في نهاية يوليو الماضي، أعلنت الهيئة الوطنية للإعلام تشكيل مجلس استشاري جديد، يضاف إلى سلسلة متزايدة من اللجان والكيانات الفرعية التابعة لها، من دون الكشف عن اختصاصات واضحة أو أهداف محددة. جاء القرار في وقت تشهد فيه المنظومة الإعلامية الرسمية أداءً مرتبكًا، ما أثار جدلًا واسعًا حول جدوى هذا المجلس في ظل تعدد اللجان والمجالس القائمة. ورغم هذا الزخم التنظيمي، لم تظهر نتائج ملموسة تعكس تحسن الأداء، فيما تتواصل الأزمات المالية وتتراكم الخسائر بلا سقف.
ووفقًا للبيان الصادر عن الهيئة يضم المجلس عددًا من الشخصيات الأكاديمية والتنفيذية، من بينهم: عبد الفتاح الجبالي، رئيس مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي، والدكتورة ثريا البدوي، عميدة كلية الإعلام بجامعة القاهرة، والدكتور محمد سامح عمرو، عميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة، بالإضافة إلى عدد من العمداء والأكاديميين البارزين مثل الدكتور عمر الحسيني، عميد كلية الهندسة بجامعة عين شمس، والدكتور حسام الدين عبد الفتاح، عميد كلية الهندسة بجامعة القاهرة، والدكتور أيمن شتيوي، عميد كلية الأعمال بجامعة الإسكندرية، إلى جانب الدكتور أحمد الجوهري، الرئيس السابق للجامعة المصرية اليابانية.
كذلك، يضم المجلس أسماء من خلفيات تنفيذية ومالية مثل المهندس علي سالم ممثل الهيئة الوطنية للإعلام، وهشام سليمان، المسؤول التنفيذي السابق بالشركة المتحدة، والكاتب الصحفي عزت إبراهيم، رئيس تحرير “الأهرام ويكلي”، بالإضافة إلى ممثلين عن وزارتي المالية والتخطيط، منهم الدكتور حسين عيسى، وأعضاء الأمانة الفنية للهيئات الاقتصادية. ويهدف وفقًا لما ورد في إعلان تشكيله، إلى تقديم رؤى وأفكار استشارية للهيئة، تشمل الجوانب المالية والمهنية والفنية، مع التركيز على تطوير أداء قطاعات الهيئة الوطنية للإعلام، وتقديم مقترحات لتحسين الكفاءة التشغيلية.
خلال السنوات الماضية، لم تحقق الهيئة الوطنية للإعلام طفرات ملموسة على مستوى المحتوى أو نسب المشاهدة أو الاستقلال المالي، بل على العكس، تشير التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات والبيانات الحكومية إلى استمرار نزيف الخسائر، سواء في قطاعات ماسبيرو المختلفة أو المؤسسات التابعة للهيئة. ويُعزى ذلك، وفق مراقبون تحدثوا إلى زاوية ثالثة إلى أسباب متعددة، أبرزها الترهل الإداري، وضعف منظومة الحوكمة، وغياب الخطط التسويقية القادرة على جذب المعلنين والمشاهدين على حد سواء.
بالإضافة إلى ذلك واجهت العديد من المبادرات التطويرية، مثل تحديث الاستوديوهات أو التحول للبث الرقمي، عثرات بسبب سوء التخطيط وضعف الكفاءات الإدارية، فضلًا عن غياب الشفافية حول كيفية إنفاق الموارد على هذه المشاريع.
ترى أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة، الدكتورة سارة فوزي، أن الحكم على أداء اللجنة في هذه المرحلة سابق لأوانه، إذ لم تبدأ بعد عملها بما يتيح تقييمه موضوعيًا. ومع ذلك، تشير إلى وجود مؤشرات إيجابية، أبرزها تنامي الاهتمام حاليًا بالقنوات الإعلامية، خاصة تلك التي تمثل إرث ماسبيرو التاريخي، معتبرة أن هذا الإرث يستحق أن يُقدَّم مجددًا بصورة تليق بقيمته، سواء عبر استراتيجيات تحقق عوائد مادية، أو من خلال إعادة تصويره وإبرازه للأجيال الجديدة لما له من مكانة بارزة في تاريخ الإنتاج الدرامي والبرامجي.
وتوضح في حديثها إلى زاوية ثالثة أن مشروع “ماسبيرو دراما” وغيره من المبادرات المقرر إطلاقها يمثل خطوة جيدة، خصوصًا مع التوجه نحو إنشاء منصة رقمية تعرض هذه الأعمال التراثية. كما ترى أن فكرة تأسيس أكاديميات ماسبيرو من الخطوات المهمة، مع الأمل في أن تسهم في إحداث تطورات ملموسة، لا سيما في مجالات تخطيط المحتوى البرامجي، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ومعالجة التحديات التقنية التي تواجه صناعة الإعلام.
لكن فوزي تبدي تحفظًا واضحًا على غياب الشباب عن التشكيلات الاستشارية، معتبرة أن أي لجنة تفتقر إلى تمثيل فعّال للأجيال الشابة، وخصوصًا من هم في الثلاثينيات والأربعينيات، ستظل محرومة من رؤى ضرورية لتطوير الإعلام. وتضيف أن هذه الإشكالية لا تقتصر على الهيئة الوطنية للإعلام، بل أصبحت نمطًا عامًا في مؤسسات كثيرة، حيث يُستبعد الشباب بلا مبرر، رغم أنهم يمثلون طاقة حيوية وعنصرًا محوريًا في أي عملية تحديث حقيقية.
نوصي للقراءة: من اتهامات فساد إلى قيادة الإعلام المصري: ماذا وراء تعيين طارق نور رئيسًا للمتحدة؟
نزيف خسائر مستمر
سجّلت الهيئة خسائر متزايدة على مدار السنوات الخمس الأخيرة (2020–2025)، وسط مؤشرات متفاقمة على تآكل الوضع المالي للمؤسسة المسؤولة عن إدارة الإعلام المملوك للدولة، وتكشف التقارير المالية الرسمية عن أرقام صادمة، تعكس عمق الأزمة البنيوية داخل الهيئة.
في العام المالي 2020/2021، أعلنت الهيئة أن خسائرها التراكمية تجاوزت حاجز 42.6 مليار جنيه، وهو رقم يعكس سنوات من العجز المتراكم وسوء إدارة الموارد. وقد جرى تأكيد هذا الرقم في بيان رسمي صدر عن الهيئة في حينه، دون أن يصاحبه إعلان عن خطة إصلاح واضحة أو تدابير لترشيد الإنفاق.
أما في العام المالي 2022/2023، فقد بلغت الخسائر السنوية للهيئة الوطنية للإعلام نحو 10.6 مليار جنيه، وهو ما مثّل آنذاك حوالي 74% من إجمالي خسائر الهيئات الاقتصادية الحكومية في مصر. هذا الرقم دفع جهات رقابية وبرلمانية إلى المطالبة بمراجعة عاجلة لأداء الهيئة، دون أن تسفر تلك المطالبات عن تحرك ملموس.
الأزمة تصاعدت أكثر خلال العام المالي 2023/2024، حيث ارتفعت الخسائر إلى 11.4 مليار جنيه، لتحتل الهيئة بذلك صدارة الهيئات الحكومية الأكثر خسارة في البلاد لعامين متتاليين على الأقل، وفق تقارير رسمية صادرة عن وزارة المالية والجهاز المركزي للمحاسبات.
وفي يونيو 2023، أعلن وزير المالية أن إجمالي خسائر الهيئة الوطنية للإعلام بلغ 12.2 مليار جنيه، وهو رقم يتطابق مع تقديرات الأجهزة الرقابية، ويشير إلى تصاعد مستمر في الخسائر السنوية، دون وجود مؤشرات على تحسن قريب أو مراجعة جذرية للسياسات المالية والإدارية المتبعة.
بحسب مصادر مطلعة داخل الهيئة تحدثت إلى زاوية ثالثة، تضم الهيئة حاليًا ما لا يقل عن 15 لجنة ومجلسًا داخليًا واستشاريًا، بعضها قائم على أساس دائم مثل لجنة التخطيط الإعلامي، ولجنة التطوير التكنولوجي، ومجالس المتابعة والمحتوى والرقابة، إلى جانب كيانات مؤقتة يتم تشكيلها بموجب قرارات موسمية مثل لجنة تطوير ماسبيرو أو لجنة الإصلاح المالي، دون نشر تقارير دورية لنتائج أعمالها.
تعتمد الهيئة الوطنية للإعلام اعتمادًا شبه كامل على الدعم2 المالي من الخزانة العامة، إذ بلغت مخصصاتها في العام المالي 2022/2023 نحو 24.9 مليار جنيه، منها 18.4 مليار جنيه تغطّيها الدولة مباشرة، ما يعكس تبعية مالية تتجاوز 75 % من إجمالي مواردها، ويُصنف الجهاز ضمن 16 جهة حكومية تواجه خسائر مزمنة تستنزف خزائن الدولة، إلى جانب الهيئة القومية لسكك الحديد.
نوصي للقراءة: نزيف الهيئات الاقتصادية المصرية: الحكومة تدعم الخسائر وتُهمِل الإصلاح

لماذا تخسر الهيئة الوطنية للإعلام؟
تؤكد الكاتبة الصحفية منى عزت أن تطوير المؤسسات الإعلامية يرتبط أولاً بمساحة الحرية المتاحة، وبمدى اتساع نطاق حرية الإبداع داخلها، مشددة على أن المؤسسات لا تتطور عبر القرارات الشكلية بل من خلال خلق مناخ يسمح بتقديم محتوى حقيقي يعبّر عن الناس وقضاياهم، سواء كان هذا المحتوى فنيًا أو ثقافيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا.
وتوضح منى، في تصريحات خاصة مع زاوية ثالثة، أن جوهر العمل الإعلامي يبدأ من السؤال الجوهري: “ماذا نريد أن نقدم للجمهور؟”، معتبرة أن غياب هذا السؤال عن أجندات المؤسسات هو ما يؤدي إلى تكرار الأزمات وتفاقم الخسائر. وتضيف: “نحن بحاجة إلى أن نتيح مساحة حقيقية للإبداع، تسمح بطرح كل القضايا ومناقشتها من زوايا متعددة، لا أن نبقى أسرى القيود والمحاذير التي تفرغ الإعلام من محتواه”.
وتلفت الكاتبة الصحفية إلى أن الإعلام المصري في التسعينيات وبداية الألفينات كان يحظى بمتابعة واسعة من الناس، ليس فقط بسبب محدودية البدائل حينها، بل لأنه كان يقدم أعمالًا فنية وسينمائية تعكس هموم المجتمع، وتحمل مضمونًا فنيًا رفيعًا، عبر أسماء كبرى في التأليف والإخراج والتمثيل.
وتقول من في حديثها معنا: “كان الناس ينتظرون ما يُعرض على التلفزيون، لأنه يعبّر عنهم فعلًا، ويطرح قضاياهم بجودة فنية ومهنية عالية”. مشددة على أن التراجع الحالي في نسب المشاهدة ليس لغزًا، بل نتيجة طبيعية لغياب المضامين الحقيقية، وتضيف: “إذا لم يجد المشاهد نفسه ممثلًا على الشاشة، إذا لم يسمع من يناقش قضاياه ومشكلاته بجدية، فسيتجه ببساطة إلى قنوات أخرى تقدم له ذلك”. وترى أن المشكلة لا تكمن في الأسماء أو الفئات العمرية التي يجري الاستعانة بها، بقدر ما تكمن في طبيعة الرسائل والمضامين التي تقدمها البرامج، سواء كانت فنية أو ثقافية أو سياسية.
وتضيف: “عندما لا أرى على الشاشة محتوى يعبّر عني، ولا أجد مناقشة حقيقية للأزمات، ولا أرى جودة في المنتج، فإنني أعزف عن المشاهدة. وعندما يحدث ذلك على نطاق واسع، يصبح من الطبيعي أن تتكبد المؤسسات الإعلامية خسائر مادية ومعنوية”.
وتُحمّل منى السياسات التحريرية المسؤولية عن هذا التراجع، وتنتقد فكرة الاعتماد على تشكيل لجان جديدة أو الاستعانة بمستشارين دون مراجعة جوهرية للمضامين. وتقول: “المشكلة لا تُحل بتحريك كرسي من اليمين إلى الشمال، ولا بجلب شخص مكان آخر، بل تُحل فقط حين نحدد الرؤية، ونقرر ما نريده من هذا الإعلام، وما نوعية الرسائل التي نريد توصيلها”.
وتحذر من أن استمرار غياب المهنية يؤدي إلى استقطاب عناصر لا تملك الكفاءة، وتقول: “عندما تصبح المساحة المتاحة للحديث ضيقة جدًا، فإننا نضطر لاختيار مذيعين ومعدين ومخرجين وفق مقاس هذه المساحة، لا وفقًا للكفاءة أو الخبرة، والنتيجة أننا ننتج محتوى ضعيفًا، لا يستحق المشاهدة”. وتؤكد كذلك على أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيؤدي إلى مزيد من التدهور. وتقول: “مهما كان عدد اللجان أو الأسماء التي يُستعان بها، لن يتحقق أي تغيير ما دام المضمون كما هو. حين يبقى المضمون ضعيفًا، تظل الخسائر قائمة، وتظل مكانة الإعلام المصري في تراجع، في وقت تتقدم فيه مؤسسات إعلامية عربية أخرى لأنها فهمت معادلة التأثير جيدًا”.
تتفق معها -الصحفية بمجلة الإذاعة والتلفزيون داليا ناصر-، وهي واحدة من أبناء مؤسسة ماسبيرو، إذ تقول في تصريح إلى زاوية ثالثة إن الإعلام في أي مكان في العالم يُقاس بمستوى التأثير والتواجد والانتشار، وهي معايير لم يعد ماسبيرو يحققها منذ سنوات، مشيرة إلى أن هذا التراجع يعود إلى عدة أسباب، في مقدمتها “هجرة الكفاءات من المبنى إلى القطاعين الخاص المحلي أو العربي، حيث تتوفر فرص أفضل من حيث التقدير المهني والمقابل المادي”.
وتضيف أن أزمة ماسبيرو لا تتوقف عند العنصر البشري، بل تمتد إلى النواحي الفنية والتقنية، مع وجود نقص حاد في المعدات الحديثة، وضعف في أنظمة الصوت، وغياب لائق للديكورات والتجهيزات الهندسية التي تتيح تقديم محتوى منافس. كذلك تتابع: “الدولة لم تعد تُعطي ماسبيرو أي اهتمام فعلي، على الرغم من أنه كان بالإمكان ضخ استثمارات من الشركة المتحدة داخل المبنى، مع فرض رقابة ومحاسبة لاحقة على الأداء. لكن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا، فتم التخلي عن تطويره وترْكه يواجه مصيره”.
أما فيما يخص تعدد اللجان التي أُنشئت مؤخرًا داخل الهيئة، خاصة تلك التي تضم أعضاء من خارج ماسبيرو، فتؤكد داليا أنها لن تُحدث أي تغيير حقيقي، بل ستكتفي بوضع ضوابط شكلية لـ”وضع مهلهل لن يؤدي إلى نتيجة”. وختمت حديثها بتشبيه صادم قائلة: “ماسبيرو بات مثل المريض الذي أهلكه المرض، وأصبح الموت هو العلاج الوحيد له”.
نوصي للقراءة: ورق هشّ.. أزمة وجودية للصحف القومية في مصر
أحلام التطوير
في ديسمبر 2016، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القانون رقم 92 لسنة 2016 بشأن التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام، والذي قضى بتفكيك اتحاد الإذاعة والتلفزيون السابق (ERTU) وتحويله إلى ثلاث هيئات مستقلة: المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام، التي يُنظَر إليها رسميًا بوصفها خلفًا لماسبيرو كمؤسسة رسمية مستقلة بكيان قانوني شخصي اعتبارية
وفي 27 أغسطس 2018، نُشر القانون رقم 178 لسنة 2018 الخاص بالهيئة الوطنية للإعلام في الجريدة الرسمية، والذي أكّد استقلالها التنظيمي والمالي، وتضمن تحديد اختصاصات تشمل إدارة المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة، وتنمية أصولها، وإقرار أنشطتها وفق قيم الاستقلالية والإدارة الرشيدة، هذا الإطار القانوني وضع قاعدة نظرية لإصلاح مؤسسات الإعلام الرسمي، لكن تطبيقه العملي بقي مليئًا بالتحديات.
بعد التأسيس القانوني، بدأت الهيئة بوضع إستراتيجيات إصلاحية عبر لجان متخصصة: لجنة للتخطيط الاقتصادي، ولجنة للتطوير المؤسسي، ولجنة للمحتوى والجودة، سعياً لتحقيق التوازن المالي وتقليل الإنفاق، وتحويل نشاطها التجاري إلى شركات تتمتع بمرونة أكبر بعيدًا عن البيروقراطية الحكومية . تم وضع خطة مرحلية تمتد لعامين، ثم خطة نهائية تشمل هيكلة متكاملة بإعادة دمج الأنشطة المتشابهة، تقليص عدد الوحدات الإدارية من 1588 إلى نحو 267 وحدة، وإنشاء قطاعات تنظيمية تشرف على الإنتاج والمحتوى الرقمي والشؤون المالية والموارد البشرية
من أبرز هذه المشاريع مشروع رقمنة الأرشيف الضخم لإعادة عرض التراث الإعلامي، ومنصة رقمية تتيح الوصول للمحتوى التاريخي باعتباره مصدر إيرادات جديد، رغم هذه الخطة النظرية القوية، لم يثمر التنفيذ حتى الآن عن تغييرات ملموسة.
أحد أبرز أسباب الإخفاق، وفق مراقبين، هو المديونية الهائلة التي ورثتها الهيئة من ماسبيرو، حيث تراوح أصل الدين ما بين 7 و8 مليارات جنيه عام 2018، مع توقع وصوله إلى نحو 36 مليار جنيه بعد سنوات، خاصة إذا لم يُستفَد من أصول الهيئة المتاحة مثل أراضي محطات الإرسال لتسديد جزء منها، لكن الأزمة لا تقتصر على الدين، بل تكمن في غياب الإدارة الاستراتيجية الفاعلة، إذ تفتقر الهيئة إلى إدارات متخصصة في التخطيط أو الرقابة، وتفتقد رؤية طويلة الأمد تؤطر الأداء التحريري والمالي والتنفيذي، وفق دراسة أكاديمية تعتبر غياب الإدارة الاستراتيجية العائق الأبرز أمام تطورها .
إضافة إلى ذلك، تقلّص التدخل الحكومي المباشر في مسارات التطوير، بينما تتصدّى شركات خاصة، مثل “المتحدة” المملوكة لجهة سيادية، لملف الإنتاج بشكل واسع منذ 2020، وهو ما فاقم تهميش الهيئة وتقويض استقلال قرارها التحريري والمالي، الجمع بين الدين المتراكم، نقص الإدارة، وتراجع السلطة التنظيمية، أدى إلى فشل الهيئة في تحقيق الأهداف التي وضعها لها القانون من حيث تحقيق الاستقلال والاستدامة والتأثير الإعلامي الحقيقي.
تُمثّل الهيئة الوطنية للإعلام نموذجًا حيًا على التحديات البنيوية التي تواجه الإعلام الرسمي في مصر؛ إذ تجمع بين عبء موروث ضخم من التقاليد الإدارية، وتضخم هيكلي، وضعف في التخطيط الاستراتيجي، وبين طموحات تطويرية لم تُترجم بعد إلى نتائج ملموسة. وعلى الرغم من التعديلات التشريعية، ومحاولات التحديث، وتشكيل لجان ومجالس متخصصة، فإن الأرقام الرسمية تؤكد استمرار نزيف الخسائر وتراجع التأثير الجماهيري. ويظل غياب الرؤية التحريرية الواضحة، وضعف الحوكمة، واستبعاد الكفاءات الشابة، من أبرز مظاهر الإخفاق المؤسسي.