من أين أطُعم أولادي؟

350

«هل يعقل أن أفر من جحيم الحرب في جنوب السودان حتى أموت أنا وأولادي جوعً في مصر؟ أليست مصر قلب أفريقيا النابض؟ لِمَ أصحاب العمل في مصر يحرمونني من حقي في العمل؟  أنا لا أريد من أحد أن يمن عليّ بشئ ولا أشحذ، ولكني أريد أن أعمل، فمن أين أطعم أولادي؟». أسئلة مبلورة في صورة سهام قدحت في قلوب كل الراكبين في إحدى وسائل المواصلات – في محافظة الأسكندرية- بدون هوادة أطلقها لاجئ سوداني يبدو من هيئته أنه في عنفوان شبابه، ومن هِندامه أنه يمر بظروف أقتصادية طاحنة، فأكوي الذي تعرفت عليه وعلى مشاكله لدقائق معدودة، لم ينتظر أحد أن ينبش في جروحه بل جروحه من شدة تقيحها فاضت ما تحويه من قيح بمجرد ركوبه السيارة فقال:« الحياة عندكم في مصرباهظة الثمن، أنا أقطن في فندق بمائة جنية – شدد هنا على مائة جنية بتكرارها- في اليوم مع أسرتي».


 فبعد أنا رمى هذه العبارات تهامس الركاب مع بعضهم البعض – تصعباً على حاله- دون أن ينبس أحد منهم إزائه ببنت شفة، بإستثناء راكب كان يجلس في المقعد المتاخم لمقعدي، كان يتململ في مقعده، ويتمتم بينه وبين نفسه بعبارات من قبيل:« لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا يقويه ويعينه». وأختلس بعض النظرات إليه، ثم همس لي في أذني بمقولة:« لا تأخذ من أجره – لأني أنا الذي كنت أجمعها- سأدفع له أنا»، ولم يترد بعد ذلك في توجيه حفنة من التساؤلات إليه: «ما أسمك؟ ومن أين أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟»  فكأن أكوي كان يريد أحد أن ينبش في جروحه؛ لعله يفلح في حلحلة صخرة الهموم الجاثمة على صدره.


 فرد دون أن يتردد على الرجل الخمسيني:« أسمي أكوي يا سيدي – ثم أطلق سيل التساؤلات المسطرة في السطورأعلاه مصحوباً بسيل من اللعنات على الحرب والظروف التي آلت به إلى هذا الوضع المزري- أنا من جنوب السودان، وأعمل فني لصيانة آلالات التصوير- ثم أومأ بأصابعه إلينا إلى ملف كان بحوذته (في الغالب يتضمن أوراق إقامته وسيرته الذاتية)- مرت أيام وأنا أجوب الشوارع بحثاً عن عمل ولكني لا أجده؛ لأن أصحاب العمل في مصرلايتيحون الوظائف الشاغرةعندهم سوى لعمالة مصرية، وأنا لا أفهم لماذا؟ أليس أنا أيضاً إنسان لي الحق أن أعمل، ولدي ألتزامات وأسرة لابد أنا أكفل لأفرادها –زوجتي وأولادي- المسكن والملبس والمأكل والمشرب ؟».


 فباغت الرجل أكوي بتساؤل بلورفجاجة أكتراثه بالشأن السوداني: «معذرة يابني، أي حرب، هل هناك حرب أخرى تدورفي السودان بعد الحرب التي كانت دائرة قبل الأنفصال الذي حدث في 9يوليو/تموز من 2011م؟» في هذه اللحظة ألتقط خيط الحديث وصححت للرجل هذه المعلومة : « لا يا أستاذ الحرب في السودان لم تنته بعد أنفصال السودان إلى جنوب وشمال، بل هناك حرب أهلية محتدمة الآن في جنوب السودان – بين قبيلتي الدينكا والنوير- يتناسب أحتدامها مع مرور الزمن تناسب طردي». 


ثم وجهت التساؤل إلى أكوي: «هل الوضع قبل الإنفصال أفضل أم بعده؟» فأجاب دون أي تردد: «بالطبع قبل، كنا نسطيع أن نعيش، أما الآن فكما ترى بت كشجرة واهية بدون جذورأخشى غائلة الجوع أن تسقطني في هاويتها في أي لحظة من اللحظات»، لم تكن معي مرآة حتى أرى وجهي آنذاك ولكن أزعم أن قسماته الغليظة تخللها الدهشة، فربما لم أتابع الأحداث في السودان بالشكل الكافي، ولكن، أليس أكوي من جنوب السودان وممن تجرعوا مرارة فقدان الأهل والقمع والشتات من قبل عمر البشير أحداث إقليم دارفور- الرئيس الحالي لشمال السودان، فسرعان ما أفضيت بهذا التساؤل إلى أكوي:«أليس عمر البشير مجرم حرب؟ أليس هذا الرجل مدان في جرائم إبادة جماعية أرتكبت من قبل القوات التابعة له؟».


 فكان الرد مفحماً بالنسبة لي:« نعم هذا الرجل مجرم، ولكن مثلما قولت لك كنا نستطيع أن نعيش، والموت في خضام الحرب أهون عليّ من أن أموت في خضام غائلة الجوع». أنتهى الحوارهنا لا سيما بعد وصول السيارة إلى مربضها ونزول أكوي والرجل الخمسيني الذي كان يجلس بجواري، ولكن لم ينته الحوار بالنسبة لي، فهرولت وراء أكوي وسألته سؤال أخير: «هل ستعود إلى جنوب السودان من جديد؟» فأفحمني مرة أخرى: «نعم سأعود، فالموت في خضام الحرب أهون عليّ من أن أموت في خضا غائلة الجوع». 


لم أكن بطئ الفهم ريثما لا أتمكن من أستخلاص إجابته على تساؤلي ولكن كان عقلي وقلبي الذي يخفق من فجيعة عبارته لا يصدق ما قاله، فكانت هرولتي ورائه رغبة مني في التأكد مما قاله، ففي هنيهة سبق قلبي عقلي وكانت إجابته بمثابة سحابة ضبابية أمام عيني؛ لم أضع الأمور في نصابها الحقيقي، لأني لووضعتها كنت سأتفادى سذاجة الدهشة التي سيطرت عليّ، لِمَ الصدمة حيال أنُاس يقفوا أمام خيارين للموت الذي أضحى أنه لا بد منه بالنسبة لهم؟، فإن كنت دقيق في هذا القياس، أليس الناجون الآن م جحيم الحرب الأهلية في اليمن، ومن ضربات قوات التحالف العربي تحت ريادة المملة العربية السعودية، لم يفلحوا في النجاة من غائلة المجاعة هناك؟، فاللعنة على العالم الذي يضع الإنسان أمام خيارين؛ إما الموت بالرصاص، أو الموت من الجوع.

تسجيل الايميل

شارك وفكر مانا وابعت تدوينتك