تعاني المؤسسات الصحفية القومية في مصر من شيخوخة مهنية وتراجع حاد خلال العقدين الأخيرين، ما يهدد مستقبلها المهني ووضعها المؤسسي. هذا التراجع لم يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل تشمل تحديات مهنية وإدارية وتشريعية تُهدد بفقدان مصر لجزء أصيل من قوتها الناعمة وإرثها الثقافي والحضاري.
إلى جانب ذلك، توقفت هذه المؤسسات عن التعيين وتجديد الكوادر الصحفية منذ أكثر من عشر سنوات، ما أدى إلى تفاقم أزمة شيخوخة الطاقات وعدم تجديد الدماء داخلها، الأمر الذي أفقدها القدرة على الابتكار والتجديد في المحتوى، وكذلك على مواكبة التطورات التقنية والتغيرات في سوق الإعلام.
ويرى خبراء أن هذه التحديات تأتي في ظل ظروف أشد تعقيدًا، تشمل تقليص الدعم الحكومي، وتراجع مبيعات الإعلانات، إضافة إلى القيود الإدارية والرقابية التي تحد من حرية العمل الصحفي وتؤثر على الاستقلالية التحريرية. كل هذه العوامل مجتمعة تؤثر بشكل كبير وسلبي على واقع الصحف القومية في مصر
بدأت الصحافة الورقية في مصر منذ أواخر القرن الثامن عشر، مع صدور أول صحيفة مصرية رسمية في عهد محمد علي باشا في 1828، والتي عرفت بـ«جورنال الخديوي»، إذ كانت الوسيلة لنقل التفاصيل والتطورات على مستوى الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري. فيما شهد عام 1828، صدور العدد الأول من صحيفة «الوقائع المصرية» كانت تجمع بين الحوادث الرسمية و المسائل المالية والعلمية، وكان عدد النسخ المطبوعة منها لا يتجاوز 600 نسخة، توزّع على العلماء وتلاميذ المدارس العليا وكبار الموظفين المدنيين والعسكريين، ولم تكن مخصصة للبيع أم الاشتراك.
ومنذ ذلك التاريخ توالت ظهور عدد من الصحف الورقية سواء الحكومية أو الخاصة التي بدأت ظهورها في عهد الخديوي إسماعيل. بالإضافة إلى الصحف والمجلات التي ولدت أيضًا من رحم ثورة 1919، من بينها «روز اليوسف» لصاحبتها فاطمة اليوسف، كما ظهرت جريدة «الأخبار» لعلي ومصطفى أمين، ومجلة «المصور»، ومجلة «الكواكب»، ومجلة «آخر ساعة»، ومجلة «صباح الخير»، ومجلة «شجرة الدر»، التي ما زالت إصداراتها مستمرة حتى الآن.
وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، أصدر مجلس قيادة الثورة مجلة «التحرير» التي كان يرأسها أحمد حمروش في 16 سبتمبر 1952م، وأصدر أيضًا جريدة «الجمهورية» التي رأسها محمد أنور السادات، وجريدة «المساء» التي رأسها خالد محيي الدين.
استمرت جرائد «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية»، ومجلات «روز اليوسف» و«صباح الخير» و«المصور» و«الجيل» و«الكواكب» و«حواء» و«آخر ساعة» في الصدور حتى الآن، ممَّا مكن الدولة من اختيار رؤساء مجالس إداراتها ومحرريها.
في عام 1980، صدر القانون رقم 148 الذي حدَّد ثلاثة أشكال من الصحف، وهي «الصحف القومية»، و«الحزبية»، و«الخاصة»،
تظهر البيانات، أن أعداد الصحف الورقية عام 2010 بلغ 142 صحيفة، وانخفضت إلى 81 صحيفة بعد اندلاع ثورة يناير 2011، إلى أن وصلت 61 صحيفة عام 2021 خلال 11 عامًا، بنسبة انخفاض بلغت 57%، وذلك طبقًا للنشرة التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بشكل سنوي.
نوصي للقراءة: هل تنصف نقابة الصحفيين المصرية العاملين بالصحافة الإلكترونية؟

توزيع متراجع وأزمات مالية
تبلغ عدد المؤسسات الصحفية القومية في مصر 8 مؤسسات رئيسية، وهي(مؤسسة الأهرام، مؤسسة أخبار اليوم، مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر، مؤسسة دار الهلال، مؤسسة روزاليوسف، مؤسسة دار المعارف، مؤسسة الشركة القومية للتوزيع، مؤسسة وكالة أنباء الشرق الأوسط). وتخضع هذه المؤسسات لرقابة وإشراف الهيئة الوطنية للصحافة، وفقًا للدستور المصري وقانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018.
وخلال العقد الماضي، شهدت الصحف القومية المصرية تدهورًا ماليًا متسارعًا، إذ تجاوزت ديون تلك المؤسسات بالفوائد حاجز 9 مليار جنيه، وإن أصل الدين 3 مليار جنيه، وفقا لتصريحات عبد الصادق الشوربجي رئيس الهيئة الوطنية للصحافة. في المقابل تصل المطالب المالية الشهرية إلى 250 مليون جنيه، في وقت شهدت فيه أرقام التوزيع والإعلانات تراجعًا ملحوظًا.
وفي عام 2019، قررت الحكومة المصرية تخفيض الدعم المالي للمؤسسات القومية إلى الثلث، مع خطة لتوقيفه نهائيًا خلال سنوات قليلة. في المقابل عملت الحكومة المصرية على دمج بعض الإصدارات بهدف خفض النفقات.لاففي عام 2021 أصدرت الهيئة الوطنية للصحافة قرارًا بوقف جميع الإصدارات المسائية للصحف القومية الثلاث “الأهرام المسائي – الأخبار المسائي – المساء”، ولاحقًا تم الإعلان عن دمج إصدارات” «حواء والكواكب وطبيبك الخاص» التي تصدر عن مؤسسة دار الهلال في إصدار واحد، وهو حواء.
وفي أبريل 2024، قررت الهيئة الوطنية للصحافة تحويل مجلة نصف الدنيا من إصدار أسبوعي إلى إصدار شهري، ودمجها مع مجلة البيت، ما أثار حالة واسعة من الغضب والاستياء بين العاملين في المؤسسات الصحافية، الذين اعتبروا القرار امتدادًا لنهج استسهال إغلاق أو دمج الإصدارات الورقية بدعوى تقليل الخسائر، دون التفكير الجاد في سُبل تطويرها وإنقاذها.
في هذا يرى الكاتب الصحفي هشام فؤاد إن دور المؤسسات الصحفية القومية قد انتهى فعليًا، ويتم التخلص منها تدريجيًا، قطعةً تلو الأخرى، في ظل غياب رؤية حقيقية للإصلاح، وسيادة منطق “التصفية”.
ويوضح فؤاد في حديثه لزاوية ثالثة أن السلطات المصرية منذ يوليو 2013، لم يكن مطمئنًا بدرجة كافية لتلك المؤسسات، رغم تاريخها الطويل، وسعى بدلًا من إصلاحها إلى إنشاء إعلام جديد تابع له وخاضع لاشرافه المباشر، وهو ما تمثل في ظهور كيان إعلامي ضخم مثل الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التي استحوذت على أغلب المنصات التلفزيونية والإعلامية الكبرى.
ويضيف أن الدولة رفعت يدها عن المؤسسات القومية، وتعاملت معها كما يتم التعامل مع الشركات الخاسرة التي يُجرى تصفيتها، بدءًا من وقف التعيينات منذ عام 2014، مرورًا بعمليات دمج الإصدارات وتحويلها إلى نسخ إلكترونية، وصولًا إلى بيع الأصول والمقرات تدريجيًا، دون أي خطة واضحة للإنقاذ أو التطوير.
ويرى فؤاد أن تلك الإجراءات تزامنت مع إصدار قوانين صحافة جديدة، قلّصت من تمثيل الصحفيين المنتخبين في مجالس الإدارات والمؤسسات، لصالح عناصر مُعينة تخضع في أغلبها لتوجهات السلطة التنفيذية.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن “إصلاح المؤسسات القومية في جوهره قرار سياسي بالأساس، لا يمكن عزله عن إطلاق الحريات الصحفية وحرية التعبير، بما يسمح بخلق بيئة تنافسية حقيقية تستعيد دور هذه المؤسسات وتُحسّن أوضاع الصحفيين العاملين بها”.
نوصي للقراءة: نقابة الصحفيين في مواجهة التشريعات المقيدة للحريات

وقف التعيينات في المؤسسات القومية
أوقفت الحكومة المصرية التعيينات داخل المؤسسات القومية منذ عدة سنوات، في إطار سياسات تقشفية وضوابط حكومية مشددة على التوظيف في القطاع العام، وهو ما أدى إلى تجميد هياكل المؤسسات، وغياب التجديد المهني.
في هذا السياق، تصاعدت مطالبات المئات من الصحفيين والصحفيات العاملين بعقود مؤقتة داخل المؤسسات القومية، بضرورة تثبيتهم وتعيينهم، بعد أن تجاوزت مدد عملهم حاجز العشر سنوات في بعض الحالات، دون أي ضمانات وظيفية أو حقوق تأمينية مستقرة.
وفي لقاء لهم مع نقيب الصحفيين في 12 يوليو، طالب المؤقتون، المهندس عبد الصادق الشوربجي، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، بسرعة إعلان موعد توقيع العقود، واستكمال الإجراءات المطلوبة سريعا، استكمالا لجهوده الكبيرة في هذا الملف، خلال الأشهر الماضية، خاصة بعد أن توقفت أي خطوات رسمية عقب إجراء المؤقتين للمقابلات الشخصية في شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين.
وذلك بعد أن قرر مؤقتو الصحف القومية تعليق الفعاليات التي كان مقرر تنظيمها، خلال الأيام القادمة، مؤقتا، لإعطاء الوقت اللازم للمسؤولين عن ملف تعيينهم، من أجل إنهاء الإجراءات المطلوبة، لتوقيع العقود واستكمال الخطوات اللازمة، وذلك بعد تدخل الكاتب الصحفي خالد البلشي، نقيب الصحفيين، وتأكيده أن الإجراءات تسير بشكل جيد، وأنه يجب إعطاء المسئولين الوقت اللازم، لحسم الملف.
من جهتها، تدعو إيمان عوف، عضو مجلس نقابة الصحفيين، إلى ضرورة إحداث تحول جذري في المؤسسات الصحفية القومية، مؤكدة أنها تعاني من “تكلس” يحول دون مواكبتها للتطورات المتسارعة، خاصة على الصعيد التكنولوجي. وتشير عوف، في حديتها لزاوية ثالثة، إلى أن هذه المؤسسات بحاجة ماسة لضخ دماء جديدة وفتح الباب أمام الشباب، بالإضافة إلى رفع سقف الحرية الصحفية لتعود الصحافة القومية لسان حال الشعب.
وتشدد عوف على أن الخبرة المتراكمة لدى الجيل الأكبر من الصحفيين، على أهميتها، لم تعد كافية في ظل الثورة الرقمية. وتقول: “نحتاج للتخلص من حالة التكلس، وفتح الباب لمجموعات شابة تتعين داخل المؤسسات القومية، لتُعيد بث الروح والطاقة لها”. وتضيف أن التحدي الأكبر يكمن في استغلال الإمكانيات الضخمة للمؤسسات القومية – سواء مبانيها أو كوادرها – والتي لا تُجيد استخدام التكنولوجيا حتى الآن. وطالبت بـ”تحديد احتياجات واضح ومحدد” لتطوير المحتوى الصحفي ليصبح أكثر تطوراً وجاذبية.
وتؤكد عضوة مجلس نقابة الصحفيين أن الدور الأصيل للصحافة القومية هو التعبير عن الناس، كونها “ملك الشعب”. وتوضح أن هذا الدور تراجع بشكل كبير، لتتحول الصحافة القومية إلى مجرد “بيانات رسمية”، مما أدى إلى عزوف الجماهير عن شراء الصحف الورقية بسبب غياب المحتوى المتنوع والجاذب. وقالت: “حتى عندما يحاول الناس تطوير المحتوى، يتم رفضه، مما أدى إلى حالة من الكسل وعزوف الجماهير”.
وتنتقد عوف في انتقاد أسلوب الترقيات داخل الصحف القومية، مشيرة إلى أنه “يشوبه أحياناً البيروقراطية والحسابات السياسية والأمنية”وذلك على حساب الكوادر التي تملك قدر حقيقي من الكفاءة. وتدعو عوف إلى ضرورة وجود “قيادات شابة ولديها رؤية وقدرة على تطوير تلك المؤسسات”، بعيداً عن الترقي وفقاً “للرغبات السياسية”.
وتؤكد عوف على أهمية إدخال “أنواع الصحافة الجديدة والمختلفة سواء الاستقصائية او المعمقة أو صحافة البيانات وغيرها من أشكال الصحافة” داخل المؤسسات القومية، معتبرة أن ذلك يمكن أن “يُعيد الثقة مرة ثانية لمؤسسات القومية ويُعطيها طاقة إيجابية جديدة”.
وتضيف عضوة مجلس نقابة الصحفيين إيمان عوف، أنه على المستوى الإداري، هناك حاجة ماسة إلى إعادة هيكلة شاملة للمؤسسات الصحفية القومية، بما يضمن مزيدًا من المرونة والقدرة على التكيّف مع التحولات المتسارعة في مجال الإعلام.
وترى عوف أن التعاون مع كليات الإعلام يُعد خطوة ضرورية لتطوير المناهج والرؤى، بما يتماشى مع المتغيرات الحديثة في صناعة الصحافة، وهو ما يسهم في تأهيل كوادر جديدة قادرة على قيادة التغيير داخل المؤسسات القومية. كما تؤكد على أهمية عقد شراكات مع شركات تكنولوجيا متخصصة لإدخال أدوات ومنصات رقمية حديثة، تسهم في تحديث بيئة العمل، ودعم البنية التحتية لتلك المؤسسات.
وتتابع عوف: “على مستوى صناعة الصحافة الورقية، لا يمكن فصل أزمتها عن السياق الاقتصادي العام. فارتفاع تكلفة الورق والطباعة من جهة، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين من جهة أخرى، جعلا من الصعب على الجمهور الاستمرار في شراء الصحف اليومية، خاصة مع وصول أسعار بعض الإصدارات إلى مستويات غير مناسبة للغالبية”.
وتضيف: “في الوقت ذاته، أدى الانتشار الواسع للهواتف الذكية وسهولة الوصول إلى الإنترنت إلى تعزيز الحضور الرقمي للصحافة الإلكترونية، التي باتت أكثر جاذبية لفئات واسعة من الجمهور الباحث عن محتوى سريع ومجاني”.
يواجه الإعلام المطبوع عالميًا منافسة شرسة من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي وفرت مصدرًا أسرع وأرخص (ومجانيًا غالبًا) للحصول على الأخبار. وأظهر استطلاع محلي أن أقل من 2% من الجمهور الآن يحصلون على الأخبار عبر الصحف الورقية بانتظام، بينما يتجه 44% للمواقع الإلكترونية و50% يعتمدون على كلا المصدرين الرقمي والتقليدي معًا. هذا التحول الرقمي ترك الصحافة الورقية في مصر، خاصة القومية، دون قاعدة قراء شابة. يُضاف إلى ذلك تغير الثقافة العامة وعادات القراءة، إذ أشارت تحليلات إلى افتقار جيل الشباب للميول القرائية في ظل تدهور مستوى التعليم وضعف اهتمام الأُسر بتنمية عادة مطالعة المطبوعات.
لكن إلى جانب هذه العوامل العامة، هناك أسباب خاصة بأزمة توزيع الصحف القومية. أبرزها كما ذُكر سابقًا ضعف محتوى هذه الصحف وعدم تلبيته لتطلعات الجمهور. فقد أكد موزعو الصحف أن المحتوى الصحفي الممل هو سبب رئيس في تراجع المبيعات؛ فالقارئ إن لم يجد ما يهمه على الصفحة الأولى فلن يشتري الجريدة. وقد أصبحت صفحات الجرائد القومية أقل جاذبية وإثارة لانتباه القارئ الشاب، مقارنةً بالمواقع الإخبارية السريعة أو حتى الصحف الخاصة التي تحاول التنويع في المواضيع والعناوين. لذلك فالمحتوى يأتي في مقدمة أسباب انصراف الجمهور، قبل حتى ارتفاع الأسعار.
ورغم تأكيدها على أهمية الصحافة الورقية باعتبارها أرشيفًا وذاكرة جماعية، تشدد عوف على أن الأولوية اليوم ينبغي أن تكون لوضع خطة واضحة للتحول الرقمي. وتشير إلى أن تجارب العديد من دول العالم أثبتت أن الاتجاه نحو الصحافة الإلكترونية لم يعد خيارًا، بل ضرورة فرضتها التطورات التقنية والضغوط الاقتصادية.
وتختم عوف حديثها بالتأكيد على أن المؤسسات القومية مطالبة بإعادة النظر في سياساتها التحريرية والتقنية، ووضع التحول الرقمي في صميم استراتيجياتها المستقبلية، باعتباره مسارًا حتميًا لضمان البقاء والتأثير والاستدامة في بيئة إعلامية تتغير بوتيرة غير مسبوقة.
نوصي للقراءة: خالد البلشي يتحدث لـ«زاوية ثالثة»: لن نقبل بقوانين تقيد حرية الصحفي في الشارع

غياب التعيينات والعمل غير اللائق ينذر بالخصخصة
من جهتها تحذر الكاتبة الصحفية منى عزت، من أن المؤسسات الصحفية القومية تمر حاليًا بعدة أزمات تهدد بقاءها ودورها التاريخي، مشيرة إلى أن استمرار الوضع الراهن ينذر بسيناريو الخصخصة الذي قد يُفقد مصر جزءاً هاماً من قوتها الناعمة وإرثها الثقافي.
وتؤكد عزت في حديثها لزاوية ثالثة أن المشهد الأكثر إثارة للقلق هو “وقف التعيينات” الذي استمر لمدة 15 عاماً، مما يعني حرمان جيلين كاملين من الصحفيين الشباب من فرصة العمل المستقر داخل هذه المؤسسات العريقة. وأوضحت أن هذا الوضع أدى إلى الاعتماد على “عمالة مؤقتة” تحمل عبء المؤسسة دون أن تحظى بـ”أجور ثابتة ومستقرة، أو عقود عمل لائقة” تُحدد علاقتهم بالمؤسسة وتضمن لهم أجوراً عادلة تُواكب ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة. وتعتبر أن هذه الممارسات “غير لائقة في معايير العمل اللائق”، وتتنافى مع المعايير الدولية والقانون.
وتصف منى عزت حالة المؤسسات الصحفية القومية بأنها “في حالة تكلس لسنوات طويلة”، فلم تشهد أي “تطوير على المستوى المهني”، بل شهدت “تضييقاً في مساحات الكتابة” و”انخفاضاً في معدلات التوزيع”. وتشير إلى أن هذه المؤسسات، التي كانت تلعب “دوراً مهماً ومؤثراً في الصحافة”، تعيش الآن “حالة تراجع على المستوى المهني وعلاقات العمل”.
وتعرب عزت عن قلقها البالغ من استمرار هذا المشهد، الذي يُشبه -برأيها – ما حدث ولازال في المصانع وسياسات الخصخصة، حيث يتم “تسريح العمالة وممارسات طاردة” تمهيداً للخصخصة. وخشيت عزت أن “يكون السيناريو في طريقه للتكرار مرة أخرى في الصحف القومية”، وأن تتعرض لـ”سياسات الخصخصة بشكل مفاجئ دون حوار مجتمعي” مع الصحفيين والنقابة والمؤسسات المعنية.
وتلفت عزت الانتباه إلى أن المؤسسات القومية كانت تمتلك في السابق “مراسلين ومكاتب في كل دول العالم”، وكانت جزءاً لا يتجزأ من “التأثير والقوى الناعمة المصرية” التي تُحافظ على “ريادتنا في مجال العمل الصحفي”. وتؤكد أن “فكرة الصحافة المصرية وتأثيرها وانتشارها في كل دول العالم ومراسليها” كانت جزءاً هاماً من “الصورة الذهنية للبلد”، وأن فقدان هذا التواجد يعني “جزءاً بتفقده مصر من المحافظة على صورتها الثقافية”.
وتختتم الكاتبة الصحفية حديثها بالتأكيد على أن هذه المؤسسات كانت بمثابة “مدارس” ساهمت في تطوير المهنة، وأن فقدان هذا الإرث والتاريخ يُسبب قلقاً جماعياً، خشية من قرارات مفاجئة قد “تهدم كل هذه الأبعاد وتخصم من رصيد مصر الثقافي والحضاري”.
نوصي للقراءة: خنق الصحافة المستقلة: كيف تُحرَم المنصات من التراخيص في مصر؟

الأزمة التحريرية: غياب التنوع وتآكل الاستقلالية
لا تقتصر أزمة الصحافة القومية في مصر على جوانبها المالية والإدارية، بل تمتد إلى جوهر الممارسة الصحفية نفسها. إذ تعاني هذه المؤسسات منذ سنوات من تآكل المساحة التحريرية واستمرار الهيمنة الرسمية على المحتوى، بما يحوّلها في نظر الجمهور إلى ناطق رسمي باسم السلطة، لا منصة مستقلة تنقل الواقع أو تعبّر عن الجمهور.
وقد تراجعت مساحات النقد والمعارضة بشكل ملحوظ بعد عام 2013، حيث أعيد رسم الخطوط الحمراء بشكل صارم، وتلاشت تدريجيًا أصوات التنوع. حتى التوازن الشكلي الذي كان قائمًا في بعض المراحل السابقة، حين كانت بعض الصحف القومية تنشر مقالات نقدية محدودة، بات غائبًا تمامًا.
هذا التراجع في الاستقلالية التحريرية انعكس على المحتوى نفسه؛ فالتقارير غالبًا ما تخلو من المعلومات الأساسية، وتُعيد إنتاج الصياغات الرسمية نفسها بين مختلف الصحف، بل وحتى في نشرات التلفزيون الرسمي، ما خلق انطباعًا عامًا لدى الجمهور بالرتابة والتكرار وغياب الحيوية المهنية.
كما أدى ضعف الحريات التحريرية إلى إهمال الصحافة الاستقصائية والتحقيقية، إذ نادرًا ما تنشر الصحف القومية تحقيقات تكشف الفساد أو التقصير المؤسسي، ما أدى إلى فراغ رقابي واسع كانت تملؤه جزئيًا بعض المنصات المستقلة قبل التضييق عليها.
وترتّب على هذه الأزمة التحريرية فقدان متصاعد في ثقة الجمهور، وانخفاض في معدلات القراءة، وعزوف الصحفيين الجدد عن العمل في هذه المؤسسات، في ظل غياب بيئة تحريرية تسمح لهم بالتعبير أو التجديد.
على مدار قرنين، شكّلت الصحافة القومية في مصر جزءًا من العمود الفقري للثقافة العامة والدور التنويري، واحتفظت بموقع رمزي ومهني في الوعي الجمعي، رغم تعرّضها لتقلبات سياسية واقتصادية متكررة. غير أن أزمتها الحالية تتجاوز كونها تعثّرًا مرحليًا، لتبلغ مستوى أزمة وجود تهدد بفقدان مؤسسات بكاملها لوظيفتها الاجتماعية وثقلها المهني، وربما وجودها ذاته.
تراكب الأزمات المالية، وتدهور بيئة العمل، وغياب سياسات التعيين والتطوير، إلى جانب انسحاب الدولة التدريجي من مسؤولياتها، كل ذلك جعل المؤسسات القومية في موقع هشّ على خارطة الإعلام. أما الانكماش التحريري، فقد أفضى إلى عزوف الجمهور، وانهيار جاذبية المحتوى، وتآكل الثقة المهنية.
وفي المقابل، لا تزال هذه المؤسسات تحتفظ ببعض مقوّمات القوة: أرشيف تاريخي، وانتشار مؤسسي، وبقايا من رأس مال رمزي في المخيلة العامة. غير أن هذا الرصيد لا يُمكنه وحده ضمان البقاء، ما لم يترافق مع إرادة سياسية واضحة، وخطة إصلاح شاملة تدمج التحول الرقمي بالتحرير المهني، وتحترم حقوق الصحفيين وتحررهم، وتعيد تعريف وظيفة الإعلام العام بوصفه منصة خدمة عمومية لا أداة ترويجية.
الصحافة القومية اليوم على مفترق طرق حاسم: إما أن تُخضع لسيناريو التصفية التدريجية بصيغة خصخصة أو إهمال ممنهج، وإما أن تُمنح فرصة جديدة للانبعاث، بأدوات حديثة، وشروط تحريرية مختلفة، تحترم الحق في المعرفة وتخاطب جمهورًا جديدًا بلغته وقضاياه.