عندما تكون الكتابة هي المتنفس الوحيد للكادحين!

563

 

سبق وأن وثقت ما تعرض إليه أحد أصفيائي من مآسي - جعلته يعتنق المبادئ المكيافيلية- في قالب صحفي كان يغلب عليه تسطير ذكرياته المخضبة  بالمحسوبية التي تعرض لها والظروف الأقتصادية المضنية التي كادت أن تودي بحياته وهو في باكورة عمره عندما عجز والده عن تدبير مصاريف عملية جراحية في وقت ما؛ كانت روحه في مهب الريح تحت نير المرض الذي كان ينهش في أوصال جسده الصغير، عنونت هذا المقال آنذاك بــ(ضحية المحسوبية..عن صديقي الذي هوى في براثن دراكولات الأحلام). 

آنذاك كنت أكتب تحت وطأة ما تعرض إليه صديقي، وصديقي نفسه كان يتحدث تحت نير الذكريات اللعينة التي شكلت وجهة نظره التي جعلته يقول (إذا كانت وجهتي ناحية المال الذي أبتغي الحصول عليه بأي سبيل يعني أنضوائي تحت مظلة التعاليم المكيافيلية كما تزعم فأنا أقر بذلك؛ فوفرعلى نفسك هذا التقريع).

فلم يجد صديقي غضاضة في الإفصاح عن إيمانه بالتعاليم المكيافيلة، فهو يرى أن الشخص الناجح هو الذي عندما يتفضل ويدخل شارع من الشوارع المصرية الشارع يغلق، قال لي هكذا فيما معني العبارة هذه – سالفة الذكر- ونحن نسير معاً في أحد شوارع السكندرية، ثم أسترسل كلامه بضرب مثال عما يقوله (نجيب ساويرس لو دخل الشارع ه هيقفله). 

ضاعت عباراته سالفة الذكر من ذهني عندما قال لي إني أملك أداة كتابة، وينبغي عليّ أن أستغلها في جلب الأموال، ثم طرح عليّ أقتراح كتابة سيناريو سينمائي لأنني إذا نجحت في كتابة سيناريو وتبناه أحد المنتجين سيعود عليّ مبلغ ضخم من المال، ثم قال نصاً: (ولكن هذا المبلغ إذا حصلت عليه لن تستأثر به وحدك سيكون لي نسبة)، بعد عبارته الأخيرة تبلورت العبارات في صورتها الكاملة من جديد، وألتمست له عذر في ذلك، فهذا أمر طبيعياً لمن عاش تحت وطأة الفقر منذ أن تفتحت عيونه على الدنيا، ولمن يقول لي أنه يكتب يومياً (تويتات) للرجل الأعمال نجيب ساويرس لعلها تصدف معه ويرد عليه، ولمن صدمني برده عندما قلت له في إحدى المرات بأن النموذج المصري الناجح في الوقت الراهن لاعب كرة القدم محمد صلاح، لم يصبح محمد صلاح بين عشية وضحاها لا سيما وهو من أبناء الطبقة المتوسطة، فكان رده بأن هذا اللاعب عندما كان يذهب إلى التمرين في النادي الذي أستهل فيه حياته الرياضية منذ نعومة أظافره لم يكن يفكر في أجرة مواصلاته في غَدَواته ورَوْحاته، ثم قال لي مبتسماً أنه عندما يعمل في الأجازات الموسمية في بعض الأحيان يقطع نصف الطريق سيراً على الأقدام. 

تضاءلت همتي بعد فترة من أقتراح صديي، وقولت له صراحة إني أكتفي بالكتابة الصحفية وفي الإطلاع وإني سأرجئ محاوة البدء في كتابة أي سيناريو إلى أجل غير مسمى، أو إلى أن ينتابني شعور بمقدرتي على كتابة سيناريو سينمائي لا سيما أن كتابة سيناريو سينمائي ستحتاج مني لمحاولات عديدة، فهز لي رأسه بأقتناعه بمزاعمي، ثم تفاجئت بعد ذلك بإتصاله بي بعد فترة ليست بالطويلة ليخبرني بأنه كتب رواية ويريد مني أن أطلع عليها، وقد حدث هذا بالفعل، فبمجرد أنتهائي من قراءة عدد من الصفحات التي كان فحواها يسرد حكاية شاب طموح من الطبقة الكادحة أسمه ياسين، من الممارسين للرياضة القفز، وكان مع موعد مع التاريخ، لأنه سيقفزمن قمة إيفرست، فليس التاريخ فقط الذي كان في أنتظاره، بل حبيبته التي كانت تنتمي لمتمع الذوات، والتي كانت تخدعه بحبها له، لأنها كانت تحبه لشهرته المحتمله، وهو كان يحبها بجدية، وهو يعلم أن شهرته ستجتث الفروق الطبقية، ولكن هذا لم يحدث بعد قفزه وإصابته، فتركته هذه المخادعة، وهو سلم نفسه لآفة الإحباط التي أكتشف أنها كانت ستنهش من عمره الكثير، إذا لم يتستجب لنصائح بنت عمه التي كانت تحبه حباً صامتاً، ولم تتفاجئ من إفصاحه لها بمشاعره بعدما أكتشف حبه لمن ظلت تشد من أزره بعدما تركته حبيبته السابقة، حتى وقف مجدداً على قدميه، وغدا نبراس للأمل والإصرار والعزيمة لكل شاب تعرض لإفاقات في حياته. 

فبعد إطلاعي على ورق صديقي؛ قولت له بصورة صريحة أن الرق مفتقد لضوابط الرواية وما إلى ذلك من ملاحظات فنية في حدود معرفتي المحدوة، ثم لم أتوان عن إلقاء كنه الحقيقة في وجهه عندما قولت له أنه وجد نفسه في ياسين حتى أن الأمر أختلط عليه وسمى والد ياسين بأسم والده، ففاجئني بإبتسامه حلت مكان التكشيرة التي كنت أعتقد أنها ستسيطر على ملامح وجهه بعد إفصاحي له عن الحقيقة التي كنت أزعمها، ثم أخبرني فيما معنى كلماته المتلكئة تحت وطأة خجله بأنه كتب هذه الأوراق وهو في ذروة إحباطه، لأنه وجد في الكتابة المتنفس الوحيد له. 

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك