خلال أيام قليلة، أصبحت صحيفة «فيتو» والصحفي إسلام الراجحي من مؤسسة أخبار اليوم هدفًا لبلاغات رسمية. وزارة النقل هدّدت باتخاذ إجراءات قانونية ضد «فيتو» قبل أن تتراجع، فيما أُلقي القبض على الراجحي وأُحيل إلى الجنايات بعد بلاغ تقدّمت به مسؤولة محلية ضده، بسبب منشور على «فيسبوك» انتقد فيه تراكم القمامة وغياب الإنارة في قريته.
وجاءت هذه الوقائع بالتزامن مع دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال اجتماعه مع قادة الإعلام الرسمي، إلى ترسيخ مبدأ “الرأي والرأي الآخر” وتشجيع النقاش العام. غير أن الواقع عكس تلك الدعوة؛ إذ تحوّلت البلاغات الرسمية إلى أداة لملاحقة أي مادة صحفية أو رأي ناقد حتى إذا نُشر على حساب شخصي في مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الحالات ليست استثناءً، بل تعبّر عن نمط متصاعد من استخدام البلاغات الرسمية لمواجهة النقد الصحفي والمساءلة المجتمعية، وهو نمط بدأ منذ سنوات ويتوسع تدريجيًا في ظل غياب بيانات رسمية دقيقة توضح عدد البلاغات المقدمة من مؤسسات الدولة.
إحالة الراجحي للجنايات بعد انتقاد محليّة
في 24 أغسطس، فوجئت نقابة الصحفيين بخبر توقيف الصحفي إسلام الراجحي وإحالته إلى محكمة الجنايات، بناءً على بلاغ تقدّمت به رئيسة الوحدة المحلية بقرية ميت الشيخ، اتهمته فيه بالتشهير والسب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عقب منشور انتقد فيه الأوضاع الخدمية في قريته. ورغم نفي وزارة التنمية المحلية أن يكون القبض مرتبطًا بهذا الانتقاد، مؤكدة أن الإجراءات ناتجة عن “أحكام قضائية سابقة”، إلا أن الواقعة أثارت جدلًا واسعًا، لا سيما بعد تأكيد الراجحي والنقابة أن البلاغ الأخير كان هو السبب المباشر في توقيفه.
وفي اليوم التالي، قررت النيابة إخلاء سبيل الراجحي، بعد تدخل عاجل من نقيب الصحفيين خالد البلشي، الذي قدّم بلاغًا رسميًا إلى النائب العام للمطالبة بإطلاق سراحه.
المحامي الحقوقي علي أيوب، الذي تولى الدفاع عن الراجحي، أكد في حديثه لـ«زاوية ثالثة» أن البلاغ قُدّم فعلًا من رئيسة الوحدة المحلية، وأن القضية بدأت أمام المحكمة الاقتصادية التي قضت بعدم الاختصاص، لتُحال لاحقًا إلى محكمة الجنايات. وأضاف أن محاولة تنفيذ أمر الضبط والإحضار بحق موكله جرت على نحو غريب، حيث استعان أحد المحامين في فرسكور بعدد من مركبات “التوك توك” وسيارته الخاصة، مدعيًا وجود محضر جديد بالسب والقذف، ما أدى إلى توقيف الراجحي مؤقتًا، قبل أن تُخلي نيابة فرسكور سبيله.
وأوضح أيوب أنه رافق موكله إلى محكمة دمياط لعرضه على النيابة الكلية في القضية المرفوعة من رئيسة الوحدة المحلية، لافتًا إلى أن صفته الصحفية لم تكن مذكورة في ملف التحقيق. وعندما أُبلغ رئيس النيابة بهذه الصفة، طُلبت إفادة رسمية من نقابة الصحفيين، حصل عليها الدفاع لاحقًا.
استند أيوب في مرافعته إلى المادة (32) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، التي تمنع توقيع عقوبة جنائية على الصحفي بسبب انتقاده موظفًا عامًا أو مكلفًا بخدمة عامة، ما لم يثبت سوء النية أو كذب الوقائع. كما أشار إلى المادة (302) فقرة 2 من قانون العقوبات، المعدّلة بالقانونين 93 لسنة 1995 و147 لسنة 2006، والتي تُجيز نقد الموظف العام في إطار مهامه الوظيفية إذا صدر النقد بحسن نية.
وأشار إلى أن المحامي العام تابع التحقيقات بعد تلقيه بلاغ نقيب الصحفيين، وأصدر قرارًا بإخلاء سبيل الراجحي على ذمة القضية.
وفي تعليقه على القضية، رأى أيوب أن هناك مناخًا عامًا لرفض النقد في مؤسسات الدولة، وأن لجوء بعض المسؤولين إلى البلاغات ضد المواطنين والصحفيين يعكس ذهنية بيروقراطية تفضّل الملاحقة القضائية على الحوار أو الاستجابة لمطالب بسيطة، مثل رفع القمامة أو تحسين مستوى الخدمات.
نوصي للقراءة: الرواتب، الهجرة، والدستور: لماذا حققت النيابة مع ممثل الأطباء؟
وزير النقل يهدد بمقاضاة جريدة مصرية
قبل أزمة الراجحي بأيام قليلة، اندلعت أزمة أخرى كان بطلها وزير النقل كامل الوزير، إثر تقرير نشرته فيتو بعنوان «جمهورية المستشارين.. حكومة في الظل تكلف الملايين وتساؤلات حول جدوى مهامهم». التقرير انتقد التعيينات الاستشارية، واصفًا بعضها بالشرفية التي تثقل الميزانية دون إضافة فعلية، ما أثار غضب الوزير الذي أعلن عزمه تقديم شكوى إلى النائب العام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. ومع تصاعد الانتقادات النقابية، وتشديد نقيب الصحفيين خالد البلشي على أن “حق الرد هو الوسيلة القانونية لتصحيح المعلومات وليس البلاغات”، تراجع الوزير عن الشكوى أمام النيابة، مكتفيًا بالمسار الإداري عبر المجلس الأعلى للإعلام، قبل أن يتراجع عن هذه الخطوة أيضًا.
تراجعت وزارة النقل عن البلاغ والشكوى المقدمة للمجلس الأعلى للإعلام، في خطوة رحبت بها نقابة الصحفيين، معتبرة إياها مؤشرًا على أهمية الحوار المهني وحق الصحافة في النشر، مع احترام حق الرد بدلًا من ملاحقة الصحفيين قضائيًا أو الشكوى للجهات المختلفة.
وعن توجه المسؤولين والوزراء إلى تقديم بلاغات ضد الصحفيين، تقول إيمان عوف، عضو مجلس نقابة الصحفيين ورئيسة لجنة الحريات، في حديثها لـ”زاوية ثالثة”: “هناك مسؤولون يتعاملون مع الصحافة باعتبارها عدوًا وخصمًا، رغم أنها تمثل قوة ناعمة أساسية مثلها مثل الثقافة والإعلام، ومن الخطأ مواجهتها بالعداء أو التهديد أو الملاحقة القضائية. القانون واللوائح النقابية توفر حلولًا واضحة لأي خلاف، في مقدمتها حق الرد المكفول للجميع.”
وتضيف: “الأزمة الحقيقية تكمن في غياب المعلومات وامتناع المصادر الرسمية عن الرد على استفسارات الصحفيين، بل إن كثيرًا من المسؤولين ينتظرون ‘إذنًا’ قبل الإدلاء بأي تصريح، وهو أمر مخالف للقانون والدستور. هذا الفراغ في تدفق المعلومات يضاعف من صعوبة عمل الصحفيين ويجعل احتمالية وقوع الأخطاء أمرًا واردًا.”
وترى رئيسة لجنة الحريات أن الحل لا يكمن في الغرامات أو القضايا، بل في إتاحة المعلومات وتمكين المسؤولين من الحديث بشفافية. “إذا كانت المعلومات متوفرة عبر قنوات رسمية واضحة، يمكن عندها محاسبة الصحفي عند نشر خطأ من خلال النقابة باعتبارها الجهة المختصة بمساءلة أعضائها.”
وتختتم عوف حديثها بالقول: “المشكلة أن بعض المسؤولين لا يفرقون بين الجهات؛ فنجد، مثلًا، وزارة النقل قد أعلنت تارة أنها ستلجأ للهيئة الوطنية للصحافة والإعلام، ثم تحدثت عن بلاغ، ثم عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وهو خلط واضح في الأدوار، بينما النقابة هي الجهة الوحيدة المختصة بمحاسبة الصحفيين النقابيين.”
تماشيًا مع دعوة الرئيس لترسيخ ثقافة “الرأي والرأي الآخر”، وسعيًا للحصول على رد رسمي، تواصلت «زاوية ثالثة» مع المتحدث باسم وزارة النقل، محمد عز الدين، للاستفسار عن أسباب تهديد الوزارة باللجوء للنائب العام بدلًا من استخدام حق الرد، وكذلك عن سبب اللجوء للمجلس الأعلى للإعلام بدلًا من نقابة الصحفيين.
لكن المتحدث ردّ بنبرة هجومية، متسائلًا عن ترخيص الموقع ومكان إصداره، وجنسية مُعدة التقرير، وإن كانت تملك تصريحًا من المجلس الأعلى للإعلام. وعند إبلاغه بأن معدة التقرير صحفية مصرية نقابية وعضو في نقابة الصحفيين، قال: “أنا معرفكيش ولا أعرف إنتِ مين… إزاي عايزاني أتكلم معاكي وخلاص؟ مش لازم أعرف أنا بكلم مين”، مطالبًا بإرسال الاسم، ورابط الموقع، والأسئلة عبر “الواتساب”. ورغم إرسال المعلومات المطلوبة، لم تتلقِ «زاوية ثالثة» أي رد حتى تاريخ نشر هذا التقرير.
تنص القوانين المصرية المنظمة للعمل الصحفي على آليات واضحة لمعالجة المخالفات المهنية، تبدأ بحق الرد والتصحيح قبل اللجوء لأي مسار قانوني. فوفقًا لقانون نقابة الصحفيين رقم 76 لسنة 1970، تُنشأ «هيئة تأديب ابتدائية» داخل النقابة للنظر في المخالفات، باعتبارها المسار الأصلي للمساءلة.
كما ينص قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018 على التزام الصحف والمواقع بنشر التصحيح خلال ثلاثة أيام أو في أول عدد، وعلى نشر الرد منسوبًا لصاحبه وبذات المساحة. ويشدد القانون على أن الحبس في قضايا النشر يُعد استثناءً لا يُلجأ إليه إلا في حالات محددة نصًا.
أما الدستور المصري، فيؤكد في المادة (68) على حق المواطنين في الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية، ويلزم الدولة بإتاحتها وتنظيم قواعد الإتاحة والسرية والتظلّم.
الدولة في مواجهة النقد الصحفي
تأتي أزمة الراجحي وفيتو في إطار نمط متكرر شهدته الساحة الصحفية المصرية على مدار السنوات الماضية، حيث لجأت بعض مؤسسات الدولة بمختلف أجهزتها إلى تقديم البلاغات الرسمية ضد الصحفيين كوسيلة لضبط النقد أو الضغط على وسائل الإعلام المستقلة.
عام 1992، شهدت توترات بين الرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، والصحافة. فقد شهد ذلك العام عددًا من الحوادث التي أظهرت قلقه من التقارير الصحفية التي اعتبرها غير دقيقة أو كاذبة.
ففي أحد خطاباته، هدد مبارك صراحةً باتخاذ إجراءات قانونية ضد الصحف التي تنشر ما وصفه بـ “الأكاذيب”. وقد ربط هذا التهديد بالاتهامات التي كانت تُنشر في الصحف حول الفساد داخل الحكومة، مؤكدًا أن هذه الأخبار ليست فقط تشهيرًا به، بل تشويهًا لصورة الحكومة والنظام ككل.
وفي عام 2008، أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكمًا بالسجن شهرين على رئيس تحرير صحيفة «الدستور» المعارضة، إبراهيم عيسى، في قضية تتعلق بنشر شائعات حول صحة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. جاء الحكم بعد أن تقدم جهاز أمن الدولة المصري ببلاغ إلى النيابة العامة، اتهم فيه عيسى بـ«نشر أخبار كاذبة عن صحة الرئيس من شأنها الإضرار بالمصلحة العامة والاقتصاد القومي»، وذلك على خلفية خبر نشرته صحيفة «الدستور» تناول تدهور صحة الرئيس الأسبق. لاحقًا، أصدرت رئاسة الجمهورية قرار عفو عن إبراهيم عيسى، لتنهِ القضية رسميًا.
عقب ثورة يناير وفي عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، قدمت رئاسة الجمهورية بلاغًا ضد الكاتب الصحفي جمال فهمي، الذي كان يشغل حينها منصب وكيل نقابة الصحفيين. جاء البلاغ من الإدارة المركزية للشؤون القانونية في رئاسة الجمهوري، وتضمن اتهامات ضد فهمي بإهانة رئيس الجمهورية ونشر أخبار كاذبة، وذلك بسبب تعليقات أدلى بها في لقاء تلفزيوني حول مقتل الصحفي الحسيني أبو ضيف، وهو ما أثار حفيظة الوسط الصحفي والسياسي حينها.
كما تقدمت الرئاسة المصرية ببلاغ آخر ضد صحيفة “المصري اليوم” المستقلة تتهمها فيه بإشاعة أخبار كاذبة بعد أن نشرت الصحيفة على موقعها الإلكتروني خبرا عن زيارة الرئيس المصري لمستشفى المعادي العسكري الذي يعالج فيه الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وهو ما اعتذرت عنه الصحيفة لاحقا. وذلك قبل أن يتنازل الرئيس الراحل عن البلاغات المقدمة بعد ضغوط خارجية وداخلية تعرض لها.
خلال السنوات الأخيرة قدم عددًا من المسؤولين الحكوميين بلاغات ضد الصحفيين، كان أبرزها البلاغ الذي تقدمت به وزارة الداخلية للنائب العام ضد رئيس تحرير الجريدة الكاتب الصحفى خالد صلاح، والصحفي السيد فلاح، بتهمة تكدير السلم والأمن العام، فى أعقاب نشر خبر استهداف إحدى السيارات التابعة للرئاسة. فيما تنازلت وزارة الداخلية عن البلاغ بعد ذلك.
يشير المحامي علي أيوب خلال حديثه عن تاريخ لجوء المسؤولين إلى مقاضاة الصحفيين إلى قضية الدكتور محمد زهران، مدير إدارة الموهوبين بوزارة التربية والتعليم وعضو لجنة وضع مواد التعليم في دستور 2014، الذي واجه بلاغًا عام 2020، من وزير التربية والتعليم آنذاك الأسبق طارق شوقي على خلفية اعتراضه على نظام «التابلت» في الثانوية العامة، انتهت محاكمته بالحكم عليه بالحبس ستة أشهر مع الإيقاف، بعد سلسلة من المحاكمات الاقتصادية والجنائية. وينتقد أيوب تصرف الوزير آنذاك، معتبرًا أن لجوء مسؤول بهذا المستوى إلى مقاضاة أحد القيادات التربوية بسبب نقد منشور على «فيسبوك» يعكس سوء استخدام لحق التقاضي.
ويرى أيوب أن مثل هذه الوقائع تُبرز غياب قنوات الحوار بين المسؤولين والمواطنين، محذرًا من أن استمرار هذه الممارسات يحول مصر إلى «دولة بوليسية» بدلًا من أن تكون «دولة قانون».
في السياق ذاته، يقول ياسر سعد، المحامي، لـ”زاوية ثالثة”: “منذ عام 2008 بدأت الوزارات والمحافظون في تقديم البلاغات بأسمائهم مباشرة، بدعوى تعزيز اللامركزية، بحيث تتحرك كل جهة عبر إداراتها القانونية لمواجهة ما تعتبره مخالفات. مستشهدًا بالبلاغ الذي قدّمه محافظ الفيوم عام 2008، ضد عدد من الصحفيين المستقلين بدعوى ممارستهم المهنة دون قيد بالنقابة، وهي سابقة استُخدمت لاحقًا في بلاغات مشابهة امتدت حتى بعد 2011”.
ويشير سعد إلى أن غالبية هذه البلاغات والإجراءات تخرج عن نطاق القانون والدستور، وتتصادم مع حرية الرأي والتعبير. مضيفًا: “بدلًا من حصر اختصاصات كل جهة، نجد حالة تداخل واسعة، حيث تقدّم وزارات وهيئات بلاغات في قضايا ليست من اختصاصها أصلًا، سواء تعلق الأمر بانتقادات صحفية أو حتى منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.”
ويختتم سعد حديثه بأنه عمليًا، هذه البلاغات لا تحقق أي هدف إداري أو قانوني: فهي لا تضبط الأداء داخل المؤسسات، ولا تؤدي إلى نتائج حقيقية، وغالبًا ما تُحفظ ولا تستكمل إجراءاتها، إلا إذا قررت الدولة التدخل لدفعها إلى القضاء. ولهذا يمكن القول إنها في جوهرها بلاغات عبثية، تُستخدم كوسيلة للضغط والترهيب وتشتيت الرأي العام بمعارك جانبية، أكثر من كونها آلية قانونية أو دستورية مشروعة”.
نوصي للقراءة: مصادرة ومنع: كيف يعاني قطاع النشر في مصر من التضييق؟

لست وحدك… بلاغات المسؤولين تطال المواطنين
لا يقتصر استخدام البلاغات على الصحفيين والإعلاميين، ففي السنوات الأخيرة امتد ليطال المواطنين العاديين أو النقابيين، ففي منتصف شهر أغسطس الجاري، ألقت قوات الأمن القبض على عبد الرحمن خالد، بعد نشره مقطع فيديو عبر صفحته الشخصية على “فيس بوك”، تضمن مشاهد تخيلية لافتتاح المتحف المصري الكبير، تظهر فيها شخصيات شهيرة، ضمن إطار دعائي غير رسمي.
جاء القبض على عبد الرحمن على خلفية البلاغ الذي تقدمت به وزارة السياحة المصرية ضد صانع المحتوى، حيث أعلنت الوزارة في بيان رسمي عن تبرؤها من مقطع الفيديو المنشور، واعتبرته “لا يمثل الإعلان الرسمي للمتحف الكبير”، المقرر افتتاحه رسميًا في الأول من نوفمبر المقبل.
وحرص الشاب على التأكيد أن الفيديو المنشور لا يحمل أي طابع رسمي، إذ أرفق جملة ينفي خلالها صلته بأي جهة مسؤولة بالدولة، واعتبره “هدية” فردية مدفوعة بحس وطني. إلا أن بيان وزارة السياحة وصف الفيديو بـ”المحتوى المزيف الذي يُشكل انتهاكًا واضحًا لحقوق الملكية الفكرية والأداء العلني”، معلنة عن إبلاغ الجهات الأمنية واتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضده.
كان المحامي علي أيوب حاضرًا خلال التحقيق مع صانع المحتوى، إذ أوضح أن النيابة أخلت سبيله بعد تحقيق استمر خمس ساعات على خلفية بلاغ من وزير السياحة والآثار بسبب فيديو تخيلي بالذكاء الاصطناعي عن افتتاح المتحف المصري الكبير، رغم أن الشاب نوه عن استخدام هذه التقنية خلال نشر الفيديو. ونفى أيوب تنازل وزير السياحة عن البلاغ المقدم ضد الشاب، رغم ما تم تداوله في وسائل الإعلام، وأن قرار الإفراج جاء من النائب العام نظرًا لحداثة سن الشاب وحسن نيته.
طالت بلاغات المسؤولين والوزراء النقابات المهنية، ففي 29 مايو الماضي، أخلت النيابة العامة سبيل الدكتور خالد أمين، الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء وعضو مجلسها، بضمان محل إقامته، بعد استجوابه في تحقيقات نُظمت على خلفية بلاغ رسمي تقدّم به وزير الصحة والسكان، الدكتور خالد عبد الغفار. وتُعد هذه المرة الأولى التي يتقدّم فيها وزير صحة مصري ببلاغ ضد عضو منتخب في مجلس نقابة الأطباء، ما أثار ردود فعل واسعة داخل الأوساط الطبية والنقابية.
وجاء البلاغ المقدم برقم 1906 لسنة 2025 إداري ثالث أكتوبر،من وزارة الصحة استنادًا إلى تصريحات إعلامية أدلى بها الدكتور خالد أمين حول ارتفاع معدلات هجرة الأطباء، وتدني الأجور، وتردي بيئة العمل في القطاع الصحي الحكومي. وقد استُدعي للتحقيق أمام نيابة أكتوبر الكلية، حيث وُجهت إليه تهم تتعلق بـ”نشر أخبار كاذبة من شأنها إثارة الفزع والبلبلة داخل المجتمع الطبي”، في أعقاب تلك التصريحات.
من جانبها رأت المفوضية المصرية للحقوق والحريات أن دعم الدكتور خالد أمين عضو مجلس نقابة الأطباء ضد البلاغ المقدم من وزارة الصحة، يأتي في إطار الدفاع عن حرية العمل النقابي وضمان حق المشاركة في الشأن العام، ورفض لأي محاولات لقمع الآراء والتوجهات النقابية المخالفة للسلطات، وحماية للنقابات المهنية في الدفاع حقوق أعضائها، خاصة في قطاع حيوي مثل الصحة، في ظل مشكلات متكررة تواجه الأطقم الطبية دفعتهم في النهاية إلى الهجرة.
في السياق، ترى إلهام عيداروس، وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية – تحت التأسيس، في حديثها لـ”زاوية ثالثة”: “أن البلاغات الأخيرة أو التهديد بهت من وزراء تجاه صحفيين ونقابين أو مواطنين تكشف عن نظرة سائدة لدى بعض المؤسسات الرسمية تعتبر أن صوت المواطنين، المعبَّر عنه عبر النقابات أو الصحافة، خطر يجب إسكاتُه بدلًا من اعتباره حقًا يجب احترامه”.
وتضيف عيداروس: “في أي دولة تحترم دستورها ومؤسساتها، كان من الطبيعي أن تواجه وزارة الصحة الانتقادات ببيانات رسمية توضّح الحقائق أو تدحض ما تراه غير صحيح، وأن تعلن وزارة النقل استعدادها للتحقيق في ملف التعيينات، مع تدخل الجهات الرقابية المعنية. لكن ما حدث أن وزارتي السياحة والصحة لجأتا إلى البلاغات ثم تراجعتا عنها، وهو ما يعكس توجهًا لترهيب الناس لا احترام حقوقهم”.
أما البلاغ الذي تقدمت به وزارة السياحة ضد صانع فيديو عن المتحف باستخدام الذكاء الاصطناعي، فمختلف قليلًا، إذ كان الأجدر – لو وُجد متضرر – أن يقدمه اللاعبون الذين ظهرت صورهم (مثل ميسي ورونالدو)، لا الوزارة- تقول عيداروس.
تختتم حديثها: “أي شخص في العالم من حقه إنتاج فيديو دعائي عن أي موقع أثري أو سياحي، بينما دور الحكومة يجب أن يقتصر على وضع قواعد عامة واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الدعاية، بدلًا من ملاحقة صانعي المحتوى بالبلاغات”.
تطرح أزمة لجوء المسؤولين والوزراء لتقديم بلاغات ضد الصحفيين والنقابيين والمواطنين تساؤلًا حول مستقبل الشفافية وحرية الرأي والتعبير التي يكفلها القانون والدستور، كما تطرح تساءلًا حول الحدود الفعلية لحرية الصحافة والإعلام في ظل هذا النمط المتصاعد من البلاغات الرسمية؟ كما تشير إلى التناقض بين دعوات القيادة السياسية لحرية التعبير، وبين الممارسات العملية التي تحاول احتواء النقد بالتهديد أو المسار القضائي.