فساد النظام.. ونظام الفساد

462

لعل التراجع المسمر في ترتيب مصر على مؤشر مدركات الفساد الذي يصدر سنويا عن منظمة الشفافية الدولية، يلفت الانتباه إلى الخلل الذي تعانيه نظم الحكم غير الديمقراطية وافتقار بنيتها إلى الشفافية وحرية تداول المعلومات وغياب مباديء المساءلة والمحاسبة بسبب العجز التشريعي عن تفعيل الوظيفة الرقابية للدولة، وهيمنة السلطة التنفيذية في أغلب الحالات على السلطة التشريعية.


بحسب "الشفافية الدولية"، تدهور وضع مصر على مؤشر الفساد درجتين في 2017، حيث سجلت 32 نقطة لتحتل بذلك المركز 117 من بين 180 دولة شملها المؤشر، مقابل 34 العام السابق في المركز 108، و36 نقطة في عام 2015، حيث كلما اقتربت رجة الدولة على المؤشر الذي يقيس مستويات النزاهة سنويا في مختلف دول العالم من الصفر، كلما دل ذلك على أن هذه الدولة أكثر فساداً وكلما اقتربت من 100 كلما عكس ذلك زيادة نزاهتها.


في الغالب، فإن المؤشرات الدولية التي ترصد ظاهرة الفساد في أي دولة تستند إلى عدة اعتبارات من بينها التداخل بين السلطتين التنفيذية والرقابية ومدى سطوة الأولى على الثانية، وأخرى تتعلق بالقوانين التي تستند إليها الدولة في حربها على الفساد وليس فقط بعدد الموقوفين. والوضع في مصر يتمثل في أن القوانين المتعلقة بمكاحة الفساد قاصرة وأخرى مقننة للفساد لم يتم إلغاؤها حتى الآن.

في تقرير ادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان "مكافحة الفساد: أطر دستورية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" عام 2014، استعرض كيف كان الفساد الكبير متغلغلاً في كل مفصل من مفاصل نظام الرئيس حسني مبارك قبل الثورة المصرية، حين أثبت الفريق الذي أعد التقرير الاستقصائي أن خصخصة مرافق الكهرباء والطرق والأنفاق والنقل العام ومشاريع عامة أخرى كانت إحدى أبرز قنوات الفساد في مصر. فقد اعتاد وزراء وأعضاء في البرلمان بيع هذه المشاريع والأصول لقاء مكاسب خاصة ودون أن تعود بالفائدة في ما يبدو على دافعي الضرائب على شكل انخفاض في التكاليف وتحسن في تقديم الخدمات.


من هذه الزاوية، وبسبب استمرار غياب الديمقراطية، وازدياد مستويات القمع والاستبداد، وتركز السلطة السياسية في يد مجموعة محدودة من القادة العسكريين، والعصف بقواعد الحكم الرشيد أبرزها ملاحقة الصحافة والتضييق عليها، ومنع تداول المعلومات، وتقييد سلطات الأجهزة الرقابية بعد تغيير القوانين المنظمة لعملها، والتدخل في عمل السلطة القضائية، وغيرها من مظاهر الافتئات على مبدأ الفصل بين السلطات، تحولت مصر من دولة كانت تشهد فسادا في النظام قبل الثورة، إلى دولة يديرها نظام متكامل للفساد بعدها.


والفساد في مصر نوعان، كبير وصغير، فالفساد الكبير هو ذلك النوع الذي يتركز ف مستويات السلطة العليا ويعرف بـ"الفساد السياسي"، وتتطلب مكافحته إرادة سياسية حقيقية للتغيير والإصلاح، بحسب تأكيد منظمة الشفافية الدولية، بينما النوع الصغير هو الذي يتركز في المستويات الدنيا لهرم السلطة ويعرف بـ"الفساد الإداري"، وتعود أسبابه بالأساس إلى عدم الاعتماد على معايير الخبرة والنزاهة والكفاءة والمحاباة في تعيين بعض الإدارات، وكذلك العيوب والثغرات التي تتسم بها النظم البيروقراطية. مكافحة هذا النوع من الفساد تتطلب تحديث النظم الإدارية أو ما يعرف بالحوكمة، والتحول من الدورة لمستندية التقليدية إلى الإليكترونية التي لا تسمح بالتلاعب، والبدء في اتاذ إجراءات طويلة الأجل لإنشاء مؤسسات شفافة وقابلة للمساءلة والمحاكمة، تسمح للمواطنين في المشاركة، وللمجتمع المدني بدور فعال في هذا المجال.


وصور الفساد التي تكشفها التقارير الرقابية في مصر، تتمحور غالبا حول المناقصات والعطاءات الحكومية، والعقود الحكومية مع شركات محلية أو خارجية في أي مجال استثماري "خصخصة، استثمار، نفط". المنح والمعونات الخارجية وإساءة استخدامها أو الفساد فيها من قبل مؤسسات محلية. أموال الجمعيات الخيرية والمؤٍسات الدينية من حيث مصادرها، استخدامها، خضوعها للشفافية، واستخدامها في غير ما صرحت له. المساعدات والدعم الحكومي والتلاع فيه. التلاعب في الميزانيات للمؤسسات الحكومية مثل ادعاء الربح بينما تكون المؤسسة خاسرة، خسائر متراكمة غير مبررة، نفقات مستترة غير مبررة، نفقات على المدير وحاشيته، إلخ. مشاريع حكومية متعثرة منذ سنوات، والكشف عن أسباب تعثرها وما تسببت به من خسائر لخزينة الدولة ولدافعي الضرائب. مصاريف المسؤولين، النواب، سياراتهم، سفراتهم، عائلاتهم من المال العام. إقرارات الذمة المالية للمسؤولين والنواب. التهرب الضريبي وخفاياه من قبل الشركات الخاصة. التهرب الضريبي من قبل الشركات والمؤسسات الحكومية. شاكات مسؤولين وأقارب مسؤولين مع مستثمرين محليين وعرب وأجانب في مشاريع استثمارية كبرى. تعاون شركات ومستثمرين عبر الحدود لاحتكار منتجات أو التحكم بالأسعار أو اختراق قوانين. دور بعض البنوك والشركات عبر الحدود للالتفاف على قوانين العقوبات الدولية والمحلية بحق أشخاص أو مؤسسات أو دول. علاقة أعضاء في مجلس النواب بشركات تربح عطاءات في مجال محدد. استخدام النفوذ لتملك أراض وعقارات من الأملاك العامة أو الخاصة. استخدام النفوذ للحصول على تراخيص استثمارية وبيعها أو استخدامها. إلى غير ذلك من أوجه الفساد التي تحظى بتعتيم حكومي مشدد، وبحصانة قوية ضد مساءلة الرقابة الرسمي بعد تأميم الأجهزة الرقابية الرسمية وتعديل قوانينها لضمان الولاء، وضد محاسبة الرقابة الشعبية بعد إخضاع الصحافة والإعلام، حتى أن بعض القوانين كحرية تداول المعلومات وقانون حماية الشهود والمبلغين تعطلت بفعلٍ أمني، في الوقت الذي يشهد على الجانب الآخر وجود قوانين مقننة للفساد، مثل قانوني البنك المركزي والأجهزة الرقابية، والتي تسمح للسلطة التنفيذية بالتدخل في أعمال الرقابة الحقيقية بتعيين رؤساء تلك الأجهزة.


في دراسة وُصفت بالمهمة بعنوان "السيطرة على الفساد" نشرتها جامعة كاليفورنيا، أثبت الخبير المالي روبرت كليجارد، أن (سلطة تقديرية - مساءلة = فساد) فإن الدراسة التي نشرتها جامعة كاليفورنيا تشير إلى أن الفساد بشقيه الكبير والصغير هو أحد أكبر معيقات التنمية والتقدم وسبباً لتفشي الجرائم، ويخلق بيئة صالحة للانحرافات، فالفساد الكبير يمثل سرقة واضحة وإهدار لثروات الأمم، ويطرد الاستثمار ويهدد سمعة البلد، وخطورته تكمن في تشويه منظومة القيم بما يؤسس لبدء الانهيار المجتمعي العام، والفساد الصغير يهدد بنية المجتمع ويفسخ نسيجه الداخلي، ويقوض أمنه الاجتماعي وينزع ثقة المواطنين بالدولة وأجهزتها، وخطورته تكمن في احتمالية تحوله إلى ثقافة مجتمعية، وسلوك يومي عادي مقبول شعبيا.

إن كان الشرط الرئيسي في مكافحة افساد الكبير هو توافر الإرادة السياسية، والشرط الرئيسي في في مكافحة الفساد الغير هو التحديث والحوكمة، فالشرطان غائبان أو مغيبان في وجود السلطة الحالية، ما يجعل الحديث عن مكافحة الفساد في مصر نوعاً من التدليس، حتى مع وجود عدد من ضبطيات جهاز الرقابة الإدارية هنا أو هناك التي تتم فقط لتلبية أحد اشتراطات صندوق النقد الدولي بضرورة اجتهاد الحكومة في مكافحة الفساد.



تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك