهم تمامًا.”
يضيف الأب أن أحد الشباب الذين عادوا من ليبيا أخبره أن ابنه ما زال محتجزًا في بئر الغنم، حيث يتعرض المهاجرون هناك لـ”سوء معاملة قاسية”، قائلًا:
“قال لي إنهم لا يحصلون إلا على رغيف خبز واحد في اليوم، ويتعرضون للضرب والإهانة، ويعاملونهم كالبهائم.”
حتى اليوم، لا يزال السيد محتجزًا في سجن بئر الغنم، أحد أكثر مراكز الاحتجاز قسوة في ليبيا، والذي يضم مئات المهاجرين غير النظاميين، بينهم قُصَّر. طرق الأب كل الأبواب، قدّم بلاغًا لوزارة الخارجية المصرية، وتواصل مع النائبة سحر عتمان التي وعدته بالتدخل، لكن دون جدوى.
يختتم الأب حديثه بنداءٍ يفيض بالعجز والألم:
“نطالب السلطات المصرية، وخصوصًا وزارة الخارجية، بالتدخل العاجل لإنقاذ أبنائنا القُصَّر المحتجزين في ليبيا. قدّمت كل الطلبات الممكنة، لكن لا أحد يرد. لا نعرف مصير أولادنا، ويقال إن السفارة المصرية لا تتواصل مع الجهات الليبية المسؤولة عن الإفراج عنهم.”
وبالتزامن تعيش كاميليا أرمانيوس القاطنة مع طفلها في قرية أبانوب بمحافظة أسيوط جنوب مصر، معاناة منذ غادر ابنها أبرام جورج سعد، الذي بلغ عامه الثاني والعشرين، في السادس والعشرين من نوفمبر الماضي، رفقة ثلاثة شبان آخرين من أبناء مركزي أبنوب والفتح بأسيوط، بحثًا عن فرصة حياة أفضل في إيطاليا، بعدما باعت الأم بيتًا ريفيًا صغيرًا كل ما تملكه، واقترضت الأسرة ما تبقّى من أموال لمنحها لسمسار الهجرة غير النظامية.
تروي كاميليا تفاصيل الرحلة التي مر بها الابن ورفاقه الثلاث، حين سافروا إلى ليبيا، العام الماضي، حيث أقاموا لدى شخص كان ينظّم رحلات الهجرة غير النظامية، وبعد أشهر من الانتظار على الأراضي الليبية، أبحروا من الساحل الليبي في الحادي عشر من أبريل المنقضي، ومنذ ذلك الحين، انقطع الاتصال، وكأن البحر ابتلعهم في صمت، ليبدأ ذويهم رحلة البحث عن أثرهم..
سعت الأسر الأربع إلى أي خيط يقودهم إلى الحقيقة؛ دفع بعضهم مبالغ كبيرة لأشخاص وعدوا بالمساعدة، وتواصلوا مع وسطاء مصريين في ليبيا، أحدهم أخبرهم أن أبناءهم محتجزون في سجن بئر الغنم بليبيا، وطلب سبعة عشر ألف دينار ليبي عن كل شاب لإطلاق سراحهم، لكن الأمل سرعان ما تبدد حين عاد الوسيط ليقول إن السلطات قررت ترحيل جميع المحتجزين، دون أن يظهر أثر للشاب أبرام أو رفاقه.
تقول كاميليا لـ”زاوية ثالثة”: نحن نتابع كل ما يُنشر من أخبار حول سجن بئر الغنم، وكان قد تم تداول أنباء عن ترحيل 45 مصريًا من المركز إلى جنوب ليبيا، إلا أن أسماء أبنائنا لم تكن ضمن المرحّلين، وأنا تحدثتُ مع أحد الذين تم ترحيلهم، فقال إن العنبر الذي كان فيه قد أُفرغ بالكامل، لكنه لم يرَ أبرام أو أيًا من الشبان الآخرين”.
وحول الظروف التي دفعت ابنها إلى الهجرة، توضح: “زوجي متوفى منذ أربع سنوات، وتركني مع ولدين، أبرام وتوماس. أبرام لم يجد أي فرصة عمل في أسيوط، وكان يريد أن يسافر ليبني مستقبله ويتزوج مثل بقية الشباب. نحن نعيش في بيت والدي، وظروفنا المادية صعبة للغاية، ابني حاصل على دبلوم صناعي، وكان يأمل في إيجاد عمل في إيطاليا بعد أن فشل في الحصول على وظيفة داخل مصر”.
وتؤكد الأم أن أسر الشباب الأربعة تعيش المعاناة نفسها، لا تعرف مكان احتجاز أبنائهم سواء كانوا في سجن بئر الغنم أو نُقلوا إلى سجن آخر، وهم يتابعون الأخبار يوميًا ويبحثون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن بلا جدوى.
وكان المجلس الوطني للحريات وحقوق الإنسان في ليبيا، قد دعا وزارة الخارجية إلى مخاطبة السفارات والقنصليات المعنية بالمهاجرين المحتجزين داخل البلاد، وحثّها على الإسراع في إصدار وثائق السفر لهم، مشددًا على أهمية التنسيق الدولي لدعم الجهود الوطنية في إدارة ملف الهجرة غير النظامية.
وجاءت هذه الدعوة عقب زيارة ميدانية نفذها فريق حقوقي من المجلس إلى مركز بئر الغنم المخصص لتوقيف المهاجرين غير النظاميين، حيث كشف التقرير الصادر عن الزيارة عن وجود أكثر من 600 مهاجر يعيشون في ظروف إنسانية حرجة نتيجة تأخر بعض البعثات الدبلوماسية في استكمال إجراءات رعاياها وقصور البنية الإدارية للمركز.
وأكد المجلس، في بيان له، نشره في 23 سبتمبر المنقضي، على ضرورة تنظيم عمليات ترحيل المهاجرين وفق المعايير الدولية، وتعزيز التعاون مع المنظمات الدولية، وعلى رأسها المنظمة الدولية للهجرة، لتوسيع برامج العودة الطوعية والدعم الإنساني، مطالبًا بتوفير الدعم الفني والمالي للمؤسسات الوطنية الليبية من قبل الدول والمنظمات الداعمة، بما يضمن إدارة ملف الهجرة بفعالية وحماية حقوق المهاجرين ومعاملتهم بكرامة ضمن إطار قانوني وإنساني متوازن.
بدوره أجرى نائب رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية بالمنطقة الغربية في ليبيا، زيارة ميدانية إلى مركز إيواء بير الغنم، في 21 سبتمبر المنقضي، للوقوف على أوضاع المهاجرين، بحسب ما ذكر الجهاز، وفي مقطع فيديو قصير ظهر النائب واقفًا أمام قاصرين مصريين جالسين على الأرض، ووعدهم بأن يتم الإفراج عنهم.

المال مقابل الحرية
في الثالث والعشرين من أغسطس عام 2021، استقل كلٍ من حسن صلاح عطية إبراهيم ( 33 عامًا)، وابن عمه حسين حاتم حسن عطية إبراهيم ( 20 عامًا) قاربًا يقل نحو أربعين شابًا من قريتهم الواقعة في مركز أبو حماد بمحافظة الشرقية، متجهين إلى إيطاليا. لكن البحر انقلب عليهم كما انقلبت حياتُ أسرهم بعدها؛ فقد غرق بعض الركاب وأُعيدت جثامينهم إلى مصر، إلاّ أن حسن وحسين كانا من الناجين، ونقلا إلى المستشفى مع المصابين، ثم ألقت السلطات الليبية القبض عليهم.
يروي صلاح عطية، والد حسن، أن هناك سمسارًا من البلدة هو من نظّم رحلة السفر التي انطلقت من مدينة طرابلس الليبية، مقابل 80 ألف جنيه مصري أخذها من كل شخص، ثم فرّ هاربًا بعد غرق القارب، وبعد مرور شهر على احتجاز الناجين من الغرق، وبينهم حسن وحسين، تعرّف صلاح على موقع احتجازهما بعد انتشار صورتهما، في سجن “بئر الغنم”، ولاحقًا تواصل معه آخرين ممن كانوا هناك وأخبروه بأنهما كانا في عنبر آخر داخل السجن، عقب ذلك توجّه إلى وزارة الخارجية المصرية وقدّم بلاغًا رسميًا، حيث وجد أسميهما مدرجين ضمن قائمة انتظار للترحيل إلى مصر تضم 105 محتجزين، ـ اطلعت عليها زاوية ثالثة ـ، غير أن أخبارهما انقطعت تمامًا بعد ذلك.
يقول لـ”زاوية ثالثة”: “تلقّينا اتصالات من أشخاص طلبوا منا دفع أموال مقابل وعود بالإفراج عنهما، فدفعت كل أسرة نحو 4000 جنيه مصري، وخسرنا أموالنا دون أي نتيجة، وتبيّن لنا لاحقًا أنهم خدعونا، وتقدمنا بشكاوى رسمية إلى وزارة الخارجية المصرية، كما تواصلنا مع النائبة سحر عتمان التي بدورها قدمت طلبًا للجهات المعنية لمتابعة القضية، لكننا لم نتلق أي رد رسمي من القنصلية المصرية في ليبيا”.
وتتشابه أحداث رواية الآباء والأمهات الذين تحدثوا مع “زاوية ثالثة”، مع ما جرى مع أحمد أحمد محمد (30 عامًا)، والذي غادر قريته بمحافظة الفيوم، وسافر إلى ليبيا عام 2023، للعمل هناك، ولكن عندما أقنعه مهربون بالإنضمام إلى رحلة هجرة غير نظامية إلى إيطاليا، في شهر مايو 2025، انقطعت أخباره عن ذويه، ولم يعرفوا عنه شيئًا إلاّ بعد ما ورد اسمه لاحقًا في منشور على صفحة “قصة مهاجر”، والتي تنشر أسماء المفقودين في رحلات الهجرة غير النظامية، وسرعان ما اكتشف الأهل أن اسمه مدرجًا ضمن كشفٍ بأسماء محتجزين في أحد السجون الليبية، لكن اسم السجن لم يكن مذكورًا به، وحين تواصل ابن عمه مع الشخص الذي نشر الكشف، وهو مواطن ليبي يدعى “أبو فارس” من مدينة سرت، زعم أن محمد محتجزًا في بئر الغنم وطلب منه مبلغ 15 ألف دينار ليبي مقابل الإفراج عنه، بحسب ما يحكي لـ”زاوية ثالثة”.
وعلى مدار الأشهر الماضية توالت استغاثات ذوي عدد من العمال والمهاجرين المصريين المحتجزين في منطقة بئر الغنم في ليبيا، مطالبين بالكشف عن مصير أبنائهم، كاشفين عن تلقيهم اتصالات تطالبهم بدفع مبالغ مالية مقابل الإفراج عنهم.
وغالبًا ما يتم إطلاق سراح المهاجرين غير النظاميين الذين يُلقى القبض عليهم في ليبيا، مقابل المال، باستثناء سجن واحد يُعرف باسم “مقر حبسة”، المخصص للمدمنين والمتهمين في قضايا مخدرات، أما باقي السجون مثل: سجن طرابلس، وبئر الغنم، وسجن المطار، فهي سجون حكومية تُدار فعليًا من قِبل الميليشيات، التي تحدد المبالغ المطلوبة لكل محتجز، إذ تتراوح ما بين 10 آلاف و25 ألف دينار، وبعض العائلات تدفع لاستعادة ذويها، فيما يعجز آخرون عن ذلك، بحسب ما يؤكد مصدر محلي لـ”زاوية ثالثة”.
يروي ماجد محمد (اسم مستعار) لـ”زاوية ثالثة” جانبًا من الظروف غير الإنسانية لاحتجازه عدة أشهر وفي أحد تلك السجون الليبية، لعدم حصوله على إقامة في طرابلس، مؤكدًا أن الطعام كان شحيحًا، مجرد نصف رغيف وقطعة جبنة صغيرة لكل شخصين، وكان الماء ملوثًا ويُوزع نحو لتر واحد منه لعشرات المحتجزين، الأمر الذي يؤدي إلى مشاجرات عنيفة متكررة بينهم نتيجة الجوع والعطش، ثم يأتي السجانون لتعليقهم من أرجلهم رأسًا على عقب ويضربونهم بخراطيم المياه، مؤكدًا أن الأدوية هناك كانت شبه منعدمة، والطبيب لا يقترب من السجناء بحجة الخوف من العدوى، وخلال فترة سجنه تعرض ماجد لأمراض جلدية وتلوث بسبب سوء المعيشة.
يصف السجن قائلًا:
“يتكوّن السجن من عشرة عنابر، مساحة كل عنبر نحو مئة متر فقط، وأقل عدد فيه سبعمئة شخص، وفي بعض العنابر أكثر من ألف وثلاثمئة. يوجد محتجزون من كل الجنسيات: مصريون، سودانيون، مغاربة، تشاديون، ومن دول النيجر ومالي أيضًا.”
الهجرة غير النظامية من مصر: جهود الحكومة غيرت مسار الرحلة فقط
مطالبات للسفارة المصرية بالتحرك
قبل أيام تم تسليم عدد من القاصرين المصريين الذين كانوا محتجزين في مركز بئر الغنم إلى جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية – فرع المنطقة الجنوبية، وذلك في إجراء تم بشكل غير معلن رسميًا، دون صدور أي بيان أو توضيح رسمي من الجهتين المعنيتين حتى الآن، بحسب ما ذكرت غرفة الإنقاذ الليبية، مشيرة إلى أن العدد الذي جرى تسليمه لا يتجاوز 45 قاصرًا فقط، فيما لا تزال المعلومات حول مصير باقي المحتجزين غير واضحة حتى اللحظة، في ظل غياب الشفافية والتصريحات الرسمية بشأن أوضاعهم الحالية.
وفي بيان لها، أهابت غرفة الإنقاذ بالأهالي في مصر إلى التواصل العاجل مع السفارة المصرية في ليبيا من أجل متابعة مصير أبنائهم القاصرين، والتحقق مما إذا كانوا قد أُعيدوا بالفعل إلى الأراضي المصرية أم ما زالوا داخل مراكز الاحتجاز الليبية، مؤكدة أن استمرار الغموض في هذا الملف يتطلب تحركًا رسميًا سريعًا وتنسيقًا دبلوماسيًا واضحًا لحماية هؤلاء الأطفال وضمان سلامتهم.
من جهته كشف طارق لملوم، الباحث في قضايا الهجرة واللجوء في ليبيا، المدير التنفيذي لمنظمة الليبية للإغاثة وحقوق الإنسان، أن المنظمة تلقت بلاغات من أسر محتجزين تفيد بتعرضهم لمطالبات مالية وابتزازات تتراوح قيمتها حول 13 ألف دينار ليبي مقابل الإفراج عن ذويهم المحتجزين في مركز بئر الغنم.
ودعا لملوم، في تدوينة له عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، الأهالي الذين يتلقون مثل هذه الاتصالات أو المطالبات إلى التواصل مباشرة مع المجلس الوطني للحريات وحقوق الإنسان في ليبيا، باعتباره جهة حكومية سبق أن زارت المركز وأصدرت تقريرًا رسميًا لم يشر إلى وجود معاملة مهينة داخل السجن.
وأضاف أن على جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا أن يعلن بشكل واضح عن حقيقة ما يجري داخل المركز، مؤكدًا أن المسؤولية القانونية والإدارية تقع على عاتق كل من الجهاز والمجلس الوطني للحريات وحقوق الإنسان، وأن المساءلة ستطال الجهتين معًا في حال استمرار الغموض، مشيرًا إلى أنه لا يمكن لجهاز الهجرة في طرابلس التنصل من المسؤولية بالقول إن مركز بئر الغنم “غير قانوني”، في الوقت الذي يواصل فيه المركز العمل رسميًا ويستقبل زيارات من سفارات وجهات حقوقية حكومية، ما يعزز طابعه الرسمي.
ويؤكد لملوم ضرورة أن يعمل رئيس جهاز الهجرة ونائبه على حل خلافاتهما الداخلية والتنسيق بينهما، مشددًا على أن استمرار هذا التباين يعرقل أي جهود لحماية المحتجزين ومساعدة الضحايا، محذرًا من أن الصمت والتقاعس عن توضيح الوضع القانوني للمركز سيجعلان جميع الأطراف المعنية في دائرة المسؤولية.
وفي تصريحات لزاوية ثالثة يعتبر طارق لملوم، أن وصول واحتجاز القاصرين والبالغين المصريين في منطقة بئر الغنم، الواقعة على بُعد نحو 50 كيلومترًا من طرابلس، يرتبط بظروف متشابكة تتعلق بملف الهجرة غير النظامية، موضحًا أن مركز بئر الغنم سيّئ السمعة، ولم يحظَ باعتراف رسمي كامل من السلطات الليبية، إذ يعترف به نائب رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، في حين يرفض رئيس الجهاز الاعتراف به، ما يثير تساؤلات حول الشرعية القانونية للمركز، الذي يقع تحت قيادة شخصية عسكرية ويتبع إداريًا وزارة الداخلية.
يقول: “أغلب المحتجزين في هذا المركز، وخصوصًا القاصرين، قد أُعيدوا من عرض البحر بعد محاولتهم الهجرة عبر سواحل طرابلس أو شواطئ ليبية أخرى، فيما تم القبض على بعضهم في المياه التونسية ونقلهم لاحقًا من تونس إلى ليبيا، قبل أن يُودَعوا في مركز بئر الغنم، احتجازهم لم يتم من الشوارع أو المنازل، وإنما جاء نتيجة محاولات فاشلة للهجرة غير النظامية”.
ويوضح لملوم أن المعلومات تشير إلى أن هؤلاء المحتجزين سُلّموا إلى جهات حكومية ليبية تمهيدًا لإعادتهم إلى مصر، وربما تم ذلك بالفعل بعد تدخل السفارة المصرية التي طالبت باستعادتهم، إلا أنه يحذّر من أن عملية نقلهم برًّا إلى جنوب ليبيا كانت محفوفة بالمخاطر، نظرًا إلى أن المنطقة غير آمنة، وأن الانتقال عبر الحافلات يجعلهم عرضة لاعتداءات أو اختطاف من شبكات تهريب مسلحة بهدف طلب فدية من ذويهم، أو حتى الوقوع في اشتباكات بين القوات الليبية والمجموعات المسلحة المنتشرة في تلك المناطق.
وينتقد لملوم غياب الشفافية في طريقة نقل القاصرين والتعامل مع قضيتهم، مؤكدًا أن الجهات الليبية والسفارة المصرية لم تفصحا بوضوح عن أماكن وجودهم أو أوضاعهم. وقال إن السفارة المصرية تواجه صعوبات حقيقية في التعامل مع الأجهزة الأمنية الليبية المنقسمة بين حكومتي الشرق والغرب، إلا أن ذلك لا يعفيها من مسؤوليتها تجاه مواطنيها، خصوصًا الأطفال والقاصرين المحتجزين في مراكز يُثار حولها الجدل القانوني.
ويضيف: “على السفارة المصرية أن تكون قد أعلنت منذ البداية عن العراقيل التي واجهتها في متابعة القضية، خاصة أن وزارتي الداخلية والخارجية في طرابلس لا تعترفان رسميًا بمركز بئر الغنم، وهو ما يجعل زيارته من قبل البعثات الدبلوماسية غير مسموح، لماذا تصمت السفارة عن هذه الوقائع رغم علمها باحتجاز الأطفال منذ أشهر؟، ما حدث مجازفة خطيرة، وأن على السفارة الآن أن تتحمل مسؤوليتها بالإفصاح عن مصير هؤلاء القاصرين وتوضيح ما إذا كانوا قد عادوا بالفعل إلى مصر”.
ويشدّد الباحث على أن السلطات الليبية، ممثلة في الحكومة ووزارة الداخلية، تتحمل المسؤولية المباشرة عن سلامة الأطفال المحتجزين، في حين تتحمل السفارة المصرية والتمثيل الدبلوماسي المصري جزءًا من المسؤولية كذلك، لأن من غير المقبول الادعاء بعدم معرفة مكانهم، في ظل ورود بلاغات عديدة من أسر مصرية عن أبنائها المفقودين الذين يُرجّح أن بعضهم غرق في البحر أو احتُجز في ليبيا.
ويختتم لملوم تصريحاته لنا بالتأكيد على أن السفارة المصرية كانت على علم بواقعة الاحتجاز منذ بدايتها، وبالتالي فإنها مسؤولة بشكل كامل عن متابعة مصير القاصرين المحتجزين، مؤكدًا أن عدد المحتجزين الحقيقي لا يزال مجهولًا، إذ تشير بعض المصادر إلى نقل 40 إلى 45 شخصًا فقط إلى الجنوب، في حين أن عدد البلاغات المقدمة من الأسر المصرية أكبر بكثير، مما يُبقي المسؤولية قائمة على وزارة الداخلية الليبية والسفارة المصرية على حد سواء.
كيف تحول اتفاقيات الهجرة الأوروبية المهاجرين المصريين إلى “مجهول؟
ظروف احتجاز قاسية
يكشف المحامي أحمد القصبي، المتخصص في قضايا الهجرة والجنايات، عن عشرات الحالات التي عايشها لناجين من الاحتجاز في ليبيا على خلفية قضايا هجرة غير نظامية، وأنهم كانوا يُعامَلون معاملة قاسية، ويُحرَمون من الطعام والماء، ويُباع بعضهم لعصابات الإتجار بالبشر نظرًا لكونهم بلا وضع قانوني أو حماية، مؤكدًا لـ”زاوية ثالثة” أن هناك حالات اختفاء قسري لأشخاص خرجوا عبر طرق غير شرعية منذ عامين أو ثلاثة، ولا تزال أسرهم تبحث عنهم في المنافذ والمطارات دون نتيجة، فلا أحد يعلم إن كانوا ماتوا أم غرقوا أم اختُطفوا.
ويوضح القصبي أن المهاجرين كانوا يُحتجزون أحيانًا في خنادق أو خيام داخل الصحراء، في ظل انعدام شبه تام للطعام والماء، ويتعرضون للضرب والتعذيب والسب، مؤكدًا أنه التقى إحدى الحالات التي كانت آثار التعذيب واضحة على جسده، إذ تم الاعتداء عليه لمجرد مطالبته بالعودة إلى أسرته، لافتًا إلى أن بعض العصابات كانت تبتز ذوي المحتجزين عبر إجبارهم على الاتصال بأسرهم لطلب فدية مالية، وبعد تسلم الأموال لا يتم إطلاق سراحهم، بل تُطلب مبالغ إضافية، وقد دفعت بعض الأسر الفدية أكثر من مرة دون أن يعود أبناؤها.
يقول لـ”زاوية ثالثة: “ المهاجرين غير النظاميين يعرّضون أنفسهم لمخاطر متعددة، تبدأ بالمخاطر القانونية، إذ يمكن أن يُقدَّموا للمحاكمة كمُتهمين في قضايا تهريب أو هجرة غير شرعية تصل عقوباتها إلى السجن المؤبد وغرامة مالية تصل إلى مليون جنيه. كما يواجهون مخاطر إنسانية وأمنية في الدول التي يهاجرون إليها، إذ يعيشون في خوف دائم وهروب مستمر من السلطات، وقد يقعون فريسة لعصابات الإتجار بالبشر أو الأعضاء البشرية، أو يتعرضون للتحرش والاعتداء الجنسي أو الاستغلال في أعمال غير قانونية”.
ويوضح القصبي أن كثيرًا من المهاجرين يلقون حتفهم أثناء رحلتهم، سواء جوعًا في الصحراء أثناء الهجرة البرية أو غرقًا في البحر أثناء الرحلات البحرية غير الآمنة، لافتًا إلى أن العصابات التي تنظم هذه الرحلات تتعامل معهم بوحشية، إذ يحتجزونهم في ظروف غير إنسانية، مبينًا أنه من خلال القضايا التي تولى الدفاع فيها، سمع من ضحايا هذه العصابات أنهم لم يكونوا يحصلون سوى على وجبة واحدة يوميًا لا تتجاوز رغيف خبز وقطعة جبن وزجاجة ماء، فضلًا عن تعرضهم للإهانة والسب والاعتداء البدني.
ويؤكد القصبي أن المهاجر غير النظامي، الذي يتخذ طريق ليبيا ومنها إلى البحر المتوسط، يواجه ثلاثة أنواع من المخاطر، وهي مخاطر قانونية تتعلق بالملاحقة الجنائية في وطنه أو في الدولة التي يقصدها، ومخاطر نفسية نتيجة الخوف والضغط والتجارب القاسية التي يمر بها، ومخاطر جسدية تتمثل في احتمال الوقوع ضحية لعصابات الإتجار بالبشر أو الأعضاء البشرية أو التعذيب والاستغلال.
ويضيف: “قضايا الهجرة غير النظامية تُعد من أخطر القضايا الجنائية المرتبطة بالهجرة والإتجار بالبشر، موضحًا أن المشرّع المصري خصص لها قانونًا مستقلًا هو القانون رقم 280 لسنة 2016، والذي تم تعديله لاحقًا ليصبح القانون رقم 22 لسنة 2022، ورغم أن الدولة سنت قوانين خاصة وغلّظت العقوبات للحد من انتشار الظاهرة، لاسيما عندما يكون ضحاياها نساءً أو أطفالًا، إلا أن استمرار الظاهرة يعود إلى ضعف التعليم، وندرة فرص العمل، وتردي الأوضاع الاقتصادية، ما يدفع كثيرين إلى الانسياق وراء وعود المهرّبين الذين يغوونهم بالسفر مقابل مبالغ تتراوح بين 100 و200 ألف جنيه، ليكون مصيرهم بعد ذلك إما النجاة والعبور، أو الاعتقال، أو الموت، أو التعذيب”.
وتحتل مصر المرتبة الثانية مــن حيث أعداد المهاجرين غير النظاميين عبـر الطريـق البحري مـن البحر المتوسـط والبري إلى أوروبا، إذ وصل إلى نحو 7938 مهاجـرًا منـذ يناير 2021 وحتى ديسمبر من العام نفسه، ولاسيما إلـى اليونان ومالطا وإيطاليا، بحسب دراسة، نشرها المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية “دراية”.
ويأتي المصريون في المركز الثاني بقائمة المهاجرين إلى أوروبا، عبر المنطقة الوسطى لحوض البحر المتوسط، والتي تشمل السواحل التونسية والليبية، وهو الطريق الذي يوصف بأنه الأخطر، واحتلت ليبيا المرتبة الأولى في عدد المهاجرين المتجهين إلى إيطاليا منذ بداية العام 2024، بحسب تقارير المنظمات المعنية بالهجرة غير القانونية.
من مصر إلى المكسيك: حلم أمريكي تحول إلى كابوس
بوابة خطرة للعبور نحو أوروبا
ظاهرة الهجرة غير النظامية في شمال إفريقيا، باتت أشبه بـ”حركة موسمية” تتزايد خلال أشهر الصيف حين تهدأ أمواج البحر، في ظل استمرار محاولات العبور من ليبيا وتونس، وأحيانًا من المغرب والجزائر، تبعًا لمستوى التشديد الأمني في كل منطقة، هناك تصاعدًا مقلقًا في أعداد القُصّر غير المصحوبين، الذين يخوضون رحلات الهجرة بمفردهم، وهو مؤشر خطر يهدد مستقبل المنطقة، والاحتجاجات التي تشهدها المغرب قد تدفع بموجة جديدة من الهجرة باتجاه أوروبا خلال الفترة المقبلة، بحسب ما توضح الدكتورة بسمة فؤاد، الخبيرة في شؤون الهجرة والمديرة التنفيذية لمؤسسة المستقلين الدولية.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “ يرجع اندفاع الشباب والقُصّر نحو الهجرة غير النظامية إلى “وهم أوروبا الجنة”، إذ تُصدّر وسائل التواصل الاجتماعي صورة زائفة عن حياة الرفاهية في الخارج دون الكشف عن الواقع الصعب الذي يعيشه المهاجرون بعد وصولهم، وفي حين يحظى بعض القُصّر بفرص تعليم وإقامة في الدول الأوروبية، فإن الشباب البالغون يُحتجزون أو يُحاكمون، وهو ما يفسر تزايد محاولات القُصّر تحديدًا”.
وتشدد الخبيرة على أن الجهل وليس الفقر هو الدافع الأخطر وراء هذه الظاهرة، موضحة أن كثيرين لا يدركون القوانين أو الحقائق الفعلية في الداخل والخارج، رغم أن رحلة الهجرة قد تُكلّف نحو 15 ألف يورو، وهو مبلغ يمكن أن يفتح مشروعًا صغيرًا في الوطن، لكن فقدان الأمل وتقليد الآخرين يسهمان في تفاقم الأزمة، خاصة في المناطق الريفية، حيث يسعى الشباب لتكرار تجارب سابقة دون معرفة تفاصيلها، لتتحول رحلة البحث عن حياة أفضل إلى طريق للموت البطيء في شوارع أوروبا القارسة البرودة.
وفيما يتعلق بالوضع في ليبيا، تصف المديرة التنفيذية للمؤسسة المعنية بقضايا الهجرة، ما يجري هناك بأنه “مأساة حقيقية كونها تحولت إلى بوابة خطرة للعبور نحو أوروبا وليست وجهة للاستقرار أو العمل”، مؤكدة أن المهاجرين المصريين الداخلين إلى ليبيا يواجهون شبكة من المهربين والسماسرة
والميليشيات، ويُعاملون كـ”سلع بشرية” تُختطف وتُباع وتُحتجز في ظروف غير إنسانية داخل مراكز مكتظة تفتقر للطعام والرعاية الصحية، ما يجعلهم أمام خيارين قاسيين: إما ركوب البحر في رحلة محفوفة بالموت، أو العودة إلى مصر محطمين نفسيًا وماديًا.
وفيما يتعلق بدور السفارات والقنصليات المصرية، بيّنت فؤاد أن قدرتها على التدخل محدودة قانونيًا، لأن أغلب المهاجرين غير النظاميين يتعمدون التخلص من أوراقهم الثبوتية لتسهيل طلبات اللجوء أو إخفاء هويتهم، مشيرة إلى أن بعضهم يتقمص لهجات أخرى لتضليل السلطات الأوروبية، لكن هذه الحيلة كثيرًا ما تُكتشف من خلال لجان متخصصة، موضحة أن السفارات لا تستطيع التعامل مع شخص لا يملك أي إثبات هوية أو يرفض الاعتراف بجنسيته، وأن المهاجرين أنفسهم غالبًا ما يتجنبون التواصل مع القنصلية خوفًا من الترحيل، ما يجعل تدخل الدولة شبه مستحيل.
وحول سُبل الحد من الظاهرة، تؤكد الخبيرة أن الحل لا يكمن في المنع، بل في توفير البدائل، داعيةً إلى توسيع برامج التدريب المهني المجاني أو منخفض التكلفة وربطها بفرص سفر قانونية وآمنة.
لا سيما أن الأسواق الأوروبية بحاجة إلى عمالة مؤهلة في مجالات الزراعة والتمريض والميكانيكا والإنشاءات، وأن توفير هذه التأهيلات داخل مصر يفتح الباب أمام هجرة شرعية تضمن الكرامة والأمان للمهاجرين، لافتة إلى أن مصر بدأت السير في هذا الاتجاه من خلال برامج لتأهيل الشباب لغويًا ومهنيًا قبل السفر، مستشهدة بالخطة الإيطالية “ماتِّي” التي تدعم تدريب الشباب في دول مثل مصر لتجهيزهم قبل السفر إليها، معتبرة أن هذه المبادرات تحقق فائدة مزدوجة، كونها تلبي احتياجات سوق العمل الأوروبي من العمالة، وفي الوقت نفسه تحسّن الأوضاع الاقتصادية للأسر المصرية وتزيد من تحويلات العاملين بالخارج، وهي مصدر رئيسي للعملة الصعبة في البلاد.
وتعد ظاهرة سفر القُصّر المصريين إلى أوروبا عبر ليبيا تمثل واحدة من أخطر الظواهر المرتبطة بالهجرة غير النظامية، رغم ما تبذله الدولة المصرية من جهود للتصدي لها على المستويات الأمنية والإعلامية والقانونية والتنموية، ، إذ نجحت السلطات في إحكام السيطرة على السواحل الشمالية ومنع خروج أي قوارب تهريب منها، غير أن مسارات التهريب انتقلت إلى الحدود الغربية مع ليبيا، مستغلة كونها طويلة وغير مسيّجة ومعظمها صحراء ورمال متحركة، الأمر الذي يجعل مراقبتها بشكل كامل أمرًا بالغ الصعوبة بحسب الدكتور أيمن زهري، خبير السكان ودراسات الهجرة ومؤسس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان.
ويوضح زهري أن المجلس القومي للطفولة والأمومة يتابع هذه القضية باهتمام خاص، ويتولى الوصاية القانونية على الأطفال القُصّر الذين ترفض أسرهم استقبالهم بعد وصولهم إلى أوروبا، مشيرًا إلى أن القانون الأوروبي، وخاصة الإيطالي، يمنع ترحيل القُصّر، وهو ما يجعل التعامل مع هذه الفئة أكثر تعقيدًا رغم وجود اتفاقية بين مصر وإيطاليا منذ عام 2007 لترحيل المهاجرين غير الشرعيين، إلاّ أن بعض أولياء الأمور استغلوا هذا الوضع القانوني، فبدلًا من أن يخاطر الكبار بالسفر غير الشرعي، صاروا يرسلون أبناءهم الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و12 عامًا، أملًا في أن يتم احتجازهم في مراكز رعاية أوروبية بدلاً من إعادتهم إلى مصر، لكن هؤلاء الأطفال يمرون بتجربة قاسية مليئة بالمخاطر والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تصل في بعض الحالات إلى فقدان الحياة.
يقول لـ”زاوية ثالثة”: “بعض الأطفال لا يتمكنون من الوصول إلى أوروبا ويُعادون من ليبيا، بينما ينجح آخرون في الوصول إلى السواحل الإيطالية، حيث يُودَعون في دور رعاية مؤقتة، لكن كثيرين منهم يفرّون منها في محاولة للوصول إلى أقاربهم أو معارفهم هناك، أملاً في العمل وتغطية تكاليف الرحلة وإرسال الأموال إلى ذويهم في مصر”.
ويؤكد زهري أن عصابات التهريب تنشط في المناطق الحدودية مع ليبيا، حيث تمارس تهريب الأشخاص والبضائع على حد سواء، مستفيدة من الطبيعة الجغرافية للحدود، موضحًا أن الظاهرة لا يمكن القضاء عليها بالكامل، لأن “حتى الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة، التي شيدت جدارًا فاصلًا مع المكسيك، لم تتمكن من منع التسلل والتهريب بشكل نهائي”.
ويرى عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان أن الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها بعض المواطنين قد تكون أحد دوافع الهجرة غير الشرعية، لكنها لا تبرر المجازفة بأرواح الأطفال، مشددًا على ضرورة تكثيف الجهود التوعوية داخل القرى والمناطق الريفية التي تشهد معدلات مرتفعة من سفر القُصّر.
ويختتم زهري تصريحاته لنا، مؤكدًا أن مصر تتعامل مع الظاهرة باعتبارها قضية أمن قومي وإنسان في آنٍ واحد، وأن القضاء عليها يتطلب تعاونًا دوليًا جادًا بين الدول المصدّرة والمستقبِلة للهجرة، إلى جانب استمرار التوعية المجتمعية ودعم الأسر الأكثر فقرًا حتى لا تضطر إلى الزجّ بأطفالها في هذه الرحلات المحفوفة بالموت.
وفي وقتٍ لا يزال فيه العديد من المصريين بينهم أطفال قُصّر محتجزون بمراكز الاحتجاز والسجون الليبية في ظروف قاسية، بلا تهم واضحة، ولا إجراءات قانونية، ولا تواصل مع عائلاتهم التي تكتفي بتتبع الشائعات وانتظار مكالمات عابرة تؤكد أن أبناءهم ما زالوا على قيد الحياة، تتآكل إنسانيتهم يومًا بعد يوم، وسط غياب أي تحرك فعّال يعيدهم إلى أوطانهم؛ فإن مناشدات الأسر تتواصل وتتحرك بعض الجهود الحقوقية على استحياء.
وتُظهر شهادات الأهالي والحقوقيين أن ملف المهاجرين القُصّر المحتجزين في ليبيا لم يعد قضية إنسانية فحسب، بل اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام الحكومتين، المصرية والليبية، بمسؤولياتهما القانونية والأخلاقية تجاه الأطفال والضحايا.