close

مياه عكرة وأرزاق تتراجع: كيف تُستنزف الثروة السمكية في بحيرة المنزلة؟

تواجه بحيرة المنزلة تدهورًا بيئيًا خطيرًا بسبب التلوث والتعديات والصيد الجائر، وسط تجاهل مؤسسي يهدد مستقبل آلاف الصيادين ويُقوّض واحدة من أهم مصادر الثروة السمكية في مصر
Picture of آية ياسر

آية ياسر

منذ نحو أربعين عامًا، يعمل السيد أصلان، ابن محافظة بورسعيد، في صيد الأسماك ببحيرة المنزلة، وهي حرفة ورثها عن والده وبدأها في سن التاسعة، حين كانا يركبان القارب الخشبي معًا ويلقيان الشباك لصيد الجمبري، والكابوريا، والدنيس، والقاروص، والغطيان (نوع من البوري) التي كانت تتوافد بكثرة إلى البحيرة في السابق. لكن الحال تغيّر بعد أن تلوثت البحيرة بمياه الصرف الصحي المتدفقة من مصرف بحر البقر، الذي يصب مياهه في البحيرة، ويحوّل لونها إلى الداكن ويقضي على الأسماك الوافدة إليها من بواغيز البحر الأبيض المتوسط. كما يتسبب الصرف الصناعي، القادم من مصنع “سيمار” للكيماويات الواقع في منطقة القابوطي جنوب بورسعيد، في دخول مياه سامة إلى البحيرة بفعل المد والجزر، مما يؤدي إلى نفوق الأسماك.

يتذكر أصلان أن وفرة الصيد كانت تسمح له في السابق بجمع كميات كبيرة من الأسماك، فكان يحتفظ بالكبيرة ويعيد الصغيرة إلى الماء. أما اليوم، فقد انقرضت الأسماك الكبيرة تقريبًا، ويجد صعوبة حتى في اصطياد الصغيرة منها. ويقول إنه كان يعود من رحلات الصيد محمّلًا بعشرين أو خمسٍ وعشرين “وقّة” (وحدة محلية تساوي كيلوغرامًا و250 غرامًا)، بينما بالكاد يحصل الآن على خمس أو ست وقّات من الأسماك الصغيرة، يتراوح سعر الواحدة منها بين 40 و70 جنيهًا مصريًا، وقد يصل السعر في بعض المواسم، حين يكون البلطي الأخضر محمّلًا بالبطارخ، إلى 100 أو 120 جنيهًا.

ويقول لزاوية ثالثة: “نعاني من التعديات على البحيرة، خصوصًا ما يتعلق بنبات ورد النيل، الذي نطلق عليه محليًا “البشنين”. يجمعه بعض الأشخاص ويطوقونه بالحبال قرب الشاطئ، لأنه يجذب الزريعة (صغار الأسماك). يتركونها تنمو تحت هذا الغطاء النباتي ويمنعون الآخرين من الصيد في تلك المناطق التي يعتبرونها ملكًا خاصًا، ما حرم الصيادين العاديين من الأسماك. كما أن مراكب الجر تستخدم شباكًا تسحبها لصيد أسماك البلطي الصغيرة جدًا، التي لا يتجاوز حجمها عقلة الإصبع، لبيعها كعلف لأسماك اللوت في المزارع. من المفترض أن تتدخل شرطة المسطحات المائية وهيئة الثروة السمكية، لكن لا توجد رقابة، وجهاز حماية البحيرات لا يؤدي دوره كما ينبغي”.

ويضيف: “تمتد بحيرة المنزلة عبر ثلاث محافظات (دمياط، الدقهلية، بورسعيد)، ومع ذلك، لن تجد رجل شرطة واحدًا يعترض المخالفين. بعضهم يستولي على خمسين فدانًا ويستخدم حفارات لجمع الطين من قاع البحيرة وبناء حواجز ترابية لتحويلها إلى مزارع خاصة. في حي الجميل ببورسعيد، يسيطر المتعدّون على معظم المسطح المائي باستخدام ورد النيل، والمستفيدون هم البلطجية وممارسو الصيد الجائر”.

ويشير إلى أن مياه مصرف بحر البقر تضغط على المياه المالحة، فتدفعها للعودة إلى البحر المتوسط، ما يحول دون دخول الأسماك البحرية مجددًا، ولا يجد الصيادون اليوم سوى سمك “الشبار” (البلطي الأخضر والأبيض) بأحجام صغيرة. ويطالب بإيجاد حل جذري لمشكلة مصرف بحر البقر، والأهم، بتوفير حماية فعالة للبحيرة تمنع المخالفات، وعلى رأسها الصيد بالكهرباء، الذي يُمارَس في وضح النهار.

أما أحمد الفقي، ابن مدينة المطرية بمحافظة الدقهلية، فقد امتهن الصيد منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بعد أن اضطر إلى ترك المدرسة كما فعل كثير من أبناء منطقته الذين تعتمد أسرهم على الصيد في بحيرة المنزلة. ويتذكر أنه عقب تطهير البحيرة، خاصة خلال عامي 2019 و2020، شهدت البحيرة تحسنًا غير مسبوق، وظهرت فيها أنواع من الأسماك غابت لسنوات، مثل الجمبري والقاروص والبوري والطوبار والكابوريا. ويقول إن الصيادين حينها استخدموا وسيلة تقليدية تُدعى “الأدمات”، وكان بإمكان الواحد منهم أن يصطاد ما بين 25 إلى 30 وقّة يوميًا.

لكن هذا التحسن لم يدم طويلًا، إذ عادت التعديات والصيد الجائر باستخدام الشباك الضيقة التي تجمع الزريعة، بالإضافة إلى انتشار ورد النيل الذي أغلق المجاري المائية. وأصبح أحمد لا يصطاد سوى 10 إلى 12 وقّة في اليوم، وقلّ رزقه كثيرًا، ولم يعد يجد أماكن مناسبة للصيد بسبب اتساع رقعة المزارع السمكية المستأجرة وفرض الإتاوات من قبل المتحكمين في مصائد ورد النيل.

ويقول لزاوية ثالثة: “بعد إزالة التعديات، أصبح المسطح المائي نظيفًا، وكان ينبغي الحفاظ عليه، لكن للأسف، عادت التعديات من جديد في المحافظات الثلاث، لا سيما في الدقهلية وبورسعيد. وانتشرت ظاهرة “التحويطات”، حيث يقيم أصحاب النفوذ حواجز من الخشب والشباك لتحديد مناطق صيد خاصة بهم، ويزرعونها بورق النيل، ويمنعون الصيادين الأحرار من الاقتراب منها”.

ويضيف: “كنا نُمنع كصيادين أحرار من دخول هذه المناطق، وإذا اشتكينا لشرطة المسطحات المائية، يُستدعى الطرف الآخر ويُجبر الطرفان على التصالح. لذلك، لم تكن الشكوى تجدي نفعًا. لقد تواصلت مع مسؤولين وأرسلت لهم صورًا وفيديوهات توثق التعديات، لكن الوضع ازداد سوءًا”.

بحيرة المنزل-Google maps

ويحمّل أحمد الفقي المسؤولية لجهاز حماية البحيرات وتنمية الثروة السمكية وشرطة المسطحات المائية، بسبب تركهم المتعدين وأصحاب النفوذ دون محاسبة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة. ويشير إلى أن النزاعات على مناطق الصيد تحولت إلى صراعات عنيفة، وصلت العام الماضي إلى ارتكاب جريمة قتل بين عائلتين. وعلى الرغم من توقيف الجناة ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية، إلا أن التعديات ما زالت مستمرة. ويدعو رئيس الجمهورية إلى التدخل لاتخاذ قرار حاسم يضع حدًا لتلك الانتهاكات التي تهدد مستقبل البحيرة والصيادين.

تقع بحيرة المنزلة في الجزء الشمالي الشرقي من دلتا نهر النيل، وتبلغ مساحتها نحو 404.69 كيلومترًا مربعًا، بمتوسط عمق يبلغ 1.15 متر. وتمتد لتشمل ثلاث محافظات هي بورسعيد، والدقهلية، ودمياط. وتشترك في حدودها الشرقية مع قناة السويس، ويحدها من الغرب فرع دمياط، ومن الشمال البحر الأبيض المتوسط. وتضم البحيرة مناطق ضحلة وأخرى واسعة السطح، وتُعد موطنًا مهمًا للطيور المهاجرة، كما تحتوي على أنواع متعددة من الأسماك، مثل البلطي، وأسماك العائلة البورية، والبياض، ومبروك الحشائش، والجمبري، والكابوريا.

ويُقدّر إنتاج بحيرة المنزلة من الأسماك بنحو 50 ألف طن سنويًا، لتساهم بنسبة تقارب 48% من إجمالي إنتاج البحيرات الطبيعية في مصر. إلا أنها تعاني منذ سنوات من تقلص مساحتها نتيجة التآكل، والتجريف، وتجفيف التربة، فضلًا عن تلوث المياه الناجم عن تصريف المياه العادمة، ومياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي. كما يؤدي نمو النباتات المائية، مثل ورد النيل والبوص، إلى إعاقة حركة المياه داخل البحيرة، ما يؤثر سلبًا على الثروة السمكية فيها.

في هذا السياق، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 21 مايو المنقضي، عن خطة لإعادة تأهيل بحيرة المنزلة بهدف زيادة إنتاجها السمكي، مؤكدًا أهمية الحفاظ على النظام البيئي للبحيرات. وأشار إلى احتمال فرض حظر موسمي على الصيد في بحيرات البردويل والمنزلة وناصر، لمنح البيئة البيولوجية فرصة للنمو، موجّهًا شرطة المسطحات المائية والجهات المختصة إلى الالتزام بتنفيذ قرارات منع الصيد في الفترات المحددة.

شواطئ بحيرة المنزلة- infonile

 

نوصي للقراءة: الحرارة المرتفعة: سلاح فتّاك يستهدف الاستزراع السمكي في مصر

الصيد الجائر يهدد البحيرة

من ناحيته، يرى السيد زكريا رجب، عضو اللجنة الاستشارية للثروة السمكية عن المصائد والبحيرات المصرية، وأحد صيادي بحيرة المنزلة في محافظة دمياط، أن الدولة أنفقت مليارات الجنيهات على تطهير وتطوير البحيرة دون الاستعانة بخبرات العلماء أو كبار الصيادين من أصحاب المهنة، ما أدى إلى استمرار انتشار نبات ورد النيل في مساحات واسعة من البحيرة. كما أن عملية التعميق تسببت في القضاء على عشرات من حرف الصيد اليدوي، وأزالت المرابي والمراعي الطبيعية للأسماك. ورغم أن معالجة مياه الصرف الصحي والزراعي حسّنت من جودة المياه، إلا أن البحيرة باتت تفتقر إلى الزريعة والنباتات المائية المغمورة التي تُعد الغذاء الأساسي للأسماك. ويؤكد أن البيئة الحالية للبحيرة تصلح لأنواع عديدة من الأسماك البحرية، لكن ليس لأسماك البلطي التي كانت تستوطنها، داعيًا إلى فتح الممرات لتمكين الزريعة من الانتشار في جميع مناطق البحيرة.

يقول لزاوية ثالثة: “عندما طهّروا البحيرة وعمّقوا أجزاء منها، لم يرجعوا إلى أصحاب الخبرة من شيوخ الصيادين، ولا إلى المتخصصين في كليات الزراعة، ما أدى إلى تدمير مرابي الأسماك الطبيعية. تضم البحيرة عدة أنواع من البلطي، منها البلطي الأخضر المعروف محليًا باسم ‘الزيلي’ أو بلطي الأوريا، والشبار الأبيض، والبلطي النيلي الذي نُسميه الشبار الأحمر، إضافة إلى ‘سمك عين سالم’ أو ‘البلطي الجليلي’. لكن التعميق أضر بمناطق تكاثر هذه الأنواع، فتراجع إنتاج البحيرة بنحو 90% مقارنةً بالماضي. وفي مايو الماضي، عقد عدد من نواب البرلمان لقاءً معنا لمناقشة مشكلات البحيرة، وشرحنا لهم تأثير زيادة ملوحة المياه على تكاثر الأسماك، وطرحنا إمكانية السماح بتدفق نسبة من مياه النيل إلى البحيرة”.

ويضيف: “ينتشر نبات ورد النيل بكثافة في الجزء الجنوبي من البحيرة بسبب عذوبة المياه هناك. واقترحنا معالجة المشكلة بإيصال مياه البحر إلى جميع أجزاء البحيرة. إذ إن طريق دمياط–بورسعيد يفصل المياه المالحة عن العذبة، وهناك خمس نقاط تمر من خلالها المياه عبر مواسير. طالبنا بتحويل هذه المواسير إلى جسور بعرض عشرة أمتار وعمق ثلاثة أمتار، لتسمح للأسماك بالمرور. اليوم، لم تعد البحيرة بيئة مناسبة للبلطي، لكنها تصلح لأنواع أخرى من الأسماك البحرية مثل عائلة البوري، والشبار، والدنيس، والقاروص. ولتحقيق ذلك، نحتاج إما إلى فتح طريق مباشر لدخول هذه الأسماك من البحر، أو إلى إنشاء مفارخ لإطلاق الزريعة، وهو خيار مكلف. الأفضل أن ننشئ ممرًا مائيًا، خاصةً أن لدينا في مصر أكبر مفرخ في جنوب البحر المتوسط، ويمكنه تزويد البحيرة بالأسماك البحرية”.

يشير زكريا رجب، عضو اللجنة الاستشارية للثروة السمكية، إلى انتشار الصيد الجائر في بحيرة المنزلة وفي سائر مصايد الجمهورية، مع تفشي حرفة الصيد بالكهرباء، التي تؤدي إلى إبادة شاملة للكائنات الحية في المياه، بما في ذلك بيض الأسماك، نتيجة الصعق الكهربائي. ويضيف أن بعض الصيادين يستخدمون الجير الحي أو المبيدات السامة، فيلقونها في الجزء الشمالي من البحيرة حيث يسير التيار باتجاه الجنوب، ثم يضعون شباكهم في الجنوب، لتلتقط الأسماك الهاربة من السموم، بينما تقتل المياه الملوثة كل ما يتبقى خلفها.

ويُبيّن أن صيد الأسماك صغيرة الحجم ينعكس سلبًا على إنتاج البحيرة، إذ تستهدف حرفة الجر ذريعة الأسماك التي يتراوح وزنها بين 2 و5 غرامات، وتُباع لمصانع الأعلاف، بحيث يحتوي الكيلوغرام الواحد على 200 إلى 300 سمكة. ولو تُركت هذه الأسماك في المياه أسبوعين أو شهرًا، لأصبحت صالحة للاستهلاك الآدمي. وفي المقابل، لا يتمكن الصياد من التقاط أسماك ناضجة بسبب ندرتها، ما يؤدي إلى ضعف العائد اليومي، وسط تقصير ملحوظ – بحسب رجب – في أداء شرطة المسطحات المائية.

ويقول لزاوية ثالثة: “جهاز حماية البحيرات وتنمية الثروة السمكية لا يقوم بدوره الحقيقي، بل تحول إلى سلطة لجمع الرسوم، ونقل تبعية البحيرة إلى جهاز مشروعات مستقبل مصر لا يُعدّ إلا تغييرًا في الأسماء دون أثر ملموس على أرض الواقع”.

من جهة أخرى، سبق أن أطلقت الحكومة المصرية المشروع القومي لتطهير وتطوير بحيرة المنزلة، تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وبمشاركة محافظات دمياط والدقهلية وبورسعيد. ووفق ما أعلنته الحكومة، فإن المشروع يهدف إلى تحويل البحيرة إلى مصدر رئيسي للثروة السمكية في مصر، من خلال إزالة التعديات والمخلفات، وتطوير المسطح المائي، وإنشاء قنوات شعاعية لتحسين حركة المياه، بالإضافة إلى إنشاء مراسي نموذجية وتطوير المناطق المحيطة، بما فيها منطقة القزاقات والبركة الغربية لتُضاف إلى مناطق الصيد البحري. كما يتضمن المشروع إنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي قبل تصريفها في البحيرة، لاستخدامها لاحقًا في الزراعة.

وكان من المقرر تنفيذ أعمال التطوير والتطهير على ثلاث مراحل بتكلفة إجمالية بلغت 960 مليون جنيه. تشمل المرحلة الأولى إزالة نباتات الهيش والبوص وأعمال التكريك، بينما تركز المرحلة الثانية على كشف المسطح المائي وتطهير مجرى بوغاز البرلس وتكسية جانبيه، إلى جانب شق قنوات شعاعية. أما المرحلة الثالثة، فتتضمن إزالة النموات النباتية وتكريك مساحة 3,026 فدانًا، وفتح خمسة أبواب بالبحيرة وتكريك أحواض أمام المصارف. ويشمل المشروع أيضًا إنشاء حاجز مائي في الجهة الشمالية للبحيرة لفصلها عن القرى المجاورة، وتطوير البركة الغربية وإدخالها في نشاط الصيد البحري، إلى جانب إزالة كافة المخالفات والتعديات.

 

نوصي للقراءة: بعد ضم بحيرة البردويل لـ”مستقبل مصر”: مستقبل غامض للصيادين والثروة السمكية

التعديات وسرقة الزريعة

يحمل محمد سليمان، مدون وناشط بيئي وأحد سكان مدينة المنزلة، مسؤولية تدهور بيئة بحيرة المنزلة إلى التعديات المنتشرة وأصحاب المزارع السمكية المخالفة، خصوصًا في جنوب بورسعيد وشمال مدينة المطرية، والتي تمتد على أكثر من 30 ألف فدان. ويشير أيضًا إلى تعديات جنوب الطريق الدولي في دمياط، وتعديات غيط النصاري، ومنطقتي السرو والديبة، معتبرًا أن الطريق الذي يربط بين بورسعيد والدقهلية ساهم في تدمير مساحات واسعة من البحيرة والنظام البيئي المرتبط بها.

يقول لزاوية ثالثة: “عدم قيام صلاح مصيلحي، رئيس جهاز حماية البحيرات وتنمية الثروة السمكية، بإزالة التعديات والمزارع المخالفة يُخالف نصوص الدستور المصري، الذي يحظر تغيير الطبيعة البيئية والجغرافية للبحيرات. كما أن قرار رئيس الجهاز في الأعوام الماضية بتخصيص 400 فدان لمحافظة بورسعيد ومنع الصيد الحر فيها ساهم في تضييق المجال أمام الصيادين. من أبرز التحديات التي تواجه البحيرة اليوم، سرقة الزريعة والأسماك الصغيرة من قبل شبكات غير قانونية مرتبطة بالمزارع السمكية، ما يستنزف المخزون السمكي للبحيرة”.

ويُوضح أن مصرف بحر البقر لا يزال يمثّل مصدر تلوث رئيسي لشرق وجنوب البحيرة، منذ إنشائه وحتى اليوم، مضيفًا أن التلوث الصناعي في منطقة “قعر البحر” جنوب بورسعيد، والصرف غير المعالج من المزارع السمكية في منطقة الديبة، كلها عوامل ساهمت في تدهور بيئة البحيرة. ويرى أن قرارات غير مدروسة من جهات غير متخصصة، مثل السماح بصب مياه الصرف الصحي من مصرف بحر البقر، أدت إلى تلوث شديد وفقدان أنواع سمكية عالية الجودة كانت تُصدّر سابقًا إلى الخارج، مثل ثعبان البحر الذي كان يُصدر حيًا إلى اليابان قبل أن يتوقف التصدير بسبب التلوث.

ويعتقد سليمان أن هناك جهات تعرقل عمليات التطوير، من أبرزها أصحاب التعديات وأصحاب مصانع الأعلاف السمكية، في وقت يعاني فيه الصيادون الأحرار، وخصوصًا صيادو بحيرة المنزلة، من إهمال واضح. ويشير إلى أن معظم القرى المطلة على البحيرة لا تملك مراسي مناسبة، بل تعتمد على مراسي بدائية متهالكة، متسائلًا: “كيف يتم تطوير البحيرة من دون إنشاء مراسي أو موانئ للصيادين؟”، مؤكدًا أنه لم يُنشأ مرسى واحد في البحيرة منذ تولي صلاح مصيلحي رئاسة الجهاز.

ويضيف: “التعديات تمثل تهديدًا مباشرًا لجغرافيا البحيرة ونظامها البيئي، الذي كان موطنًا طبيعيًا للطيور المهاجرة وأنواع متعددة من الأسماك البحرية والنيلية. وقد أدت هذه التعديات إلى تقليص مساحة الصيد الحر. كما أن جهاز حماية البحيرات يمتلك مركزًا لتجميع الزريعة، ويقوم ببيعها لاحقًا للمزارع السمكية. ونتيجة لسرقة الزريعة من قبل المخالفين، وصيدها من البحيرات لتجميعها في هذا المركز، تراجع المخزون السمكي للبحيرة بشكل كبير”.

ويشير إلى انتشار طرق مختلفة للصيد المخالف داخل البحيرة، من بينها: الصيد بالكهرباء، الصيد بالشباك الصغيرة التي يقل قياسها عن “ماج 19″، طريقة “الدور” أو “التحويط”، وصيد الزريعة. ويطالب بفرض رقابة مشددة على هذه الأساليب، وإنشاء مراسي حديثة للصيادين، وتحديد فترات ممنوعة للصيد تتزامن مع مواسم تكاثر الأسماك وفقس البيوض.

وتواجه بحيرة المنزلة أيضًا اعتداءات أخرى تشمل أعمال ردم وتجفيف بهدف إنشاء مزارع سمكية غير قانونية، إضافة إلى تصريف مياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي. ويُقدم بعض الأفراد على ردم أجزاء من البحيرة لتجفيفها وتحويلها إلى مشاريع خاصة، ما يُقلص المسطح المائي ويهدد التنوع البيئي في البحيرة.

وكان المهندس مجدي زاهر، المدير التنفيذي لبحيرة المنزلة، قد كشف في تصريحات إعلامية، في نوفمبر 2022، عن إزالة  532 الآف حالة تعدى على بحيرة المنزلة  بقطاعاتها الثلاث “دمياط، الدقهلية، بورسعيد”، ضمن توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي برفع كفاءة بحيرة المنزلة والبدء بأعمال تطهير وتكريك البحيرة كمرحلة أولى، وفي يونيو 2023، تم تنفيذ حملة أمنية مكبرة داخل المسطح المائي لبحيرة المنزلة في محافظة الدقهلية، أسفرت عن إزالة تعديات متنوعة على مساحة 450 فدانًا داخل مسطح البحيرة وإعادتهم لإدارة بحيرة المنزلة، التابعة لجهاز حماية البحيرات والثروة السمكية، كما تم ضبط 207 مركب صيد مخالفة تستخدم سرعات عالية غير مسموح بها، وضبط 45 من الماكينات والمولدات التي تستخدم في الصيد الجائر بإجمالي 405 قضايا صيد جائر فضلًا عن ضبط 18 ألف وحدة زريعة قبل التصرف فيها.

أعمال تكريك بحيرة المنزلة- الهيئة العامة للاستعلامات

نوصي للقراءة: الري بمياه الصرف الصحي يهدد الأمن الغذائي في القليوبية

تقلص مساحة وإنتاج البحيرة

يعتبر الدكتور أشرف شبل، أستاذ الاقتصاد الزراعي بكلية الثروة السمكية بجامعة السويس، أن مصر لا تستغل مواردها الطبيعية الاستغلال الأمثل، وفي مقدمتها البحيرات، وعلى رأسها بحيرة المنزلة التي تمثل أحد أهم مصادر الإنتاج السمكي في البلاد. ويؤكد أن تحقيق أقصى استفادة منها يتطلب تطهيرًا دوريًا للبحيرة، وإزالة التعديات، ومواجهة التلوث المتفاقم، إضافة إلى وقف الممارسات الخاطئة في إدارة المصايد، مثل الصيد في فترات الحظر، وغياب التنظيم في إصدار التراخيص.

ويُوضح أن الحفاظ على المخزون البيولوجي الضروري لإنتاج الأسماك يتطلب تفعيل القوانين المتعلقة بالصيد، وضبط معدات الصيد ومنع أشكال الصيد الجائر. ويشير إلى أن لكل مصيد قدرة استيعابية محددة، ولا يجوز تجاوزها؛ فإذا كانت طاقته 100 مركب، فإن إصدار ترخيص لمركب إضافي واحد قد يؤدي إلى انهيار البيئة البحرية. كما يشدد على ضرورة مراعاة التوازن بين نوع المركب المستخدم وقدرة البيئة المستقبِلة، فلا يصح استخدام مركب مُعدّ لمياه البحر الأحمر داخل بحيرة البردويل مثلًا، لأن ذلك يضر بالنظام البيئي.

ويُحذر شبل من خطورة إلقاء المخلفات الناتجة عن الصيد – مثل المراكب القديمة والخردة – في مياه البحيرة، لما لذلك من أثر سلبي على قدرتها الإنتاجية وتدمير أدوات الصيد المستخدمة. ويُعدّ الصيد بالكهرباء والمبيدات، إضافة إلى التلوث الصناعي، من أبرز مصادر التلوث في بحيرة المنزلة، إلى جانب تصريف مياه الصرف الصحي والزراعي غير المعالجة، والتعديات على المسطح المائي.

يقول لزاوية ثالثة: “كانت بحيرة المنزلة تنتج كميات ضخمة من الأسماك، لكن إنتاجها تراجع بشكل حاد. فقد تقلّصت مساحتها من 750 ألف فدان إلى نحو 125 ألف فدان فقط، نتيجة أعمال الردم والتجفيف والتعديات غير القانونية، وتحويل أجزاء واسعة منها إلى مزارع سمكية خاصة. أُقيمت حوش سمك وأقفاص سمكية عشوائية، ومبانٍ على الجزر الداخلية، مما أدى إلى فقدان 83% من مساحة الإنتاج، وتدمير الموائل – وهي المناطق الطبيعية لتفريخ الأسماك – وتقليص مناطق التكاثر البيولوجي”.

ويتابع: “تُلقى يوميًا نحو 16 مليون متر مكعب من المياه الملوثة في البحيرة، مصدرها مصرف بحر البقر، وتحتوي هذه المياه على نفايات بشرية وصناعية وزراعية، ما يؤثر بشدة على النظام البيئي للبحيرة. كما أن انتشار نباتات ورد النيل والبوص يستهلك كميات كبيرة من الأكسجين، ويعيق حركة الصيد، ويُضعف الإنتاج السمكي”.

ويؤكد شبل أن هذه التحديات تترك أثرًا اقتصاديًا واجتماعيًا بالغًا على الصيادين؛ إذ إن نحو 40% من الصيادين تخلوا عن مهنتهم، خاصة بعد عام 2011، نتيجة لانعدام الأمن وانخفاض العائد. وعلى الرغم من إطلاق وزارة التضامن الاجتماعي مبادرات لدعم صغار الصيادين، فإن الدعم يصعب الحصول عليه، ولم تُنفذ وعود القروض الميسرة لتطوير المراكب. كما تعاني البحيرة من انعدام المراسي المنظمة، ونقص ورش الصيانة، وغياب سوق حرة تُمكّن الصياد من بيع إنتاجه بحرية ومن دون عراقيل.

ويضيف: “عندما نتحدث عن التطهير، فإننا نعني تطهير البحيرة من جميع مصادر التلوث، والالتزام بالضوابط التي تحدّ من استخدام المياه الملوثة وتأثيراتها الصحية. تعاني البحيرة من تراكم المعادن الثقيلة والمواد السامة الناتجة عن الصرف، إضافة إلى انسداد البواغيز – وهي الفتحات التي تربط البحيرة بالبحر المتوسط – ما يمنع تجدد المياه ودخول أنواع سمكية جديدة أكثر ملاءمة. ونتيجة لذلك، باتت تهيمن على البحيرة أنواع غير اقتصادية تتحمل التلوث، بينما تراجعت الأنواع المرغوبة تجاريًا”.

تتغذى بحيرة المنزلة من عدة مصادر مائية رئيسية، منها: بوغاز الجميل القديم، والجميل الجديد، وبوغاز الديبة (المعروف محليًا بالصفارة)، إلى جانب قناة الرطمة، وقناة الصفارة. وتصل إلى البحيرة مياه مختلطة، بعضها مالح يأتي من فرع دمياط، وبعضها عذب وشروب. وتُعد مياه الصرف من أبرز المصادر التي تغذّي البحيرة، وأهمها أربعة مصارف: مصرف بحر البقر، وهو المصدر الأساسي لتلوث البحيرة بالصرف الصحي؛ مصرف السرو، وهو مصرف زراعي يقع في محافظة دمياط؛ مصرف حادوس، الذي يفصل بين محافظتي الشرقية والدقهلية؛ ومصرف رمسيس، الكائن بمحافظة الدقهلية.

ويُشير الدكتور أشرف شبل، أستاذ الاقتصاد الزراعي، إلى أن إدارة البحيرة تعاني من تضارب واضح في المسؤوليات، إذ تتداخل اختصاصات عدد من الجهات، منها: جهاز تنمية الثروة السمكية، ووزارة الموارد المائية والري، ووزارة البيئة، وشرطة المسطحات المائية، والهيئة الهندسية للقوات المسلحة. هذا التداخل يؤدي، برأيه، إلى غياب التنسيق ويحول دون استغلال البحيرة بالشكل الأمثل، مما يسهم في تفاقم مشكلات التلوث والتعديات، إذ تتنصل كل جهة من المسؤولية وتُلقي بها على الجهات الأخرى.

 محمية أشتوم الجميل- infonile
محمية أشتوم الجميل- infonile

وفي وقت سابق، نفذت وزارة الدولة لشؤون البيئة مشروعًا للمعالجة البيولوجية لبحيرة المنزلة، بالتعاون مع وزارة الري، ومرفق البيئة العالمي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، خلال فترة تولي المهندس ماجد جورج حقيبة البيئة. بلغت مساحة المشروع 200 فدان، بتكلفة 4.9 مليون دولار، وكان يهدف إلى معالجة 25 ألف متر مكعب من مياه مصرف بحر البقر يوميًا، قبل تصريفها في البحيرة، وذلك باستخدام تكنولوجيا منخفضة التكلفة وصديقة للبيئة.

تضمنت مراحل المشروع ضخ المياه إلى أحواض ترسيب عملاقة بمساحة 70 فدانًا لفصل العوالق والملوثات، ثم توجيهها إلى أحواض معالجة بيولوجية مزروعة بنباتات محلية قادرة على تنقية المياه من 75% من الملوثات، قبل نقلها إلى أحواض للاستزراع السمكي بمساحة 60 فدانًا، لإنتاج أسماك صالحة للاستهلاك الآدمي.

وقد أوصت وزارة البيئة حينها بعدد من الإجراءات، أبرزها: الحفاظ على المسطح المائي للبحيرة من خلال تجريم أعمال الردم والتجفيف، ومنع إقامة الطرق أو المشروعات الاقتصادية والسكانية بالقرب من الشواطئ، وذلك للحد من تقلص المساحة المائية. كما أوصت بمنع وتجريم صيد الزريعة في مناطق البواغيز، وتحديد المناطق ذات الأولوية – مثل مناطق توالد وحضانة الأسماك أو المناطق البيئية الحساسة – ومنع أي تنمية في محيطها. ودعت الوزارة إلى تشكيل لجنة مشتركة تضم وزارات: الموارد المائية والري، الإسكان، الزراعة، البيئة، إلى جانب الهيئة القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء، بهدف إعداد خطة متكاملة لإعادة تأهيل بحيرة المنزلة.

 

نوصي للقراءة: تعديلات قانون البيئة.. أرباح الشركات في مواجهة صحة المصريين: من يربح؟

تحركات برلمانية

في مطلع يونيو الجاري، تقدّمت النائبة إيفلين متى، عضو لجنة الصناعة بمجلس النواب، بطلب إحاطة موجّه إلى وزير الزراعة ورئيس هيئة الثروة السمكية، بشأن عدم التواصل مع مستأجري المزارع السمكية في بحيرة المنزلة، رغم شكاواهم من ارتفاع نسبة الملوحة وتغيّر لون المياه إلى اللون الداكن، ما يؤثر سلبًا على نمو الأسماك وتراجع كمياتها. طالبت النائبة بإحالة الطلب إلى لجنة الزراعة لمناقشة سبل تطهير مداخل المياه ومتابعة الملوحة، بما يتيح للمستأجرين تربية الأسماك وتنمية الإنتاج الغذائي القومي في البحيرة.

وتقول لزاوية ثالثة: “تلقيت شكاوى من الصيادين وأصحاب المزارع السمكية في دمياط حول تدهور الأوضاع في بحيرة المنزلة. تقدمت بطلب إحاطة، لكنه لم يُناقش لغياب ممثلي الجهات المعنية. وعندما أُدرج مجددًا قبل أسبوعين، تأجّل مرة أخرى بسبب عدم انعقاد اللجنة”. وتضيف: “هدفي كان فهم الدور التنموي للهيئة، لا يجوز أن تقتصر وظيفتها على تحصيل الإيجارات ومقاضاة المستأجرين، حتى عندما يدفعون مقدمًا. كثير من المستأجرين طوّروا أراضيهم بأنفسهم، باستخدام الحفارات وتوفير الأعلاف، دون أي دعم يُذكر من الهيئة”.

وتوضح متى أن الهيئة تطالب بالإيجارات قبل أن يتمكن المستأجرون من حصاد إنتاجهم، رغم ضعف الإنتاج الناتج عن ارتفاع الملوحة، ما يعوق نمو البلطي. وعند مناقشة القضية، كان الرد أن منسوب المياه مرتفع من جهة، وأن مجرى النيل مغلق من جهة أخرى، وهي مسائل فنية تتطلب وجود ممثل متخصص للرد عليها. وتنتقد النائبة غياب الرؤية التنموية لدى بعض الكوادر الفنية، وعدم الاستفادة من تجارب دول أخرى في تطوير المزارع السمكية.

وتشير إلى أن أعمال التعميق في البحيرة رفعت منسوب المياه في بعض المناطق إلى أربعة أمتار، ما أضر بمناطق التفريخ والزريعة. كما أن الكباري المقامة فوق الفتحات التي تربط البحر بالبحيرة، والتي تحتوي على اثني عشر عمودًا في كل جانب، تعيق تدفّق المياه والزريعة، خاصة في فترات النهار، حيث يصبح قاع المياه معتمًا بسبب التراكم الرملي. وتنفي النائبة وجود تلوث مباشر من مصرف بحر البقر، مشيرة إلى أن محطة معالجة الصرف الصحي المرتبطة به تُعد من أكبر المحطات في الشرق الأوسط، وتُعالج المياه قبل دخولها البحيرة.

ورغم الإعلان الرسمي عن جهود حكومية لتطهير وتطوير بحيرة المنزلة، والميزانيات المرصودة لهذا الغرض، إلا أن شهادات الصيادين وأصحاب المزارع تشير إلى واقع مختلف، يتسم بتراجع المخزون السمكي، وتوسع الصيد الجائر، وتفاقم التلوث الناتج عن صرف غير معالج، وسط تغوّل التعديات والمزارع غير القانونية، وضعف التنسيق المؤسسي.

ويُجمع الصيادون على أن تجاهل أصواتهم في خطط التطوير، وتغييب الرقابة عن التجاوزات، ساهم في تدمير المرابي الطبيعية التي كانت تؤمن أرزاق آلاف الأسر. وتكشف الشهادات الواردة في هذا التحقيق أن إنقاذ بحيرة المنزلة لم يعد ممكنًا من دون إرادة سياسية واضحة، وتخطيط بيئي مشترك، تشارك فيه الدولة والمجتمع المحلي، ويأخذ في الاعتبار المعرفة التراكمية للصيادين، وخبرة المتخصصين.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search