التغريبة المصرية وحكم العسكر

407

بدأ المصريون في أوائل عام ٢٠١٤ رحلات فردية وجماعية لشتى دول العام والمتاح دخولها لحاملي الباسبور المصري أو عن طريق الفيزا، بغرض الهرب من الواقع السياسي والاجتماعي وأخيرًا الاقتصادي. 

ونحن في هذا المقال نتناول فئة محددة وخاصة جدا من التغريبة المصرية، والتي "إن جاز القول" تلك التي هربت من الواقع السياسي، كدافع أساسي ومن بعده الواقع الاجتماعي.

في نهايات عام ٢٠١٣، فاضت اأحداث بكل ما يمكن أن يكون عنيفا ودمويا وقاتلا إلى أقصى مدى، بعد أن بدأت بثورة وانفلات أمني طال أمده، تخلله انتخابات واضطرابات داخلية هي الأسرع، انتهت بانقلاب عسكري، ثم مذبحة ومطاردة لقطاع واسع لكل من مارس العمل السياسي يوما ما، يمكنك بسهولة أن تقسم وجهات الهروب تقسيمًا إيديولجيا، أو بالأحرى تقسيما سياسيا حسب التمويل.

قطر كانت وجهة أولى للهاربين من قيادات الإخوان والعاملين بالقطاعات الإعلامية في الجماعة والأحزاب والحركات السياسية، تركيا كانت وجهة القيادات وأبناء القيادات والمقربين الذين يمكنك القول عنهم أنهم ميسوري الحال، ليس من الجماعة فقط لكن من كل ألوان الطيف السياسي المُطارد،"السودان" إن كان للتغريبة المصرية ملهاة فلن تكون إلا السودان، فعادة لا أحد يذهب إلى هناك إلا بالتهريب عبر الصحراء ليواجه هناك نظام التوطين الخاص بالإخوان، هذا إن مر عبر قنوات التوثيق والقبول ليصبح عضوًا في الثكنات التابعة للجماعة، وليبقى لديه أن ينجو من أفخاخ التنظيمات الإسلامية، التي تتلبس في زي المخابرات والأجهزة الأمنية أو العكس لا أحد يدري. 

أو بين مواجهة خطر الترحيل أو التعرض للاضطهاد من الأمن الداخلي أو حتى النبذ والاستغلال من قيادات الجماعة، يقال عن رابعة نجا من مات، وأقول عن السودان نجا من لم يذهب، يتبقى لكثيري الحظ والمدعومين أحيانا والممولين كثيرا خيارا براقة كأوروبا وكندا وأمريكا، وهؤلاء عادة يعملون في المجال الحقوقي أو الحزبي، أو مقربون ممن يعملون في المجال الحقوقي أو الحزبي، حيث تمتلأ بهم طرقات فرنسا وأسبانيا ونيويورك ومونتريال وغيرها، أما البقية فمنثورون في روسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا وجورجيا وبقية البلاد.

عن نقاشات يخوضها مجتمع التغريبة المصرية تتعلق بالزواج والتعليم والاستقرار وبناء تيار معارضة خارجي وبالطبع حلم العودة، أثار أحد الأصدقاء ذات مرة قضية بشأن التغريبة المصرية تتعلق بكونهم شباب وقد حان وقت عيهم للزواج،  وقد تقرر بعد خوض نقاش أن المتاح أمامهم أما زواجًا من غير صري/مصرية وهو طريق منتهاه أن تحصل على جنسية أجنبية وتنسى مصر إلى الأبد، أو الزواج من ذات الفصيل السياسي،لأنه لا صلة ولا قبول منتظر من عوام الشعب لسياسي/ة لمسجل أمنيا مطارد ومنفي خارج مصر

تلك مسألة تبث في نفوس الكثيرين كما هائلا من الإحباط لا يكاد يماثله إلا الإحباط المتولد عند شباب التغريبة الصغار ممن لم يكملوا تعليمهم، والمتفرقون بين السعي وراء المنح في مفترق الجامعات حول العالم وبين جامعي التبرعات لمحاولة استرجاع مسار التعلم مرة أخرى، وبين من استسلموا لانعدام الأم، وقرروا أنه لا مفر فكل شئ تهدم.

الطعام يأتي على رأس القائة دوما فكما يقول المثل الهولندي تتعالى الضحكات عند حضور الطعام، فإن أعضاء التغريبة المصرية لا يشعرون نسيم الوطن ولا حنينا يشوب قلوبهم إلى بيوت أمهاتهم وذكريات صباهم إلا عند حضور الطعام المصري المسبك، أما مشكلات مثل الحصول على المكونات غالية السعر نادرة التواجد رديئة الجودة تبقى مشكلات ثانوية، مقارنة مع ما يمكن أن تصنعه وجبة جيدة بقلوب المطاردين وإن اختلفوا سياسيا يتفقون على الطعام.

جرت محاولات كثيرة لبناء كيان، يمكنه أن يعبر عن هموم وتطلعات وأهداف التغريبة المصري المنفية لأسباب سياسية، والتي تتشارك همًا واحدًا مداره هو تجربة التحول الدمقراطي/اللاديمقراطي التي حدثت وتحدث في مصر منذ ٧ أعوام، بالطبع تواجه التغريبة ما تواجهه المعارضة المصرية، من التناحر وغياب الرؤية والإرادة ووحدة الهدف، وفوق ذلك كله بعد المسافات والتفرق عبر البلدان وصعوبة القدرة على التواصل والتكلفة العالية لإقامة وتمويل أي محاولات لقاء، تثقيف، تنظيم أي حدث من أي نوع، اللهم إلا تنظيم الأخوان الذي احتفظ بشبكة تواصل بين أعضائه لم تخل دوما من انفراط عقد وحتى انشقاقات بالجملة.


يبقى أخيرًا حلم العودة يراود جل أعضاء التغريبة المصرية، فيما يشبه حلم العودة الفلسطيني غير أن المصريين يواجهون العسكر لا احتلالا خارجيا، ما يعني أن حلم العودة هنا ترافقه الكثير من التحليلات والترقب للواقع المصري وبخاصة الشأن الداخلي للمجتمع العسكري، وهو المنوط به إدارة عجلة الحكم في البلاد وهذا كله مغلف بآمال عريضة بأنه ذات يوم سيستطيع الجميع العودة دون خوف أو رجاء، فيما يمكن أن يسمى فعلا تجربة تحول ديمقراطي حقيقية.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك