هل حقًا الإجابة تونس؟!

500

"ل شئ يحدث هكذا ولابد أن لكل شيء أسبابه القديمة"..

كانت تونس دومًا ولا زالت بالنسبة لي نموذج الدولة الحلم، التي تنجح في تخطى حواجز كبيرة نحو الديمقراطية والحقوق والحريات، لا في سنوات لكن في أيام وأحيانًا في ساعات وهذا بالطبع شئ قد يبدو جيدا، لكن لطالما تساءلت كيف يمكن أن يحدث هذا في بلد عربي مجاور لا تختلف ثقافته كثيرا عن باقي المحيط العربي الكبير من حيث الجانب الثقافي الاجتماعي وخاصة السياسي؟!

على كل بدأ هذا الخوف عندي  من تونس ينشأ بعد قراءة مقالة تتحدث عن كتاب للكاتب التونسي هادي يحمد ، حتى أنني صرت أتخوف من فكرة زيارة تونس، يتحدث يحمد في كتابه عن مقابلة أجراها مع أحد  التونسيين العائدين من "الشام" من صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وكيف قضى أعوامه هناك وكيف حارب وقاتل حتى هرب.

بدأت بعدها متابعة تلك النوعية من أخبار تونس، وفي المقابل أخبار أخرى تتعلق بتعديل القوانين لتتوافق أكثر مع مبادئ المساواة بين الرجل والمرأة، أو الاقتراب أكثر من الديمقراطية الأوروبية.

كان الأمر في بدايت شيئًا غريبًا غير مفهوم على الإطلاق على الأقل بالنسبة لي؛ كيف للشباب التونسي أن يهرب من جنة الديمقراطية الموعودة ليلقي بنفسه في جحيم الرقة بكل ما يحمله من المآسي والدماء. يبدو أن الأمر بدأ في عام ٢٠١١  حينما فتحت السجون بفعل الثورات ليتحرر قاطنيها من أعوام العزلة والقهر في زنازين الحبس الانفرادي، ليخرجوا إلى العالم من جديد، ولكن حال أولئك المجاهدين في تونس لم يكن مختلفا عن بقيتهم في مصر فهم لم ينالوا حظا لا في السياسة ولا في الدعوة لكنهم أستفادوا بحريتهم اسفادة أخرى.

لم يقبلهم المجتمع النخبوي السياسي بتلك السهولة خاصة الإسلاميين حيث أن سيطرة التيار الاسلامي الوسطي على الحكم وبجانبه ومن بعده العلمانيين، لم تخلق لهم مجالا سياسيا ليتحركوا فيه كما حدث مع الدعوة السلفية في مصر رغم محاولات الغنوشي زعيم حركة النهضة في استقطاب شباب السلفيين نحوه لكنه عانى في مسلكه هذا من سياط العلمانيين وانتقاداتهم له مع كل حادثة تفجير جديدة وكانت حادثة متحف باردو هي القاصم لمساعي الغنوشي تلك إلى أن أنتهى الأمر بالشباب التونسي المسلم لأن يقع معظمهم فريسة للجماعات السلفية الجهادية، والجماعات السلفية الجهادية في تونس تتميز بصفة شديدة الخطورة لربما لن ولم يبين عظة وشدة خطورتها إلى الآن فهم ينقسمون بين تنظيم القاعدة متمثل في تنظيم "عقبة بن نافع " والبقية تنتمي لداعش عبر تنظيم "جند الخلافة" وهؤلاء يدينون منهجيا إلى الشيخ السعودي أحمد بن عمر الحازمي، الذي يعد المنظر الأشد خطورة في تنظيم داعش فهو يصل  إلى أبلغ وأقصى مآلات السلفية الوهابية تطورا وكمالا في ذروتها العلمية، حتى أن بعض أعضاء اللجنة الشرعية في جمعية أنصار الشريعة التونسية من تلامذته.

فهو شيخ منظر متكلم متعلم للمطق، يعتمد في تنظيراته التكفيرية على المنطق اللغوي، بل لنقل أن أحد أهم تنظيراته التي هدمت التنظيم أكثر مما فعلت طائرات الأمريكان ونخبة حزب الله وقاذفات بشار، تنظيرة العذر بالجهل كانت مبنية على فهمه للمنطق اللغوي الذي تعلمه ضمن علوم المنطق على يد أحد الشيوخ في موريتانيا.

الرجل يرى أن صفة الفاعل تؤخذ من فعله دون اشتقاق أو توريب، فمن فعل فعل الكفر حتما هو كافر ويستوجب بذلك قتله وقتاله، تلك التنظيرة على بساطتها قد قصمت عضد التنظيم إلى نصفين بين البنعلية "نسبة إلى تركي البنعي وهو شيخ بحريني"، وبالرغم من كون التنظيم عسكريا بحتا إلا أنه أتخذ نهجا ايديلوجيا بسيطا في اعتناق الأفكار وتحديد المعتقد بكل وضوح وهو تكفير الجميع عدى الماقتلين المجاهدين ضمن صفوفه في محاولة لخلق تنظيم مضاد للانشقاقات العقدية يتضح الآن أنها قد فشلت.

كيف حدث هذا !؟ 

الإجابة تونس.. بالطبع تلك ليست مزحة وإن كانت كذلك فهي أكثر مزحة دموية وقاتلة على الإطلاق، نسيت أن أخبرك أن الشيخ أحمد بن عمر الحازمي كان دائم التردد على تونس والقاء المحاضرات والعظات ف مساجدها ومدنها الكبرى، كما أعتاد الشباب المسلم هناك أن يرتادوا حلقاته وخطبه بالآلاف، ماذا حدث إذًا؟ 

في أواسط عام ٢٠١٤ بُعيد إعلان اقامة الدولة الاسلامية في العراق والشام من قبل خليفتها البغدادي، هاجر مئات الشباب التونسي إلى سوريا بغية القتال والحرب ونصرة الدين، وليس الأمر في حاجة إلى توضيح إلى أي التيارين سينضم الشباب التونسي المجاهد فهم قطعا شكلوا جبهة عرية داخل التنظيم تارة تسمى بالحازمية وتارة أخرى تسمى "بالتوانسة"، بعد الصراع التنظيري الكبير بين البنعلية والحازمية"التوانسة" والذي كان يبلغ عددهم بحسب احصائات الباحثين حوالي ٥٠٠٠ آلاف تونسيا مقاتلا و١٥٠٠ امرأة هم قوام فصيل من قلب تنظيم يتراوح عدده بين ٣٥ ألفا و٩٠ ألفا بأقصى تقدير، بالطبع إن النسبة تبدو مخيفة جدا حتى لقادة التنظيم أنفسهم فعلى ضوء تنظيرتي "العذر بالجهل" و "من لم يكفر الكافر فهو كافر" بدأ التوانسة في تكفير قادة التنظيم وأمراءه ووزرائه وقادة دواوينه حتى المؤسسين الأوائل، لم يسلموا من تكفيرهم كأبو مصعب الزرقاوي نفسه وقد وصل الأمر أن أحد أمراء الحازمية أستقل بمناطق حكمه عن سيطرة التنظيم، ما دفع قادة التنظيم للتخلص منهم بأن يزجوا بالمقاتلين التوانسة في الصفوف الأمامية ليتخلصوا منهم حتى أنتهى بهم الأمر أن أبتدعوا تنظيما أمنيا داخليا أُنشأ سرًا لتصفية أولئك المغالين المتشددين،وكانت تدفعهم في ذلك تنظيرات واقعية من "البنعلية" بضرورة الحفاظ على الحاضنة الشعبية وعدم معاملة الجمهور بمثل ما يعامل به المجاهد المقاتل وإخراجهم من حكم تكفير الشيعة وحكام الطاغوت وصريحي الكفر الواضح البين عن علمز

يقول هادي اليحمد على لسان محمد الفاهم في كتابه "كنت في الرقة" أنه رأى بأم عينه حملات إعدام سرية للعديد من المقاتلين التونسيين بسبب مغالاتهم في الدين وقسوتهم مع العامة وإنكارهم على قادة داعش مقولة "يعذر الجاهل بجهلة" حتى أنه قد بلغ عدد القتلى التونسيين ب٥٠٠ مقاتل من القدامى على يد جهاز الأمن الداخلي والآلاف تعرضوا للجلد ومنهم الفاهم نفسه،كما أنه ذكر سبب هروبه من التنظيم بأن التنظيم لم يكن يتبع القواعد والحدود بالشكل الذي يليق بأصول الإسلام الصحيحة.

يتضح من بيانات وإصدارات التنظيم المرأي والمقروءة أن تيار الحازمية كان يسيطر عليها بشكل كبير أما البنعلية فكانوا يتولون إدارة بقية الوزارات الخدمية، تلك الإصدارات التي أظهرت دموية ووحشية التنظيم ككل وتشدد ومغالاة الحازمية بالأخص التي أستفذ أحد كتابها مرة ليسقط التكفير على الخليفة أبو بكر البغدادي نفسه تحت قاعدة تكفيرية شديدة الغرابة، وهي "من لم يكفر من لم يكفر كافرا فهو كافر"، في ضوء تلك الانقسامات البسيطة لغويا ومنهجيا تصدع التنظيم العتيد لا في أعتى الاشكالات العقدية ولا الفقهية لكن فيما بين لطخات الحروف.


هكذا يبدو إذن أن الإجابة تونس والشباب التونسي المتشدد الذي هرب من فرض العلمانية بقوة الدولة والبطالة والفقر والمرض إلى جحيم داعش، بحسب المحللين السياسيين والاجتماعيين فإن المجتمع التونسي يبدو منفصلا قليلا بعض الشئ عن نخبته السياسية "بالطبع كحال كل مجتمعاتنا العربية"، مجتمع تغزوه البطالة والفقر كالسرطان والطاعون متصاحبين دوما، وعلى هذا يتغذى سماسرة تجنيد المقاتلين والمجاهدين لصفوف التنظيمات الاسلامية على مختلف جبهات القتال،فوفقا لبعض الاحصائات فإن المناطق الأشد فقرا في تونس هي الأكثر تصديرا للمجاهدين وبخاصة النساء اللّواتي التحقن بالتنظيم، وأجد نفسي أميل قليلا إلى الرأي الذي يقول أن تفسير ما فعله الشباب التونسي في داعش أنهم أرادوا إثبات وتقديم أنفسهم كمسلمين مجاهدين حقيقيين وليسوا علمانيين كما تدعي تونس العلمانية بقدر ما أنهم كانوا يحاولون الهرب من الفقر والبطالة وسنوات القهر في سجون بن علي.

ولطالما كانت الحرية تطلب وتؤخذ لا تفرض بقوة أو بسلطان، ولطالما كان الفقر والاستبداد والاستغلال مصادر لكل الأمراض البشرية.

تسجيل الايميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك