جارنا السعيد

397

دائمًا كنت أراقبه من بعيد، أتلصص عليه من نافذة غرفتي، أشر مع تعابير وجهه، أتتبع حركته البطيئة وخطواته المتزنة وهو يؤدي مهمته.. لي ابن الجيران ولا فتى أحلامي الخيالي، فونيسي يشاركني وسادتي الآن، بل هو رجل المستحيل بالنسبة لي "جارنا السعيد" كما أسميته وخيل لي ذلك، جارنا الخمسيني الذي جعلني أعرف معنى أن نتقاسم الحياة سويًا ونشارك بعضنا حتى نجابه ما تفعله بنا الأيام وظروف العيش.

يقف هذا السعيد بدأب يحمل قطع الملابس المبللة ويضعها على حبل الغسيل لا بل يرصها رصًا بعد أن يصنفها، فالقصير أولًا ثم الأطول وهكذا، في لوحة فنية يمزج فيها ألوان المشابك البلاستيكية فكل قطعة ملابس يمسكها مشبكان يحملان نفس اللون ويصبح الصف بأكمله بنفس اللون أيضًا، والذي يليه بلون آخر، لم يكل يومًا، فيضع الجوارب الرجالي في جانب أما عن جوارب زوجته "الفوال" الرقيقة فيجمعها ويضع فوقها قطعة من القماش خوفًا من أن يتلفها المشبك الغادر.

صدفة جعلتني أرى ذلك المشهد السريالي تناسيت ضيقي وقتها، وشردت معه، ليس أول من أراه يساعد زوجته، فأبي حفظه الله يساعد والدتي عن طيب خاطر ويخفف عنها بعض أعمال المنزل الثقيلة بعد رجوعه من السفر وأثناء فترة إجازته، ولكن لم أر قط أحدًا بمثل ذلك الهدوء والاهتمام يتفنن في نشر الملابس التي طالما وضعتها دون أي ترتيب ما يقع في يدى أضعه على الحبل دون اكتراث.

وددت لو أرى تلك المرأة السعيدة التي وهبها الله هذا السعيد، فكلما وقفت في النافذة أنتظر أن تظهر تلك المرأة التي يخشى زوجها على "شرابتها الفوال"، بعد حوالي أسبوع رأيتها تقف بجانبه، حقًا شديدة البهاء ترتدي عباءة حمراء ذات نقوش وشعرها المفعم بالسواد منسدل حتى كتفيها تتحدث في الهاتف غير عابئة بذلك الرجل المنشغل في عمله، تطلق ضحكاتها في الهواء وهي تتحدث في الهاتف وأنا أشتد غيظًا، أغلقت النافذة وأنا محملة بخيبة الأمل وقررت أن أتناسى هذا الذى أطلقت عليه "السعيد".

كلما وفقت في النافذة أتحاشى النظر إلى شرفته وإلى ذلك الحبل المنمق أكثر من هيئتي وأنا ذاهبة لمقابلة رسمية، لم أفكر في سبب انشغالي باللابس صاحبة ذلك النصيب من الرعاية والاهتمام وجعلتني أرسم قصة وحبكة ودراما لهذا الجار  وزوجته، ذات الرداء الأحمر صاحبة الطلة البهية و"الشربات الفوال".

بعد محاولة تجاهلي لتلك القصة الافتراضية لمحت حبل الغسيل وقد تبدل حاله، القصير بجانب الطويل، والأبيض وسط الألوان، حتى "الشربات الفوال" وجدتها مسكينة موضوعه على حافه السور بدون قطعة قماش ولا مشابك ملونة، فسرعان ما تجدد اهتمامي وفضولي، أين ذهب الجار؟ هل أصابه ضرر أم رتابة الحياه جعلته يفقد اهتمامه ؟

بينما أنا شاردة مع افتراضاتي ظهرت ذات الرداء الأحمر بنفس بهاء وطلة المرة الأوى، وبعد عدة ثوان سمعتها تنادي على "سميحة" قائلة بضيق "الغسيل بقاله يومين على الحبل.. يا ريتك شوفتي عم محمد الله يرحمه بيعمل إيه مع الغسيل كأنه حد من عياله"، لم أسمع باقي الحديث، اكتفيت بقرأة الفاتحة على روح ذلك الرجل الذي وددت أن يكون جاري في الحقيقة.

هكذا نفعل دومًا نطلق لخيالنا العنان ونتخيل ونفترض قصصًا غير موجودة في الواقع، ربما لخيالنا الجامح وأحلام اليقظة التي تسيطر علينا وتجعلنا نتمنى الخيال حقيقة، صورة على "الفيسبوك"، تجعلنا نطلق الأحكام لى صاحبها، ضحكة عابرة التقتطها عدسة صغيرة جعلت البعض يتخيل النعيم الذي ييا فيه "أبو ضحكة جنان"، وفي الحقيقة هو غارق في الديون يعيش أتعس أيام حياته ولكنه قرر في لحظة أن يبتسم، ربما لنكتة أطلقها أحدهم أو محاولة منه للتناسي.

في غفلة، وجدتني أفكر في "عم محمد" ليس الجار السعيد، لكن الرجل صاحب أوسكار أحلى حبل غسيل.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك