close

كيف تحول اتفاقيات الهجرة الأوروبية المهاجرين المصريين إلى “مجهول؟

.. تعكس السياسات الأوروبية الأخيرة، خاصة الاتفاق بين إيطاليا وألبانيا، اتجاها متسارعًا نحو عسكرة ملف الهجرة والتعامل معه بمعزل عن البُعد الإنساني والقانوني
Picture of رشا عمار

رشا عمار

في التاسع من مايو الماضي، نفذت إيطاليا أول عملية ترحيل مباشرة لخمسة مهاجرين مصريين من مركز احتجاز في جادر، ألبانيا، إلى القاهرة، وقد جاءت الخطوة ضمن اتفاقية مثيرة للجدل بين إيطاليا وألبانيا لمعالجة طلبات اللجوء خارج الحدود الإيطالية، أثارت تساؤلات حول قانونيتها وتداعياتها الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك تأتي الواقعة في سياق تصاعد السياسات الأوروبية الصارمة للحد من الهجرة غير النظامية، بقيادة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي تصنف مصر كدولة “آمنة” لتسهيل الترحيل.

ونقلت طائرة مستأجرة خمسة مهاجرين مصريين من مركز احتجاز في جادر، ألبانيا، إلى القاهرة، إذ توقفت الطائرة في تيرانا لمدة ساعة ونصف، وتكلفت العملية 113,850 يورو، ممولة من خلال مناقصة أعلنتها وزارة الداخلية الإيطالية، وحتى اللحظة لم تُفصح السلطات عن أسماء أو أعمار المرحلين، فيما تشير تقارير حقوقية إلى أن عملية الترحيل جاءت كجزء من استراتيجية إيطاليا للحد من تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط، حيث تُصنف مصر كدولة “آمنة” بموجب الاتفاقيات الثنائية، مما يسهل الترحيل دون الحاجة إلى إجراءات لجوء معقدة. ومع ذلك، واجهت العملية انتقادات قانونية وحقوقية واسعة، عضو البرلمان الإيطالي راشيل سكاربا وصفت الترحيل بأنه “غير مشروع”، مشيرة إلى أنه ينتهك التوجيهات الأوروبية للعودة ودستور إيطاليا.

يقول -المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين-، نور خليل، لزاوية ثالثة إن عمليات الترحيل التي يتعرض لها مصريون من إيطاليا أو دول أوروبية أخرى أصبحت تأخذ أشكالًا متعددة ومعقدة، تهدف في مجملها إلى الالتفاف على القوانين الدولية، وحرمان الأشخاص من حقوقهم الأساسية وعلى رأسها الحق في اللجوء. موضحًا أن هناك عدة أنواع من عمليات الترحيل الجارية حاليًا، أبرزها تلك المرتبطة بالاتفاق بين إيطاليا وألبانيا، والذي ينص على إنشاء مراكز احتجاز للمهاجرين على الأراضي الألبانية، يتم تسويقها إعلاميًا باعتبارها “مراكز استقبال”، بينما هي في الواقع عبارة عن سجون مغلقة محرومة من أدنى معايير حقوق الإنسان.

ويشير خليل إلى أن هؤلاء الأشخاص يتم احتجازهم في ألبانيا رغم أن القانون الأوروبي ينص على ضرورة معالجة طلبات اللجوء داخل أراضي الاتحاد الأوروبي، كما أن ألبانيا ليست دولة لجوء وفقًا للاتفاقيات الدولية، وتحديدًا اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين. ويضيف: “القضاء الإيطالي أصدر عدة أحكام تؤكد عدم دستورية هذا الاتفاق مع ألبانيا، وأمر بإعادة المجموعات التي نُقلت إلى هناك، لكن رغم ذلك، الحكومة الإيطالية مستمرة في تنفيذ هذه الإجراءات المخالفة للقانون الأوروبي والدولي، بل وتنقل اللاجئين والمهاجرين بشكل قسري إلى هذه المراكز، التي لا تختلف عن السجون من حيث الأوضاع القاسية، ومنع التواصل مع العالم الخارجي، وحرمان الأشخاص من فرص التحدث مع محامٍ أو تجهيز ملفاتهم لإثبات حاجتهم للحماية الدولية.

خلال السنوات الماضية، شهدت حركة الهجرة غير النظامية من مصر نحو إيطاليا ارتفاعًا ملحوظًا، مدفوعة بالأزمات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة. ففي عام 2022، وصل عدد المصريين الذين عبروا البحر المتوسط إلى إيطاليا نحو 20 ألف شخص، ما جعلهم الجنسية غير الأوروبية الأكثر ظهورًا في الإحصائيات الرسمية، ويرجع هذا الارتفاع بشكل رئيسي إلى تفاقم الأزمات المحلية، من تراجع قيمة الجنيه إلى ارتفاع معدل البطالة. بحسب وكالة “فرونتكس”، شكل المصريون حوالي 7% من إجمالي الواصلين إلى إيطاليا عبر المسار البحري المركزي في عام 2023، ما يضعهم ضمن الجنسيات الخمس الأولى في هذا المسار، وقد ارتفع ترتيبهم إلى المرتبة الرابعة خلال أول شهرين من عام 2024.

ولا يقتصر الأمر على البالغين فقط، فقد سجلت أعداد كبيرة من القُصّر غير المرافقين، بواقع 638 حالة خلال أبريل 2016 فقط مقارنةً بـ18 حالة في الفترة نفسها عام 2015، ما يعكس تصاعدًا خطيرًا في خروج القُصّر بمفردهم، وبالرغم من الجهود الأمنية لمنع انطلاق القوارب من السواحل المصرية منذ عام 2016، إلا أن المهاجرين يتوجهون إلى ليبيا كنقطة انطلاق رئيسية؛ تستخدم في عبور البحر باتجاه إيطاليا عبر مسارات تهريب معقدة.

 

نوصي للقراءة: إيطاليا تُسلّم ومصر تُعاقب: ترحيلات وإضرابات على الهامش

تعتيم والتفاف على القوانين

ويكشف مدير منصة اللاجئين في حديثه معنا أن المصريين الخمسة الذين تم ترحيلهم مؤخرًا من ألبانيا إلى مصر، كانت إقامتهم في تلك المراكز غير قانونية منذ البداية، وأن عملية إعادتهم إلى مصر جرت في سرية تامة، دون إعلان رسمي سواء من الجانب الإيطالي أو المصري، مشيرًا إلى أن إيطاليا خصصت طائرة بتكلفة 130 ألف يورو لتنفيذ عملية الترحيل، ما يؤكد حجم التعتيم والإنفاق الكبير لإتمام هذه السياسات.

ويوضح خليل أن الترحيل لا يقتصر على المصريين، بل يشمل جنسيات أخرى مثل التونسيين، في إطار توجه أوروبي أشمل يستهدف الحد من الهجرة، وحرمان الأفراد من طلب اللجوء، سواء عبر مراكز المعالجة الخارجية، أو من خلال القوائم التي تُسمى “قوائم الدول الآمنة”. متابعًا: “إيطاليا والدول الأوروبية تحاول الالتفاف على القانون الدولي باختراع مفهوم الدول الآمنة، وهو مفهوم غير قانوني، لأن القانون الدولي يشترط دراسة كل طلب لجوء على حدة، حيث إن الخطر يختلف من شخص لآخر، حتى داخل نفس الدولة. ما قد يكون آمنًا لرجل بالغ، قد لا يكون آمنًا لامرأة أو لأشخاص من الأقليات الدينية أو العرقية أو لأصحاب الرأي المعارض.

ويستطرد: “في حالات مثل سوريا وقت الحرب، أو السودان حاليًا بسبب النزاعات والإبادة الجماعية في دارفور، اعتمدت الدول مفهوم “البريما فاشا” أو التعريف الظاهري للاجئ، وهو الاعتراف الجماعي بحق الأشخاص في الحماية دون الدخول في التفاصيل الدقيقة لكل حالة نظرًا لشدة وخطورة الأوضاع في مناطقهم”.

لكن على العكس، بحسب خليل، تحاول الحكومات الأوروبية استغلال هذا المفهوم لفرض قوائم بالدول الآمنة بشكل جماعي، وهو إجراء مخالف للقانون الدولي ويهدف إلى تقليل أعداد المقبولين من اللاجئين، خاصة من دول مثل مصر التي أصبحت من بين أعلى الدول التي يصل منها مهاجرون غير نظاميين إلى أوروبا خلال السنوات الأخيرة.

 

نوصي للقراءة: قومية زائفة ووهم اقتصادي: مطالب ترحيل اللاجئين في مصر

انتهاكات عابرة للحدود

وينوّه خليل بأن الحكومة الإيطالية تتبع عدة وسائل لتسريع إجراءات الترحيل، منها ما يسمى بالمعالجة الخارجية في مراكز خارج إيطاليا، ومنها الإجراءات السريعة داخل الأراضي الإيطالية، التي لا تمنح الشخص الوقت الكافي لجمع الأدلة أو الحصول على مساعدة قانونية حقيقية، وهو ما يؤدي إلى رفض أغلب طلبات اللجوء من المصريين، حيث أن أقل من 5% فقط من الطلبات المقدمة خلال السنوات الثلاث الماضية تم قبولها.

ويلفت خليل إلى أن مصر أيضًا متورطة في هذا الملف، حيث تتعرض الغالبية العظمى من المرحلين لانتهاكات جسيمة عند عودتهم، تبدأ من اتهامهم بقضايا تهريب، حتى لو سبق لهم قضاء أحكام في أوروبا مرتبطة بنفس الاتهامات، فضلًا عن تعرضهم لظاهرة “التدوير”، أي الزج بهم في قضايا جديدة بنفس التهم، لضمان استمرار احتجازهم. موضحًا أن السلطات المصرية تستخدم الأرقام المرتفعة لحالات القبض على المهاجرين كمؤشر لترويج كفاءة أجهزتها الأمنية أمام الجهات الممولة، سواء الاتحاد الأوروبي أو غيره، رغم أن أغلب المقبوض عليهم ليسوا مهربين فعليين، بل مهاجرون تم إجبار بعضهم على قيادة القوارب مقابل إعفائهم من دفع تكاليف الرحلة.

ويضيف: “في إيطاليا مثلًا، هناك مصريون قضوا ست سنوات في السجون بتهم التهريب، وبعد انتهاء محكوميتهم تم احتجازهم في مراكز الترحيل سيئة السمعة مثل “سي بي آر”، وتم الضغط عليهم لتوقيع أوراق عودة طوعية رغم عدم رغبتهم في ذلك، ليجدوا أنفسهم بعد الترحيل متهمين مجددًا بنفس القضايا في مصر، ويتم تدويرهم في قضايا مختلفة بنفس التهم.”

ويشير إلى أن هناك مصريين حصلوا على أحكام بالسجن وصلت إلى آلاف السنين، في محاكمات وصفها بأنها تفتقر لأدنى معايير العدالة، حيث يتم استهداف المصريين على متن القوارب بشكل عنصري، والتحقيق معهم لمجرد جنسيتهم، وسط غياب الترجمة أو الدفاع القانوني الفعال، مؤكدًا أن بعض المحاكمات في اليونان مثلًا لا تتجاوز مدتها 35 دقيقة، تنتهي بأحكام قاسية قد تصل إلى السجن 2000 أو حتى 4000 سنة.

ويتابع: “الاتفاقيات الأوروبية التي يتم ترويجها مع مصر، خاصة المتعلقة بجعلها دولة “هاب”، أي مركز لإعادة المهاجرين غير النظاميين سواء المصريين أو من جنسيات أخرى، تعيد إلى الأذهان النموذج الألباني الذي تطبقه إيطاليا، وهو ما يكرس لانتهاكات واسعة بحق هؤلاء الأشخاص”. لافتًا إلى أن مصر، وفق تقارير الأمم المتحدة، تشهد انتهاكات ممنهجة في مراكز الاحتجاز وأقسام الشرطة، تشمل التعذيب والمعاملة القاسية، ما يجعل ترحيل أي شخص إليها من دول أوروبية مخالفة صريحة للقوانين الدولية، خاصة الاتفاقية الأوروبية لمنع التعذيب.

تشير وثائق الاتحاد الأوروبي إلى المصريين من بين أبرز الجنسيات غير الأوروبية المتورطة في شبكات الاتجار بالبشر، وهو ما فتح الباب لتحقيقات واتهامات وعمليات احتجاز واسعة، خاصة في دول مثل إيطاليا واليونان. إلا أن منظمات حقوقية تؤكد أن هذه الملاحقات غالبًا ما تتسم بالطابع الكيدي وتفتقر للأدلة، كما تجلى في قضية “بيلوس 9″، حيث تم سجن تسعة مصريين في اليونان رغم امتلاك السلطات اليونانية أدلة على براءتهم.

وفيما يتعلق بإعادات البحر، يقول خليل إن بيانات الجيش المصري تؤكد لأول مرة تنفيذ عمليات إعادة قسرية من البحر المتوسط، خاصة للمصريين، الذين يتم اتهامهم فور إعادتهم بقضايا تهريب، حتى وإن تعرضوا للغرق أو الإصابات. كما يكشف عن حالات اختفاء قسري لمهاجرين غير مصريين، بينهم سوريون وباكستانيون، أُعيدوا إلى مصر ولم تتوفر أي معلومات عن مصيرهم حتى الآن. ويؤكد: “ما يحدث هو جريمة متكاملة الأركان، تبدأ من البحر ولا تنتهي بالترحيل، بل تتواصل بانتهاكات واسعة في دول الوصول، وعلى رأسها مصر، وكل ما نملكه الآن هو فضح هذه السياسات وكشف تفاصيلها للرأي العام”.

 

إشكالية الدول الآمنة

من جهته يقول كريم عنارة، – مدير البحوث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية-، إن قوائم الدول الآمنة سياسة إشكالية وفي جوهرها تمثل انتهاك لاتفاقية اللاجئين لأنها تفترض بشكل غير دقيق أن بلدًا بأكلمه خال من المخاطر في حين أن القوانين الدولية والوطنية التي تنظم عملية اللجوء تنبني على مفهوم أن طلب الاستظلال لحماية بلد آخر ومفهوم الخوف من التعرض للاضطهاد هو مفهوم فردي بالأساس ولا يرتبط بالضرورة (أو في كل الحالات) بوجود حروب أهلية وصراعات موسعة، بل أن هذا التوسع الأخير على تعريف اللاجئ ليشمل الهاربين من الصراعات والحروب هو توسع أفريقي أو جنوبي بالأساس أدخلته اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية (التي تحكم الجوانب المحددة لمشاكل اللاجئين في إفريقيا) عام 1969.  

ويضيف في حديثه معنا: “نظريًا يفترض أن تصنيف دول معينة كدول آمنة لا يعني بالضرورة أن أي طلبات لجوء من تلك الدول سيتم رفضها تلقائيا, فقط  أنها ستخضع لعمليات فحص أسرع لأنها أغلب الطلبات المقدمة من مواطني تلك الدول لن تمر أو هكذا يدعي صانع السياسات الأوروبي. وعملية الفحص المسرعة في هذه الحالة تخفف العبء الواقع على منظومة اللجوء على حد قولهم. ولكن عمليًا يخلق هذا التصنيف انحيازًا مسبقًا لدى موظفي الهجرة واللجوء والمحاكمة في أوروبا ويؤثر سلبًا على نزاهة البت في طلبات الحماية، حيث يفترض ضمنيًا أن القادمين من هذه الدول لا يحتاجون للحماية. ولكن قانون اللجوء الدولي والقوانين الوطنية في الاتحاد الأوروبي تنص صراحة على أن استحقاق الحماية من عدمه يجب أن يتم بناء على تقييم فردي لكل حالة ولا يمكن إعادة أي طالب لجوء إلى بلده إلى بعد استنفاذ جميع السبل القانونية. إن محاولة خلق آلية “للتخلص” بشكل سريع جزئيًا من هذا العبء القانوني هو انتهاك واضح للقوانين الدولية وقوانين تلك الدول الوطنية ودساتيرها. “

ويقول عنارة: “لا يمكن فهم هذه التغيرات التي طرأت على منظومة الحماية الدولية التي ترتكز منذ منتصف القرن العشرين على اتفاقية جنيف لعام 1951 لحماية اللاجئين إلا في ضوء تصاعد السياسات المعادية للهجرة والمهاجرين في أوروبا خاصة مع صعود اليمين المتطرف والذي يرى في المهاجرين واللاجئين مرمى سهل لتسجيل الأهداف السياسية, الحكومات الأوروبية وبشكل خاص تلك التي تنتمي إلى اليمين الصاعد مثل حكومة ميلوني تلجأ لكل الوسائل والألاعيب القانونية لتقليل أعداد اللاجئين في تلك الدول. مشددًا على أن السياسات الأوروبية المستحدثة تسعى لتصدير أزمة اللاجئين إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي. وهو ما وصفه بمحاولة “التخلص من الأعباء على حساب دول مثل مصر وتركيا والأردن، التي تتحمل بالفعل أضعاف ما تتحمله الدول الأوروبية من أعداد اللاجئين. جزء من تلك السياسة هو إغراء دول الجوار مثل ألبانيا وتركيا بالمال والاتفاقيات الثنائية مقابل استيعاب اللاجئين ولو بشكل مؤقت إلى حين البت في طلباتهم وهو ما يؤدي لمزيد من التجاوزات بحق مواطني تلك الدول”.

ويشير الباحث إلى أن الاتفاقية الإيطالية الألبانية لا تزال محل نظر أمام المحكمة الدستورية الإيطالية، وهناك احتمال أن تُلغى إذا قررت المحكمة أنها مخالفة للدستور الإيطالي والتزامات البلاد الدولية، لافتًا أيضًا إلى إمكانية الطعن عليها أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

 

نوصي للقراءة: تقليص دعم المفوضية يهدد حياة اللاجئين في مصر


موجات هجرة عالية

تعكس الأرقام الصادرة عن منظمات دولية وأوروبية، تصاعد مستمر في أعداد المهاجرين غير النظاميين القادمين من مصر، ما يتناقض مع التصريحات الرسمية التي تؤكد نجاح الجهود الحكومية في القضاء على الأزمة، ففي عام 2022، وصل عدد المصريين الذين عبروا البحر المتوسط إلى أوروبا بطريقة غير قانونية إلى أكثر من 21,700 مهاجر، ما وضع مصر ضمن قائمة الدول العشر الأعلى في تصدير المهاجرين غير النظاميين، وفقًا لوكالة فرونتكس الأوروبية والبيانات الصادرة عن وزارة الداخلية الإيطالية.

وفي المقابل تقول الحكومة المصرية إنها قضت على الظاهرة، وفي أبريل الماضي، أكد وزير الخارجية والهجرة، الدكتور بدر عبد العاطي، أن البلاد نجحت في وضع حد لظاهرة الهجرة غير الشرعية من سواحلها، مشيرًا إلى أن الدولة لم تكتفِ بذلك، بل فتحت أبوابها لاستقبال الفارين من الأزمات والحروب بحثًا عن الأمان. وفي تصريح مشترك خلال جولة الحوار مع المفوضية الأوروبية لوزيرة التخطيط رانيا المشاط، نوهت الحكومة أن مصر نجحت في وقف انطلاق أي قوارب للهجرة غير الشرعية من سواحلها منذ ما يقرب من ثماني سنوات، مع مواصلة تنفيذ برامج لتوعية الشباب وتعزيز “الهجرة الآمنة”.

تؤكد تقارير أن الأراضي الليبية المسار المفضل للمهاجرين المصريين الساعين للوصول إلى أوروبا، خصوصًا نحو السواحل الإيطالية، ففي النصف الأول من عام 2022 وحده، سُجلت نحو 3,935 حالة وصول لمصريين إلى إيطاليا، معظمها عن طريق الهجرة غير الشرعية من السواحل الليبية، وأفادت فرونتكس أن أكثر من 90% من محاولات العبور غير القانوني للمصريين خلال تلك الفترة تمت عبر “المسار المركزي للمتوسط”، ما يكشف عن وجود شبكات تهريب منظمة تنشط على الحدود الغربية لمصر.

بحلول عام 2023، لم تتراجع وتيرة الهجرة غير الشرعية من مصر، بل تزايدت، إذ أشارت التقديرات إلى أن نحو 22 ألف مهاجر مصري دخلوا أوروبا بطرق غير قانونية خلال العام، ما جعل مصر في صدارة الدول المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين، متقدمة على دول تشهد حروبًا مثل سوريا وأفغانستان. أما في عام 2024، فقد جاءت مصر في المرتبة الثانية عالميًا من حيث عدد المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، بالرغم من الإجراءات الأمنية المكثفة والقوانين الرادعة التي تبنتها الدولة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، مثل قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية الصادر عام 2020.

ورأى الدكتور كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد السياسي، أن الهجرة غير النظامية باتت ظاهرة واسعة الانتشار في القارة الإفريقية، ولا تقتصر أسبابها على العوامل الاقتصادية فحسب، بل تتداخل معها أزمات أخرى مثل الحروب والنزاعات السياسية والاضطهاد بأنواعه المختلفة، ما يدفع الآلاف للمغامرة بحياتهم عبر طرق هجرة غير قانونية بحثًا عن واقع أفضل.

وفي حديثه سابق إلى موقع “زاوية ثالثة”، أوضح العمدة أن الوضع الاقتصادي في مصر لا يبشّر بحلول قريبة تُخفف من معاناة الشباب، مشيرًا إلى أن ضيق الفرص، وارتفاع تكاليف المعيشة، يدفع كثيرين للتفكير في الهجرة كخيار قائم، حتى وإن كان محفوفًا بالمخاطر. وأظهرت دراسات دولية أن المصريين يمثلون نسبة مؤثرة من المهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط، لا سيما عبر السواحل الليبية، وهو ما يؤكد استمرار الدوافع الاقتصادية والاجتماعية في تغذية تلك الظاهرة.

وأضاف العمدة أن الحلول الأمنية، رغم ضرورتها، لا يمكن أن تكون كافية وحدها. إذ إن السلطات قد تحقق تقدمًا مؤقتًا حين تلاحق شبكات التهريب وتقدم المتورطين إلى العدالة، لكن تلك الإنجازات تظل محدودة الأثر إذا لم تُعالج الأسباب الحقيقية للهجرة، لتعود الظاهرة للواجهة مع أي تراجع في الجهود الأمنية. مؤكدًا غياب التنمية الشاملة، وانعدام الأفق المستقبلي أمام الشباب، إلى جانب هشاشة الحماية القانونية، كلها عوامل تستمر في تغذية ظاهرة الهجرة غير النظامية. ويرى أن مواجهة تلك الظاهرة تستلزم رؤية متكاملة تعالج جذور الأزمات، بدل الاكتفاء بالمعالجات الأمنية المؤقتة التي ثبت عدم قدرتها على القضاء عليها بشكل جذري.

تشكل العلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبي محورًا رئيسيًا في إدارة مسألة الهجرة غير النظامية عبر البحر المتوسط، في 17 مارس 2024، أعلن الاتحاد الأوروبي عن اتفاق مع مصر يتضمن تقديم حزمة مساعدات مالية كبيرة تبلغ قيمتها 7.4 مليار يورو. وتُعد هذه الحزمة جزءًا من استراتيجية أوروبية أوسع تهدف إلى تعزيز التعاون مع دول جنوب المتوسط في ملفات الهجرة واللجوء، بالتوازي مع دعم الاستقرار الأمني والاقتصادي في المنطقة. وجاءت هذه الاتفاقية تتويجًا لسلسلة من اتفاقيات الشراكة الخارجية التي سارعت المفوضية الأوروبية إلى توقيعها منذ أواخر عام 2023 وحتى مارس 2024، وتركز معظمها على دول البحر الأبيض المتوسط، وعلى رأسها مصر، باعتبارها نقطة عبور رئيسية في مسارات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا.

في السياق نفسه، قدم الاتحاد الأوروبي لمصر خلال عام 2024 مساعدات إنسانية إضافية بقيمة 9 ملايين يورو موجهة للاجئين وطالبي اللجوء على أراضيها، إلى جانب تخصيص 20 مليون يورو أخرى لدعم استقبال النازحين الفارين من الحرب الدائرة في السودان، خاصة في ظل تداعيات هذه الحرب على تزايد حركة الهجرة غير النظامية عبر مصر نحو السواحل الأوروبية.

من جهة أخرى، شملت المساعدات الأوروبية برامج ومشاريع تهدف إلى تعزيز قدرات حرس الحدود المصري، وفي نوفمبر 2024، حصلت القوات المسلحة المصرية على 20 مليون يورو إضافية ضمن إطار ما يُعرف بـ”مرفق السلام الأوروبي”، وهو صندوق أوروبي يُخصص لدعم عمليات أمنية وعسكرية في دول الجوار. ووفقًا لوثائق الاتحاد الأوروبي، تهدف هذه الأموال إلى تعزيز قدرات الجيش المصري في حماية الأمن القومي وتحقيق الاستقرار الداخلي، مع التركيز على تحسين حماية المدنيين في البلاد.

تشير وثائق الاتحاد الأوروبي أيضًا إلى أن الغاية الأساسية من هذه الشراكات مع مصر ودول شمال أفريقيا الأخرى، هي تعزيز أمن الحدود من خلال التعاون عبر الحدود، خاصة في مواجهة جماعات الجريمة المنظمة، بما في ذلك شبكات تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر. كما يحدد الجانب الأوروبي أن الهدف المرحلي المباشر هو إقامة تعاون عملياتي فعال بين سلطات إدارة الحدود في الدول المعنية.

ومع ذلك، تشير تقارير حقوقية وانتقادات واسعة إلى أن الاتفاقيات السابقة التي أبرمها الاتحاد الأوروبي مع مصر ودول أخرى في المنطقة، تحت مسميات مثل “مكافحة التهريب” أو “حوكمة الهجرة ومراقبة الحدود”، لم تُسهم فعليًا في الحد من الهجرة غير النظامية. بل على العكس، يرى مراقبون أن هذه السياسات تُعمق أسباب الهجرة، وتزيد من مخاطرها، وتؤدي إلى ترسيخ سلطات الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، دون معالجة جوهرية للأسباب السياسية والاقتصادية التي تدفع الناس إلى الهروب من بلدانهم.

وأخيرًا.. تعكس السياسات الأوروبية الأخيرة، خاصة الاتفاق بين إيطاليا وألبانيا، اتجاها متسارعًا نحو عسكرة ملف الهجرة والتعامل معه بمعزل عن البُعد الإنساني والقانوني، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من التجاوزات العابرة للحدود، تبدأ من مراكز الاحتجاز القاسية، وتمر بعمليات الترحيل السرية، ولا تنتهي عند التضييق على حقوق طالبي اللجوء في أوروبا أو معاقبتهم عند عودتهم لبلدانهم، كما في حالة مصر. وبينما تستمر أوروبا في تصنيف دول مثل مصر كـ”دول آمنة” لتبرير الترحيل، تكشف الوقائع اليومية عن انتهاكات ممنهجة تُمارس بحق المرحّلين، وسط غياب أي معالجة حقيقية لأسباب الهجرة، مثل الفقر، البطالة، غياب التنمية، وتدهور الأوضاع الحقوقية. وفي ظل هذا المشهد، تبقى آفاق الهروب عبر البحر قائمة، ويظل المهاجرون ضحايا لسياسات متناقضة تُغذي الأزمة بدل احتوائها.

 

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search