ابنة الباشا الضابط والشيخ الجهادي .. معًا

310

كانت غارقة في ذكريات طفولتها الأليمة الموحشة، تتذكر برودة بلاط مكاتب مقر أمن الدولة التي كانت تؤلم ظهرها وهي طفلة، في السنوات الأولى من عمرها، تتذكر قسوة نشأتها في منزل لم يعد لبابه معالم لكثرة تحطيمه مِن قبل رجال أمن الدولة، تتذكر الباب الحديدي الصمم خصيصًا في كل منزل نشأت فيه، لييعطي الفرصة لأهل الدار لارتدائهم ملاسهم قبل اقتحام" أفراد دوريات أمن الدولة" المنزل؛تردد أحياناً (اللهم اجعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لايبصرون ) كما حفظتها من أمها الطيبة النقية؛ حيث نشأَت كابنة لشيخ سلفي جهادي حركي.

تتذكر ارتدائها للنقاب وهي طفلة في عامها الحادي عشر، حيث رحلت لمعسكرات تدريب وإعداد جند الله على القتال لنصرةِ دين الحق، تذكر المرة الأولى لها في التدريب على إطلاق النّار حتى تنشأ كامرأة قوية لا تخاف  في إعلاء كلمة الله لومة لائم، وتتذكر زواجها في العام الرابع عشر من عمرها؛ لقد كانت مشوشة حقاً..

لم تعلم من هي حقاً ؟ هل هي ابنة ضابط المظلات العسكري ذاك؟ ذي الرتبة الرفيعة الذي يرتدي البدلة الكاكي، وكتّافاتها الحمراء اللامعة في الصورة التي تم إخفاؤها بعناية في طيات الملابس؟ أم هي إبنة هذا الشيخ الجهادي الذي له تطأطأ الرؤوس ويمتثل لأوامره الجميع خاصّة مع ارتدائه تلك العباءة الفضفاضة والعمامة المهيبة؟!

ثم تعود لتذكر تفاصيل مقر أمن الدولة وأشكال الديكور، وأماكن المكاتب، حتي أنها تحفظها عن ظهر قلب، فهذا هو (عمو أمين باشا) الذي يأتي بالحليب من الخارج أثناء احتجازها هي وأها بالأسابيع في إحدى المكاتب، وذاك (عمو محمد باشا) الذي تستأذنه لاستخدام المرحاض؛ وغالبًا ما كان يرفض طلبها عقابًا لها لأنها ابنة لذاك الرجل الشرير الذي يبحثون عنه دومًا، لم تكن تعلم من هو هذا الرجل الشرير حقًا، أهو هذا الضابط العسكري ؟ أم هو هذا الشيخ المتهم بالتخطيط لاغتيال الرئيس الأسبق، الذي يجلجل المحكمة منشدًا في حضرة سيادة  القاضي :

"ودّعتُ طعامًا وفراشا ومضيتُ أعدُّ الرَشاشا

وإذا ماصرتُ بهِ قُدُماً لن يفلت منهُ أبو باشا

يا حسنٌ إني مقدامٌ لا أخشي البيهَ ولا الباشا

العبرةُ كانت في (أنْور) قد كان كفورًا شّاشا" 

موجهًا رسالته ل (حسن أبو باشا) وزير الداخلية الأسبق، كلمات حِفظَتها في الصميم ولم تعرف معناها إلّا بعد أن كَبُرت، ومازالت حتى الآن تحتقر كل مايخص البدل العسكرية البغيضة وكل من يرتديها أيضًا.

تتذكر جيدا علامات التعذيب البدني على جسد أبيها، وتتذكر أيضًا قصص المعتقل جميعها لا تغفل منها واحدة حتى ألوان بالوعات المجاري التي كانت تدور حولها إلى أن ينتهي اليوم الذي لا تستوعب منه شيئًا. 

هي أيضا تضحك حتي الدموع حينما تتذكر زيارة هؤلاء الرجال ضخام البنية إلى سكنها الشخصي بعد أن بّت كما تتذكر أسئلتهم التي كانت غبية حد الضحك، حتى أن أذكاها على الإطلاق كان (لماذا تحاولين طباعة كتاب ستون عاما من الحصاد المر ولماذا تقرأين لأيمن الطواهري؟ )، إنه مجرد كتاب ياكابتن يستطيع قراءته كل من يريد .. ثم ما المشكلة هنا ياكابتن ؟ 

تضحك أيضا حينما تتذكر بأن أكثر ما أثار استياءها  ذاك اليوم هو دخولهم بأحذيتهم المتّسخة فوق سجاد منزلها النظيف، وإصرار ذاك الضابط الغبي على كونه (باشا) وليس (كابتن)كما تناديه هي، لأنه ليس مدربها في النادي على حد قوله.

أمّا هي.. وبعد سنواتٍ من التفكير والتثقف ومعاناتها الأمرين.. مازالت تلك الفتاة التي تحن إلى الرجال ذوي اللحى الشعثاء.. مازالت تألف أرواح الشباب أصحاب اللحى والميول الإسلامية في سن العشرينات فهم يذكرونها بشكل كبير بتلاميذ أبيها الذين كانوا يضحكون لها ضحكاتهم الصافية بوجوههم السمحة وهم يداعبون شعرها ويدعون الله متمنين أن تشب على كتاب الله وأن يستخدمها الله لنصرة الإسلام.. لا تزال تلك الفتاه تتمتم (أخي أنت حرٌّ وراء السدود) لأنها تشعرها بجذورها العميقة التي تحاول التخلص منها للأبد، تجاهد بصعوبة للتخلي عن كل هذه الآثار البغيضة في عقلها الباطن لكنها لم تستطع، تحاول نسيان ماضيها مرارًا وتكرارًا لكن عقلها الواسع يأبي النسيان.

تستفيق من نوبتي قلقِها وفزعها على صوت إشعار لرسالة جاءتها من صفيق ما من جماعة الإخوان المسلمين، ليحاضرها فيها عن كيف أنها ضلت طريق الحق وسلَكت طريق الضلال، وكيف أنه من المهم والعاجل أن تعود للبذلِ في سبيل القضية! 

البذل في سبيل القضية، حقاً؟ متى آخر مرة سمعت بهذا التعبير القميء؟ فلتذهب أنت أيها الشاب الصغير لتبذل في سبيل القضية كل ماتريده؛ فهنا فتاة بذلت في سبيل قضيتك ما لو اجتمعت أنت وعشرة رجال من جماعتك لبذله فلن تستطيعوا.

سامحني يا صديقي واسمح لي أن أناديك بهذا اللقب.. لا يوجد في السماء سبعون جميلة تنتظرنك إذا ما نلت الشهادة، لا يوجد حور عين ولا أنهار خمر معلقة في الفضاء.

سأشرح لك .. هناك مجموعتنا الشمسية بكواكبها تدور حول نجم الشمس الذي يوجد في مجرة درب التبانة التي يوجد مثلها ملايين وملايين المجرات والتي بدورها يوجد فيها ملايين وملايين النجوم يدور حول كل منها ملايين وملايين الكواكب؛ وصراحة لا أقدر على تخيل وجود جميلات أو أنهار المتعة في أي من هذا، نحن حقًا لا شئ في هذا الكوكب، هنا صديقي العزيز.. لا تعلم تلك الفتاة لماذا أتينا وأين سنذهب.. لكنها تعلم يقيناً أن الله ماخلق كل هؤلاء البشر ليقاتلون بعضهم بعضًا، كل منهم يقاتل لأجل إعلاء كلمة إلهِه الخاص.. كل تلك المشاهد الدموية البشعة التي لطالما طاردتها أينما كانت .. فقط للسطوة والقوة وإعلاء كلمة الله.

أَوتعلم أيضًا.. لو كان أباها رآك هكذا لأمرك أمرا لتوه بالقيام من على مقعدك المريح هذا وأمرا آخر بانتزاع ساعة يدك الثمينة وتعطيل هذا الجهاز اللوحي الغبي والكف عن رياءك الفج الوقح والتباهي بلغتك العربية الفصيحة السيئة حقًا، ولكان أيضا أمرك بالذهاب لساحة المعركة حيث يحارب الرجال لإعلاء كلمة الله هناك، ولَكنت امتثلت لأوامره جميعًا.

فلذهب ياصديقي لتُعلي كلمة الله، أو لترفع سيفك في وجه شخص ما يريد أن يعلي كلمة إلهه هو الآخر، ولكن أرجوك لتترك هذه الفتاة الصغيرة وشأنها مع روحها المتعبة.

لقد استبدلت هذه الفتاة الصغيرة كل مشاعر الغضب التي بداخلها إلى مشاعر حزن دفين يعتصر قلبها اعتصارا حتى أنها رغم كونها ساخطة غضوبة وسليطة اللسان بالقدر الذي جعل أحد شيوخكم الكرام يحل دمها يوما ما؛ إلا أنها ترغب بشدة في ضمك واحتضانك كثيراً لتنقل لك بعضاً من هدوء روحها واستكانتها، نحن مجرد تروس غبية ياصديقي في عالم غبي دموي لا يعرف الرأفة.

فليختر من يحب منكم ترساً مليئا بالسلام وليستكن بجواره، ولتدعوا من فر هارباً من هذه المهزلة وشأنه.. فهم قد عانوا بما يكفي ومازالت أرواحهم مرهقة، ومازالوا لم يتخلصوا من أثر كل تلك السموم.

ترى يا صديقي، إن هذه الفتاه ليست خاوية أيضاً.. تستطيع أن تسرد لك آثار هذه الدعابة الغبية غير المضحكة على الإطلاق.. تستطيع أن تحكي لك عن سنوات وسنوات قضتها في البحث والشك والرعب والتخفي .. تستطيع حتى إخبارك بألوان علب الدواء النفسي.. تستطيع أن تحكي لك عن نوبات القلق وعن نوبات الفزع.. فهذا هو دواء الاكتئاب وذاك هو دواء للعصبية، وآخر هناك للكوابيس الليلية ورابع هنا للقلق. 

فلتذهب صديقي أو لتأتِ وتنتحب معنا فكلنا ننتحب هنا، ولكن دع الأرواح المرهقة كما هي فأرواحنا في الواقع لم تعد تحتمل؛ توقيتك سئ للغاية، صديقي صاحب الدرب الصحيح.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك