كوبري 6 أكتوبر

735

في ذكرى نصر أكتوبر العظيم، أثناء زيارته لأحد المدارس سأل لواء جيش مزهوا أحد التلاميذ عن ما يعرفه عن ٦ أكتوبر، فأجابه الطالب، لدهشة السيد اللواء، انه يعرف إنه كوبرى!

       قد تصيبنا نحن أيضا الدهشة لأول وهلة عند سماع هذه الواقعة، وقد يصحبها بعض الشعور بالأسف أن تكون ذكرى ملحمة نصر أكتوبر العظيم غير حاضرة ومؤثرة في وعي الأجيال الجديدة، وهذا كان شعوري أنا أيضا عندما سمعت بهذه الواقعة. ولكنني بعد التفكير والتأمل فيما آلت إليه الأمور الآن، ذهب العجب وزالت الدهشة وبقي الأسف، بل والتمست العذر لهذا التلميذ المظلوم المغدور في تاريخه وقدره.  فكما يقال إذا عرف السبب بطل العجب. 


        لعل جيلي الذي عاصر أمجاد النصر والفخر في حرب أكتوبر ١٩٧٣، والأجيل التي سبقتنا التي عاصرت مرارة هزيمة ٦٧ و نشوة نصر أكتوبر، هي التي تستطيع ان تتفهم الأسباب التي جعلت ذكري ملحمة الانتصار ورد الشرف والكرامة في ٦ أكتوبر ١٩٧٣ تتحول إلى نسيا منسيا لدى الأجيال الجديدة. فقد تربى المصريون منذ الأربعينات على عقيدة أن الكيان الصهيوني كيان مستعمر مغتصب للأرض، وأن الكفاح المسلح لتحرير الأرض المصرية والعربية هو الغاية وهو الشرف، وكبر  كل منا وبداخله ألم لوجود شهيد أو جريح في كل أسرة من قريب أو بعيد من جراء حروب طويلة مع العدو استمرت حتى نصر أكتوبر، الهزيمة الولى للجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه. تلك كانت الحقيقة التي لا تقبل النقاش والتي اجتمعنا جميعا عليها قيادة وشعبا في مصر والوطن العربي كله. 

ثم جاءت اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل الذي فرضه السادات فرضا مباغتا دون نقاش أو حوار مجتمعي ودون تمهيد أو شرح للدوافع والأسباب سوى قوله أن أمريكا لديها كل المفاتيح واننا لا نستطيع أن نحارب أمريكا. فهل كنا لا نعلم ذلك عندما أقدمنا على الحرب؟! عارض البعض السلام وتهلل البعض الآخر، وأظن ان أسباب قبول الغالبية حينها لمبادرة السلام تنوعت بين الثقة في بطل الحرب، وبين إرث طاعة الحاكم بلا جدال السائد عند المصريين، أو بتأثير الضجة والإبهار في الإعلام المحلي والعالمي اللذان صاحبا زيارة السادات لل أبيب وخطابه التاريخي في الكنسيت الإسرائيلي، وما تبع ذلك من تهليل لبطل الحرب والسلام وتعبئة للرأي العام في الداخل والخارج للسلام مع إسرائيل وما تلى ذلك من خطوات متسارعة أدت إلى استرداد مصر لأراضيها. ومن يكره ان تعود الأرض  ؟ ومن لا يرحب بحقن دماء المصريين؟


       قبلت الغالبية اتفاقية السلام على مضض من أجل استرداد الأرض وحقن الدماء دون أن نفكر فيما بعد، ودون ان ندرك الثمن الخفي للسلام وما يحمله لنا في جعبته في المستقبل، ودون ان يصارحنا صاحب المبادرة بتفاصيلها كامة وبتبعاتها. لم يكن المناخ السياسي حينها ولا بعدها يسمح بالشفافية أو المعارضة الحقيقية التي تناقش وتفاضل بوعي في نتائج هذه القرارات السياسية المصيرية. نجح السادات في فرض السلام على المستوى الرسمي ولم ينجح في فرضه على المستوى الشعبي. بل استمر الخطاب والوعي الرسمي والشعبي بعد كل ذلك في اعتبار إسرائيل لسنوات عدوا تربطنا به معاهدة سلام على الورق بالرغم من الجهود التي بذلت للتطبيع.


        في عهد مبارك أصبحت علاقات النظام المصري بإسرائيل أكثر عمقا وشملت تعاونا إقتصاديا علنيا تضمن تصدير الغاز المصري لإسرائيل بأبخس الأسعار وفقا لإتفاقية الكويز لتي تم تبرريها للجماهير كإلتزام وفقا لبنود إتفاقية كامب ديفيد، فسكت المصريون على مضض وإستنكار، وظلت إسرائيل هي العدو في النفوس. ثم جاءت الثورة في ٢٠١١ التي اطاحت بمبارك وأتاحت الفرصة للتعبير عما داخل الصدور، فحرق علم إسرائيل في الميادين وتظاهر الشباب عند سفارة إسرائيل، التي أعربت عن قلقها وأسفها لخسارتها مبارك الكنز الإستراتيجي.

       مع وأد الثورة فوجئت الجماهير بعودة السلام الدافئ مع إسرائيل بدءا بخطاب المودة بين مرسي وبيريز، وإنتهاءا بعلاقات أقوى في عهد السيسي تأكدت في لقاءات حارة بين المسؤولين من الجانبين، وفي توثيق التعاون التجاري وتنسيق أمنى وسياسي واضح ظهر جليا في صفقة التنازل عن تيران وصنافير، ومؤخرا بإعلان السيسي في زيارته للأمم المتحدة عن حرصه على أمن وسلامة المواطن الإسرائيلي، وكلل كل ذلك بتداول أخبار مؤخرا عن تدريبات عسكرية مشتركة مع إسرائيل بالتزامن للأسف والأسى مع ذكرى إحتفالات نصر اكتوبر!!

          سنوات من التعبئة العامة والتوجيه المعنوي لم تنجح في قبولنا للعدو كصديق ولم تصفو النفوس بالرغم من كل هذه السنوات، لأن السلام جاء فرضا، وبثمن باهظ  وهو إنتقاص السيادة وحرية القرار وتجهيل الشعب وتفرقة الأمة العربية. الأمر الذي جعل كل إحتفال بذكرى النصر مملوءا بالفخر وموبا ببعض الألم للإمتثال لعدو الأمس والكثير من الحسرة على السلام الذى أفقدنا سيادتنا وأضاع منا زمام الأمور. أظن ان ذلك هو شعور الكثيرين من الاجيال التي عاصرت حرب اكتوبر ٧٣ وما قبلها مع كل ذكرى لهذا النصر العظيم. لكن فيما يبدو أصبح الحال مختلفا لجيل التسعينات والالفية الثانية الذى ترعرع وتربى في كنف السلام الدافئ فتضاءل نصر ٦ اكتوبر لديه إلى مجرد كوبري مسمى بذات الإسم، كما أصبح بالنسبة لنا ايضا، الأجيال التى عاصرته، جسرا مررنا عليه من زهوة النصر إلى إنكسار الخنوع وعبرنا به من التشبث بالحق والعدل إلى الإستسلام وقبول العدو كصديق دافئ!

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك