close

غاز إسرائيل في مصر.. الصفقة الأضخم منذ عقود

في السابع من أغسطس الجاري، أعلنت تل أبيب عن إبرام “أكبر صفقة غاز في تاريخها” مع القاهرة، بقيمة 35 مليار دولار، لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي حتى عام 2040
Picture of سلمى مراد

سلمى مراد

في السابع من أغسطس الجاري، أعلنت تل أبيب عن إبرام “أكبر صفقة غاز في تاريخها” مع القاهرة، بقيمة 35 مليار دولار، لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي حتى عام 2040، أو حتى استيفاء الكميات المنصوص عليها في العقد، وفق ما كشفه وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين.

الصفقة، التي وُقّعت بين شركات إسرائيلية أبرزها “نيو ميد”، الشريكة في حقل ليفياثان العملاق، والجانب المصري، لا تمثل مجرد اتفاق اقتصادي، بل تُعيد رسم خريطة الاعتماد المتبادل بين دولتين ترتبطان بعلاقات سياسية معقدة وذاكرة شعبية متوترة، فهي تضاعف ثلاث مرات حجم التصدير الذي بدأ عام 2019 (60 مليار متر مكعب آنذاك)، ما يجعل مصر الوجهة الأكبر للغاز الإسرائيلي في المنطقة.

وزير الطاقة الإسرائيلي لم يُخفِ دلالات الصفقة، واعتبرها “خبرًا هامًا من الناحية الأمنية والسياسية، كما هو من الناحية الاقتصادية”، مؤكّدًا أنها ترسخ مكانة بلاده كـ”قوة إقليمية رائدة في مجال الطاقة يعتمد عليها جيرانها ويحتاجون إليها”. وبحسب قوله، ستجلب الصفقة مليارات الدولارات إلى خزينة إسرائيل، وتوفر فرص عمل، وتُعزز اقتصادها.

ورغم الصمت الرسمي في القاهرة، تقول وكالة “رويترز” إن هذه الاتفاقية قد تُخفف من أزمة الطاقة التي تواجهها مصر منذ عامين، والتي دفعتها لإنفاق مليارات الدولارات على استيراد الغاز الطبيعي المسال، بعد أن تراجعت إمداداتها المحلية عن تلبية الطلب. وتمثل ميزة إضافية لتل أبيب، كون الغاز يُضخ عبر خطوط أنابيب، ما يجعله أقل تكلفة بكثير من الغاز الطبيعي المسال، الذي يتطلب تبريدًا فائقًا وشحنًا بحريًا قبل إعادة تحويله إلى غاز.

 

نوصي للقراءة: غاز مصر في إسرائيل: تصديرٌ منخفض التكلفة واستيرادٌ مرتفع يُقيّد الإنتاج المحلي

 تناقض الموقف المصري

يتزامن توقيت الصفقة مع بلوغ التوترات السياسية والأمنية بين القاهرة وتل أبيب ذروتها، فالحرب المستمرة في غزة منذ أكتوبر 2023 وضعت العلاقات على المحك، إذ اتخذت مصر موقفًا معلنًا يرفض التهجير القسري لسكان القطاع ويحذر من أي عمليات عسكرية إسرائيلية على الحدود مع سيناء. وترافقت هذه المواقف مع ضغوط شعبية وإعلامية واسعة في الداخل المصري تطالب بقطع أو تجميد أي أشكال للتعاون مع إسرائيل، خاصة في الملفات الاقتصادية.

ورغم وجود اتفاقية السلام الموقعة عام 1979، فإن العلاقات ظلت محكومة بسقف منخفض من الانفتاح، وغالبًا ما يتم حصر التعاون في قضايا أمن الحدود وتبادل المعلومات بشأن مكافحة الإرهاب في سيناء، أما التعاون الاقتصادي، فكان يتم بصمت نسبي، مع تجنب الإعلان عن تفاصيله على نطاق واسع لتفادي ردود الفعل الشعبية.

لكن الصفقة الأخيرة، بحجمها القياسي وقيمتها البالغة 35 مليار دولار، قلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب، إذ وُقعت في وقت لم تخفِ فيه مصر انتقاداتها للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ولم تخفِ إسرائيل استياءها من مواقف القاهرة في بعض الملفات الإقليمية، هذا التزامن ألقى بظلال ثقيلة على الاتفاق، وجعل منه عنوانًا للتناقض بين الخطاب السياسي الحذر والواقع الاقتصادي البراغماتي، حيث تلتقي مصالح الطاقة على أرضية واحدة رغم الخلافات السياسية العميقة، وفق مراقبين.

 

ما نعرفه عن الاتفاق

في أواخر يوليو 2025، نشرت وسائل إعلام اقتصادية إسرائيلية، من بينها “غلوبس” و”ذا ماركر”، معلومات تفيد بأن وزارة الطاقة الإسرائيلية وافقت على تعديل بنود تصدير الغاز لشركة “ديليك” وشركائها، بما يسمح بزيادة الكميات الموردة إلى مصر عبر خط أنابيب “EMG” الذي يربط بين عسقلان والعريش.

وبحسب المصادر ذاتها، فإن الاتفاق يهدف إلى تعويض الانخفاض الحاد في الإنتاج المحلي المصري من الغاز، الذي تأثر منذ منتصف 2023 بسبب التراجع في إنتاج حقل “ظهر”، أكبر حقول الغاز المصرية، وانخفاض الاستثمارات الجديدة في قطاع الطاقة بسبب الأزمة الاقتصادية. وتشير التقديرات إلى أن مصر خسرت ما يقارب 25% من طاقتها الإنتاجية خلال العامين الأخيرين، مما تسبب في عجز داخلي اضطر الحكومة إلى قطع الكهرباء في بعض المناطق خلال صيف 2024، وهو ما أثار استياءً شعبيًا واسعًا.

في المقابل، لم تُعلن الحكومة المصرية رسميًا عن تفاصيل الاتفاق، ولم تُنشر أية بيانات من وزارة البترول المصرية أو من الشركة القابضة للغاز الطبيعي (إيجاس) حتى لحظة كتابة هذا التقرير، ورغم تداول الخبر في وسائل إعلام عالمية، فإن الصمت الرسمي في القاهرة كان لافتًا، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات الإقليمية والحرب المستمرة في غزة.

من جهتها، أكدت شركة “نيو ميد إنرجي” (ديليك سابقًا) أن الاتفاق مع مصر يتضمن “توسيع التصدير من حقول ليفياثان وتمار”، ويُتوقع أن تبلغ الكمية الإضافية نحو 3 إلى 4 مليارات متر مكعب سنويًا، يتم توريدها على مدى عدة سنوات. وتُشير التقديرات إلى أن قيمة الصفقة قد تتجاوز مليار دولار، حسب الأسعار العالمية الحالية، لكن دون أي إعلان رسمي عن سعر البيع أو شروط السداد.

وتأتي هذه الاتفاقية في وقت حساس أيضًا بالنسبة لإسرائيل، التي تسعى للحفاظ على صادراتها من الغاز كأداة استراتيجية في علاقاتها الإقليمية، خصوصًا مع حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط، وتشير بعض التحليلات الإسرائيلية إلى أن القاهرة تُعد شريكًا رئيسيًا في هذه الاستراتيجية، كونها تملك البنية التحتية اللازمة لتسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا، عبر محطتي إدكو ودمياط.

من المستفيد؟

تقول سارة كيرة، -مديرة المركز الأوروبي الشمال إفريقي للأبحاث-، في تصريحات خاصة لزاوية ثالثة، إن الدولة المصرية تتعامل مع ملف الغاز بمنظور براغماتي بحت، يضع مصلحة الدولة والشعب أولًا وأخيرًا، مشيرة إلى أن الاتفاقيات المبرمة مع الجانب الإسرائيلي أثارت تساؤلات عدة داخل الشارع المصري حول طبيعة وحجم التعاون في هذا الملف.

وتوضح سارة أن مصر عملت بشكل مدروس على ترسيم حدودها البحرية في المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة بالمتوسط، وذلك لضمان الاستفادة القصوى من الاكتشافات الغازية ضمن إطار القانون الدولي، خاصة بعد تنامي الاكتشافات في الحقول الإقليمية مثل “تمار” و”ليفياثان” في إسرائيل، و”ظُهر” في مصر.

وتضيف في حديثها معنا: “رسمت مصر خططها التنموية بناءً على مستقبل توريد الغاز، ليس فقط من أراضيها، بل أيضًا من المنطقة ككل، لا سيما من الدول الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)، الذي تأسس لتنسيق التعاون في قطاع الغاز، وتشارك فيه إسرائيل، قبرص، اليونان، إيطاليا، فرنسا، الأردن، وفلسطين، إلى جانب مصر التي تحتضن مقره الرئيسي في القاهرة.”

وتتابع: “هذا التنسيق الإقليمي أتاح لمصر إعادة تشغيل خطوط الغاز ومرافق التسييل، مما عزز قدرتها على استيراد الغاز وتسييله ثم إعادة تصديره إلى أوروبا، وهو ما ساهم في زيادة الدخل بالعملة الأجنبية ودعم الاقتصاد الوطني بشكل كبير.”

وفيما يتعلق بالاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي، تؤكد سارة أن التعاون في هذا الملف ليس وليد اللحظة، بل بدأ منذ سنوات، موضحة: “في عام 2022، وقّعت مصر مذكرات تفاهم تتيح مرور الغاز الإسرائيلي عبر محطات التسييل المصرية لتصديره إلى الاتحاد الأوروبي، وقد توسعت هذه الاتفاقيات لاحقًا، حتى تم الإعلان في أغسطس 2025 عن اتفاق توسعة ضخم بين مصر وشركاء حقل ليفياثان بقيمة تقارب 35 مليار دولار.”

وتشير كيرة إلى أن هذا الاتفاق الأخير يهدف إلى تزويد مصر بكميات متزايدة من الغاز خلال العقود المقبلة، بدءًا من نحو 4.5 مليار متر مكعب سنويًا وصولًا إلى نحو 12 مليار متر مكعب بحلول عام 2029، وفقًا لما أعلنه الجانب الإسرائيلي.

وترى كيرة أن هذه الاتفاقيات ساهمت في إنشاء ممرات تقنية متكاملة تشمل خطوط أنابيب ومرافق تسييل، مما جعل شرق المتوسط أكثر ترابطًا من الناحية الطاقية، لكنه في الوقت ذاته زاد من حساسية هذه الشراكات تجاه التغيرات السياسية والأمنية.

وتوضح: “كلا الجانبين، المصري والإسرائيلي، يستفيد من هذه الاتفاقيات. فمصر نجحت في تحييد أي خلافات محتملة على الغاز من خلال ترسيم الحدود البحرية بشكل مسبق مع إسرائيل، وإلزامها بآليات منتدى غاز شرق المتوسط، وهو ما يجري تحت أعين أوروبا.”

وتتابع: “كما تستفيد مصر من سعة محطات التسييل الموجودة لديها، والتي تتيح لها تحويل الغاز المستورد إلى غاز مسال (LNG) أو إعادة حقنه ومعالجته ثم تصديره إلى أوروبا، وهو ما ينعكس إيجابًا على الاستثمارات في البنية التحتية وعلى القدرات التشغيلية، فضلًا عن مساهمته في رفع كفاءة قطاع الطاقة المصري.”

وتكمل: “أما بالنسبة لإسرائيل، فهي تستفيد من هذه الشراكة في تصريف إنتاجها من حقلي ليفياثان وتمار إلى سوق إقليمي واسع، بالإضافة إلى فتح منافذ تصدير جديدة عبر المرافق المصرية، خصوصًا إلى أوروبا، دون الحاجة إلى بناء بنية تحتية جديدة على أراضيها.”

وختمت كيرة بالقول: “التعاون مع الجانب الإسرائيلي يمنح مصر ميزة إضافية، تتمثل في الحصول على الغاز بأسعار أقل من الأسعار العالمية، ثم معالجته وتسييله وإعادة تصديره بهامش ربح كبير، ما يعزز تدفق العملة الصعبة إلى السوق المصرية، ويدعم استقرار الاقتصاد الوطني في واحدة من أهم الملفات الاستراتيجية في الوقت الراهن.”

 

نوصي للقراءة: توتر متصاعد: ما حدود التصعيد المحتمل بين مصر والاحتلال الإسرائيلي؟

جريمة بحق الوطن

من جانبه يصف -الخبير الاقتصادي ورئيس مجلس أمناء حزب التحالف الشعبي-، زهدي الشامي الصفقة بأنها “كارثة استراتيجية جديدة” و”تكبيل طويل الأمد لقرار مصر في مجال الطاقة”، معتبرًا أنها تمثل استمرارًا لسياسات خاطئة أدت إلى وضع البلاد تحت رحمة الغاز الإسرائيلي.

ويقول الشامي في تصريحات خاصة مع زاوية ثالثة إن السلطة الحاكمة كان يفترض بها أن تتعلم من أخطائها السابقة، حين وقّعت قبل سنوات صفقة لاستيراد الغاز من إسرائيل بقيمة 15 مليار دولار، ثم تم رفعها لاحقًا إلى 20 مليار، بدلاً من الاستثمار في تطوير حقول الغاز المصرية وتحقيق الاكتفاء الذاتي. موضحًا أن: “المفارقة أن هذه الحقول الإسرائيلية، التي نصدر منها اليوم، تقع جغرافيًا أقرب إلى المياه المصرية، وهناك شكوك مشروعة بأنها تحتوي على غاز مصري تمت السيطرة عليه بفعل غياب الحسم في ترسيم الحدود البحرية في وقت مبكر”.

ويشير الشامي إلى أن السلطات حينها روجت للرأي العام بأن استيراد الغاز الإسرائيلي كان بهدف تسييله في محطات إدكو ودمياط وإعادة تصديره، لتربح مصر من فارق الأسعار، “لكن الحقيقة التي عاشها السوق والمواطنون هي أن تلك الكميات ذهبت في معظمها للاستهلاك المحلي، لتعويض العجز في الإنتاج، بينما تم تصوير الأمر إعلاميًا وكأنه إنجاز اقتصادي”، على حد تعبيره.

وينتقد الشامي ما وصفه بـ”التناقض الصارخ” في السياسات، موضحًا أن اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي يقيد قدرتها على اتخاذ مواقف حازمة تجاه ما سماه “العدوان والبلطجة الإسرائيلية”، حيث يمكن لإسرائيل استخدام هذا الاعتماد كورقة ضغط سياسية واقتصادية في أوقات الأزمات. ويضيف: “بدلاً من أن تخطط الحكومة لإنهاء هذا الوضع المهين وإصلاح سياساتها في مجال الطاقة، نجدها اليوم توسع نطاق الاعتماد على نفس المصدر، وبصفقة أكبر بكثير، لتصل إلى 35 مليار دولار وتمتد حتى 2040″، معتبرًا أن ذلك “يرهن جزءًا من الأمن القومي المصري لاعتبارات السوق الإسرائيلية”.

ويعتبر الخبير الاقتصادي أن هذه الخطوة ليست مجرد اتفاق تجاري، بل “إعادة صياغة لعلاقات القوة بين القاهرة وتل أبيب على أسس تجعل الأخيرة شريكًا إجباريًا في معادلة الطاقة المصرية”. ووجه تساؤلات حادة: “ما معنى أن نربط احتياجاتنا من الطاقة بمصدر واحد في دولة تحتل أرضًا عربية وتخوض حربًا مستمرة على حدودنا؟ وأي منطق يجعلنا نضاعف الاعتماد بدل أن نبحث عن بدائل؟”

ويقول: “إن ما يحدث ليس مجرد خطأ في التقدير، بل جريمة كبرى بحق مصر وأمنها القومي، لأنها تضعنا في وضع التابع لا الشريك، وتلزمنا بسياسات قد تتعارض يومًا مع مصالحنا الوطنية. إنه عبث سياسي واقتصادي سيدفع المصريون ثمنه لعقود قادمة”.

 

نوصي للقراءة: الاقتصاد يتجاوز السياسة: نمو غير مسبوق في التجارة بين القاهرة وتل أبيب

 

 كيف تبدلت خريطة الغاز في شرق المتوسط؟

قبل أقل من عقد، كانت مصر تُبشَّر بأنها على وشك أن تصبح قوة إقليمية صاعدة في مجال الطاقة، بعد اكتشاف حقل “ظهر” العملاق في عام 2015، والذي وُصف وقتها بأنه “تحول استراتيجي” في مستقبل البلاد الاقتصادي. ومع بداية الإنتاج في أواخر 2017، اتجهت القاهرة إلى تصدير الفوائض، وعقدت سلسلة من الاتفاقات لتسييل الغاز لصالح دول الجوار، بما في ذلك إسرائيل، التي رأت في البنية التحتية المصرية فرصة ثمينة لتجاوز عوائق التصدير.

لكن هذا المشهد بدأ في التبدل تدريجيًا مع تعقيدات الداخل وتغير معادلة الطاقة إقليميًا. بحلول 2023، بدأ إنتاج “ظهر” في التراجع، نتيجة ما وصفته تقارير فنية بنقص في الضخّ وانخفاض معدلات الاكتشافات الجديدة، مقابل ارتفاع في الطلب المحلي بسبب الزيادة السكانية ونمو الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. في المقابل، كانت إسرائيل تُسرّع خطواتها في تطوير حقولها البحرية، خاصة “ليفياثان” و”تمار”، اللذين أصبحا معًا مركز الثقل في خارطة الغاز الإسرائيلي.

ومع اتفاق 2018 بين شركة “ديليك” الإسرائيلية وشركة “دولفينوس” المصرية الخاصة، بدأت مصر في استيراد الغاز من إسرائيل بهدف إعادة تسييله وتصديره لأوروبا. في حينها، رُوّج للصفقة باعتبارها جزءًا من استراتيجية تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، لكن الواقع أن بعض الكميات كانت تُستخدم لتغطية العجز المحلي، في وقت كان فيه الحديث الرسمي يُركّز فقط على التصدير والربحية.

اليوم، ومع اشتداد أزمة الطاقة داخليًا في مصر، وظهور مؤشرات على انكماش إيرادات التصدير، أعاد الاتفاق الأخير تسليط الضوء على مفارقة لافتة: مصر، التي كانت من أوائل دول المنطقة اكتشافًا للغاز، تجد نفسها مضطرة للاعتماد على الغاز الإسرائيلي لتأمين احتياجاتها الأساسية. أما إسرائيل، فتحولت من مشترٍ للغاز المصري في العقد الماضي إلى المصدر الأساسي له الآن، في قلب علاقة اقتصادية معقّدة تتجاوز الاقتصاد لتدخل في عمق توازنات القوة والسياسة في شرق المتوسط.

تشير الأرقام إلى أن الغاز الطبيعي الإسرائيلي يمثل العمود الفقري لصادرات إسرائيل إلى مصر، بلغت صادرات غاز البترول وحدها 2.13 مليار دولار في عام 2023، ما يعادل 95% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى مصر. وتُعد هذه النسبة انعكاسًا لاعتماد مصر المتزايد على الغاز الإسرائيلي، خاصة في ظل التراجع الملحوظ في الإنتاج المحلي. فقد انخفض إنتاج مصر من الغاز بنسبة 15% بين يناير ويوليو 2024، ما دفع القاهرة إلى تكثيف وارداتها، التي بلغت 4.84 مليار متر مكعب خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بـ4.24 مليار متر مكعب في نفس الفترة من العام السابق.

ويصل حجم إنتاج مصر من الغاز إلى نحو 5 مليارات قدم مكعب حالياً، وتستورد من إسرائيل نحو مليار قدم مكعب يوميا، في حين يتراوح الاستهلاك بين 6.7 إلى 6.8 مليار قدم مكعب يوميا. هذا الاعتماد يتجاوز، وفق مراقبون الجانب الاقتصادي، ليطال الجوانب الاستراتيجية والأمنية، حيث أن صفقة الغاز الموقعة في 2020 بقيمة 15 مليار دولار مع شركات مثل “ديليك دريلينج” و”شيفرون” لم تكن مجرد صفقة طاقة بل جزء من مسار إقليمي أوسع لتعزيز التعاون بين تل أبيب وعدة عواصم عربية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن شهدت مصر تراجعًا ملحوظًا في إنتاجها المحلي من الغاز الطبيعي خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، حيث انخفض الإنتاج إلى نحو 30.19 مليار متر مكعب مقارنة بـ35.5 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها من عام 2023، بنسبة تراجع تقارب 15%. يرجع هذا الانخفاض بشكل رئيسي إلى استنزاف الحقول البحرية الكبرى مثل حقل “ظهر” و”زهر”، إضافة إلى تباطؤ عمليات التنقيب عن حقول جديدة وتأخر مشروعات التطوير المخطط لها، مثل حقل “ريفين”، والتي من المتوقع أن تدخل الخدمة بعد عام 2025.

أظهرت بيانات أكثر تفصيلًا تراجعًا سنويًا في إنتاج الغاز بنسبة 17%، حيث انخفض من 59.29 مليار متر مكعب عام 2023 إلى 49.37 مليار متر مكعب عام 2024. وبلغ التراجع في حوض البحر المتوسط وحده، الذي يمثل 72.8% من الإنتاج المصري، نحو 18%، مما أثر بشكل مباشر على قدرة مصر على تلبية الطلب المحلي. إذ يحتاج السوق المحلي 6.2 مليار قدم مكعب يوميًا، بينما لا يتجاوز الإنتاج 4.6 مليار. أدى ذلك إلى تحول مصر إلى مستورد صافٍ للغاز المسال لأول مرة منذ عام 2018، حيث استوردت 2.8 مليون طن خلال عام 2024، بينما تراجعت صادراتها من الغاز المسال بنسبة 84% إلى 0.54 مليون طن.

ساهم هذا التراجع في تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء المتكررة، نظرًا لاعتماد 60% من المزيج الكهربائي المصري على الغاز الطبيعي، لتعويض النقص، زادت مصر اعتمادها على الواردات الإسرائيلية، حيث بلغت الكميات المستوردة من إسرائيل نحو مليار قدم مكعب يوميًا مع توقعات بارتفاعها إلى 1.07 مليار قدم مكعب يوميًا بحلول يناير 2025. يُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى عام 2027، وفقًا للخطط الحالية لسد الفجوة بين العرض والطلب.

Search