شوبنهاور وفلسفة العالم كإرادة وتجلي

442

محاولة كتابة ملخص لفلسفة شوبنهاور على هيئة مقال ما هي إلا محاولة برجماتية مني ( لاحياء يدي للعودة للكتابة ) وخصوصا عن الفيلسوف أرثر شوبنهاور الذي لا يحتاج إلى ثنائي الضعيف .


ولد شوبنهاور في يوم ٢٢ فبراير عام ١٧٨٨ ، وهو ابن كبار تجار مدينته أنذاك .. درس الفلسفة و الأهم أنه سيتمكن من ضبط كثير من اللغات. كان يتكلم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ويكتب بها بإتقان، بل سيتعلم إلى جانبها اللغات القديمة كاللاتينية والإغريقية، ما سيجعله يستغني، طيلة حيات، عن الترجمة، إذ سيخترق المتون في لغاتها الأصلية من دون وساطة.


وشتهر بفلسفة التشاؤم - ولكن لا يجب فهم مصطلح التشاؤم بمعناه الحرفي ! بل هو في العمق عند شوبنهاور وعي شامل وعميق للحياة والعالم.

والوعي هنا هو ما يميز الانسان عن باقي المخلوقات الاخرى - هذا النوع من الوعي الذاتي ليس فقط بحدوده البيولوجية والنفسية ، بل ايضا وعيه بإرادته ورغباته ، وعيه بآلامه .

فلسفة التشاؤم تعتمد في جميع الاحوال على سؤال يدعو الى التوقف عنده : “ ثم ماذا بعد ، وما الفائدة من كل هذا ؟” .

لقد ذكر شوبنهور في كتابه (العالم كإرادة وتجلي) مقطع عنيف عن حياة الطبيعة : 

في الغابة الهادئة التي تبدو حالمة بوحدتها ، وعلى سطح المرج الذي يبهر الشعراء بجماله هناك حرب اهلية قائمة ، حرب ابادة فظيعة بين الأعشاب مع بعضها ، والأزهار فيما بينها ، وكل نبتة تحاول امتصاص غذائها قبل النبتة المجاورة لها .

هو ذا الطحلب واللًبلاب يتشابكان حول شجرة البلوط كي يمتصان غذائها ،، انظروا هذه الشجرة اليابسة والمصفرة انها ضحية جارتها التي قهرتها في الصراع على الغذاء الترابي.

آه ياسيدي العزيز ان النبات اكثر ضراوة من البشر ، وانني لا استطيع ان امر في احدى الغابات دون ان اشعر بالقرف والغثيان الذي ينتابني حين اشم رائحة الموتى وهم يحيطون بي من كل جانب.

حين نتوقف امام مشهد الغابة فان الشعور بالاعجاب بالطبيعة يتراجع امام العور بالعبث واللاجدوى ، انه الهلع الذي يصيب قلب المشاهد وهو ينظر للصراع الكوني في الطبيعة ،، ذلك لان كل نوع مسلج ضد الاخر في صراع دائم ، وكل انتصار يبدو للعيان هو في الواقع هزيمة قادمة ، وليس هناك من نهاية سعيدة رغم كل الاستعدادات والوسائل التي توفرها الطبيعة لحفظ انواعها ،، وكل ما تقوم به من عمل هو في النهاية يقود الى الهزيمة.

لقد وصل شوبنهاور في نظر الفلاسفة الى قمة التفكير الواقعي ، فلقد وصف الكون بأنه يسود فيه الشر ، فنرى بصعوبة كيف يمكن للتجربة الجمالية ان تكون ممكنة ، أيمكن ان نتلذذ بمشاهدة الطبيعة الجميلة ، واصوات القتل تضج فيها على الدوام!

ففلسفة لتشاؤم تتمتع بقوة غريبة على عزائنا اذا ما غيرنا نظرتنا الى الألم .

ان الذي ينتحر لا يريد حقا ان يموت ، انه بالأحرى يتمنى ان يعيش حياة افضل ، لكنه يصطدم باليأس الذي يدفعه الى الموت ، خصوصا الذي ينتحر يظن انه سيد قرار نفسه في الموت - لكن يصدمنا شوبنهاور ليخبرنا بأن المنتحر واهم - لأننا في الانتحار لسنا من يقرر الخلاص من ارادة الحياة ، بل انها هي ارادة الحياة هي من تقرر الخلاص منا.

كان شوبنهاور على وعي بأن إرادة العالم / الحياة تدفع بالإنسان إلى البحث المستمر والدائم عن إمكانات تحقيق رغباته .

ويتم هذا الدفع بطريقة لاواعية ويسقط الإنسان بهذأ في دائرة مغلقة : ما إن تتحقق رغبة حتى تظهر أخرى في سلسلة لانهائية.


يقسم شوبنهاور العالم إلى قسمين: عالم التمثل وعالم الإرادة. ويقصد بالتمثل ذلك العالم السطحي والواضح، المليء بالمعنى والمعقولية. لكن الحفر تحت السطح المنظم لعالم التمثل، سيشق لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية، تظهر في الطبيعة الخام كقوة الجاذبية مثلا. وتظهر كقوة حيوية لدى النباتات والحيوانات، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه. فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا له أسبابا، بل نحن نجد أسبابا له لأننا نريده. فالعقل مجرد مخطط ومبرمج وباحث عن الاستراتيجيات لبلوغ الرغبة. فهو خادم طيع في يد إرادة البقاء.

كإرادة العالم ، فإن الرغبات الفردية للإنسان لا يمكن أبدَا أن تتحقق بكاملها، وهذا ما يشغل الإنسان عن الاهتمام بأشياء أخرى ، بل أكثر من هذا ينتج الملل والسقم والضجر من الحياة ، التي لا تعطيه كل شيء، بل تتعامل معه معاملة الحمار والجزرة.

وقد رأى شوبنهاور بأن أحد السبل للتخلص من هذا وكسر سلسلة الدوأفع الغريزية هي وعي مبدأ أساسي في حياة الإنسان ، ويتعلق الأمر بالتخلي الواعي والمفكر فيه بجدية عن عالم الاستهلاك والرغبة في الامتلاك والمرور إلى تكوين شخصية فردية ، لا يكون همها الرئيسي في الحياة المزيد من الامتلاك ، بل الارتقاء إلى مستى التأمل والنقد الذاتي والمجتمعي .

لا يطالب شوبنهاور بحياة شحاذة ، بل بحياة يكتفي فيها الانسان بما هو ضروري للاستمرار بيولوجيا ومقاومة غرائزه الحيوانية العمياء بصبر وكد بالاهتمام بالأعمال الخلاقه كالموسيقى والفنون بصفه عامه ، بل أيضا بالصوم والقيام بتجارب الحرمان لتربية الغرائز وردعها و"عقلنتها"، لكي لا تكون هى المسيطرة على الإنسان . ويؤكد

شوبنهاور أن أكبر لذة هي لذة الفكر والروح ، وليس لذة الغرائز.


ما يميز الإنسان في نظر شوبنهاور هو اهتمامه بطرح أسئلة ميتافيزيقية وماولة الإجابة عنها. ولا ينحصر هذا على الفلاسفة فقط ، بل ان كل انسان مسكون بهه الاسئلة ، كل ما في الأمر هو أن كل واحد يحاول الإجابة عنها انطلافا من تجربته الخاصة في الحياة وبأخذ طرق مختلفة ، وما الدين إلا واحد منها. ما يعيبه شوبنهاور هو أن الدين يزعم أنه يمتلك الحفيقة والواقع في نظره أن حقيقته ما هي إلا تعويض وتصعيد لاَلام الإنسان. وبهذا فليس للدين أية حقيقة ، على الرغم من أن له وظيفة مهمة بالنسبة للانسان ، الإنسان الذي لا يستطيع استعمال عقله في انشغالاته الميتافيزيقية ، يلجأ للدين ، الذي يقدم أجوبة جاهزة و"أزلية" لمعظم الأسئلة الميتافيزيقية والوجودية التى تقلق راحة الإنسان ، بما فيها المصير النهائى له. 


توفى شوبنهاور في ٩ سبتمبر ١٨٦٠ تاركا إرث عظيم تبناه من بعده نيتشه و ألبير كامو وليو تولستوي وغيرهم ، وسيظل شوبنهاور هو من أعطى التأمل الفلسفي القيمة التي يستحقها .



المراجع : 

 كتاب نقد الفلسفة الكانطية - ارثر شوبنهاور - تقديم حميد لشهب .

كناب شوبنهاور - كيوم مورانو - ترجمة فاروق الحميد .

كتاب شوبنهاور مريبا - فريدريك نيتشه - ترجمة قحطان جاسم .

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك