تشتري دُرَّة (قصة قصيرة)

344
في كل مرة كان يأتي إلي مهرولاً والعرق يتصبب من جبهته في أوار الشمس؛ قارعاً زجاج سيارتي، لم أكترث بمعرفة المزيد عن تفاصيل حياته أو أسمه على أقل تقدير، بل كنت أشيح وجهي عنه وأنطلق بسيارتي بعد فتح الإشارة، وأصم أذني عن مقولته الذي كان يقولها لي ف كل مرة أمر فيها بسيارتي من الطريق الذي يصول فيه من يمينه إلى يساره حاملاً في يديه عدد من الذرة المشوية قائلاً مقولته الذي يحفظها عن ظهر قلب ويقولها لكل الماريين من على هذا الطريق سواء أكانوا يركبون سيارتهم أو يمرون على أقدامهم: تشتري دُرَّة، وإن كنت سمعت شخصاً ما يناديه في إحدى المرات أثناء مروري من هذا الطريق الذي أرتاده بصورة يومية لأنه بمثابة حلقة الوصل التي تربط بين مكتبي وبيتي بجيلبرتو، ولكن بعد الحادثة التي وقعت في ميعة هذا الأسبوع، لم يعد يشغل بالي إلا معرفة المزيد عنه، وهنا أغتنم فرصة مجئ زياد صاحب البشرة السمراء رفيقه في عمله الذي ينادى هو الآخر بسارة قائلاً وهو يقرع زجاج سيارتي: تشتري دُرَّة، طلبت منه أن يركب سياراتي، ولكني لاحظت علامات الخوف والأندهاش تسيطر على قسمات وجهه، فطمأنته بإخباره بأنني أريد أن أستفسر منه عن رفيقه في العمل بعد حادثة الأمس ، ولكن علامات الخوف لم تذهب من على وجهه إلا بعد إستئذان رجل – لا أعلم ماذا يقرب له- يجلس على الرصيف وأمامه كومة من الفحم المشتعل الذي يشوى عليه الذرة. بعد ركوب زياد السيارة، طمأنته أكثر بمبادرته بالسؤال: كيف حال صديقك بعد الحادثة؟، فرد علي: هو بخير نزل العمل اليوم في منطقة أخرى مع والده، ا هذا الهراء، كيف نزل العمل اليوم؟ هكذا رديت عليه وكان هذا رداً طبيعياً تناغم مع فجيعة حادثة الأمس، كيف نزل هذا الصبي العمل رغم ما حدث له في الأمس؟، فرد علي زياد: هذا أمر معتاد لم يحدث شئ، فهذه حادثة جميعنا معرضون لها.، ولكن كيف؟، فرد علي بإبتسامة مفعمة بالدهشة : نعم هو كان تعرض لبارقة ألم في جسده بعد حادثة الأمس نتيجة الجروح ولكننا قمنا بتضميدها، ولكن طه كان سيتعرض لأضعاف هذا الألم لأنه لم يستطع إطعام أخواته البنات إذا لم يذهب للعمل اليوم، لأنه هو ساعِدُ والده الوحيد، هنا أستوقفته وقولت له ما صلة القرابة بينك وبين طه ولماذا ينادي بجيلبرتو؟، فرد علي: لا توجد لة قرابة بيني وبين طه، لكنه صديقي، وأعلم عنه كل شئ، وينادى بجيلبرتو: لأنه صاحب بشرة سمراء مثلي، هكذا قال ثم إبتسم إبتسامة بريئة: وأردف حديثه ببراءة: لأننا نسكن في شارع واحد ومن أصحاب البشرة السمراء الناس – الجيران والأهل والأصدقاء- أطلقوا علي سمارة وعلى طه جيلبرتو. أستمريت في توجيه أسألتي لزياد: بما أنك صديقه وجاره وتعلم عنه الكثير هل من الممكن أن تخبرني عن تفاصيل أكثر عن حياته؟، فرد عليا بإبتسامة: نعم من الممكن، أنا وطه من عمر واحد كل منا يبلغ أحد عشر عاماً، ولكني أن أعمل في الأجازات فقط، لأنني أذهب إلى المدرسة، أما طه فهو يعمل طوال العام مع والده، رغم أنه ذه إلى المدرسة لفترة ثم لم يعد يرتادها نظراً لظروفهم الأقتصادية المضنية، فه له ثلاثة أخوات (أسماء وتوحيدة ووفاء)، ووالدته متوفيه، ووالده ليست له وظيفة ثابته، فهو الآن يعمل في بيع الذرة المشوية، لأن هذا موسمها، أما بقية العام يتنقل بين الوظائف مصطحباً طه معه. عفواً هل من الممكن أن أسألك سؤال قد يكون محرج. أسترسلت أسألتي بهذا الأعتذار، فرد علي: نعم تفضل لا توجد مشكلة. هل أنت وطه تجيدوا القراءة والكتابة؟، فرد علي رافعاً الحرج عن نفسه: نعم انا أجيد القراءة والكتابة، ولكن طه لا يجيد لأن والده أمي، وهو لم يذهب إلى المدرسة سوى عام واحد فقط. في هذه اللحظة أطرقت رأسي لسارحة في الحادثة التي دارت من جديد في عقلي الذي صورها تصوير دقيق: فهنا الطريق المزدحم بالسيارات، وهناك على الرصيف والد طه يشوي الذرة على كومة الفحم المشتعلة، وهذا طه صاحب الجسد النحيف، المغطى بملابس مهترئة يتنقل بخفة بين السيارات والمارة مردداً عباراته: تشتري دُرَّة، وأنا هنا كنت في أقصى يسار الطريق تشغلني هموم العمل ومشاغلي الحياتية، وطه الذي يردد مقولته لي بصورة يومية، وأنا أصك نافذة السيارة في وجهه، يهرول إلي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأثناء محاولته لإبتغاء مآربه – بيع قليل من الذرة- أرتطمت به سيارة، فوقع على وجهه، وتناثرت الذرة على الأرض، ففجع لبعض – المارة - من الحادثة وكنت من الذين فجعوا، فهرعت إليه، وجدته يجلس على ركبتيه، ويجمع الذرة من على الأرض بيديه التي ترتجف بشدة، ويمسحها من التراب بملابسه المهترئة، وكان العرق الذي يتصبب من جبهته ممزوجاً بدمائه، فلما رأني أمامه على بضعة أقدام، هرع إلي وهو يعرج، أثر الحادثة، والدم الممتزج بالعرق يتصبب من جبهته قائلاً لي: تشتري دُرَّة، في وسط أندهاش جميع المارة المفجوعين من الحادثة من ناحية أولى، ومن صلادة هذا الطفل من ناحية ثانية. وأثناء ما كنت أغط في نوبة سرحاني: فوقت على أصابع زياد النحيفة التي وخزتني في كتفي وهو يقول لي: مش هتشتري دُرَّة بقى يا أستاذ.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك