في الوقت In Time

253

منذ أيام قابلت أحد الأصدقاء القدامى لدقائق معدودة خاطفة بعد ساعات العمل الطويلة ، قبل أن اعتذر منه لاضطراري للهرولة قبل موعد السجن المسائي اليومي الذي يجب قضاؤه في قسم الشرطة  ،فالتأخير عن موعد المراقبة والسجن المسائي ولو لدقائق قليلة قد يعرض لإجراء تعسفي (مخصوص) مثل الحبس الفوري في الحجز الكبير ثم الترحيل بطريقة مهينة بالكلابشات إلي النيابة ثم المحاكمة بتهمة الهروب ، مهما كانت الظروف القهرية أو الطارئة أو أسباب التأخير، تعجب صديقي من يومي الذي يشبه هرولة سندريلا في الحفلة قبل حلول منتصف الليل، هرولة من القسم صباحا من أجل توصيل الأطفال  للمدرسة، ثم هرولة للعمل، ثم هرولة لإعادة الأطفال من المدرسة، ثم هرولة لشراء احتياجات ضرورية أو إنهاء بعض الأوراق في ظل بطء حكومي وروتين قاتل، أوهرولة لزيارات هامة أو لمقابلة صديق أو لرعاية والدتي أو لشراء أدوية أو لطلب طبيب أو عند العودة من جلسات العلاج الكيماوي، أو هرولة لقضاء بعض الوقت معها بعد جلسات الغسيل الكلوى، ثم هرولة من أجل اوصول لقسم الشرطة قبل غروب الشمس من أجل قضاء ١٢ ساعة في زنزانة قذرة سيئة التهوية في هذه الايام الحارة.


قال أن يومي يشبه أحد أفلام الخيال العلمي الذي تم إنتاجه منذ سنوات قليلةيسمي In Time، ويحكي الفيلم عن المستقبل في إطار خيالي بعد حدوث تطور كبير في التكنولوجيا وعلم الجينات الي درجة أن الانسان لا يشيخ ولا يكبر بعد وصوله لسن٢٥ عام مهما عاش من عشرات أو مئات سنين بعد ذلك، فيحتفظ بمظهر وصحة سن الخامسة والعشرون مهما مر عليه من الزمن،شئ رائع صراحة أن يتوقف مظهر الشخص عند سن الخامسة والعشرين ولا يشيخ أبدا بعد ذلك،ولكن في الفيلم كان هذا غير مجاني بالطبع، وإلا لازحم البشر علي الكوكب من كثرة التناسل بلا موت وفناء، فتم وضع نظام عالمي اعبروه حل لتلك المشكلة، وهي أن يتم منح المرء عام واحد كرصيد اضافي لعمره بعد سن الخامسة والعشرون وعليه أن يعمل لزيادة رصيده/عمره، فمن يعمل ويكسب دقائق وأيام كمقابل علي ذلك يستطيع العيش لسنوات طويلة بنفس المظهر الشاب، ومن لا يعمل بالقدر الكافي يموت، هكذا بمنتهي البساطة.


ولكن لم يكن الأمر بهذه البساطة أيضا،  فقد أصبح الوقت هو العملة المستخدمة في العالم، لم تعد هناك نقود، بل ثواني وساعات وأيام وشهور ينفق منها الانسان علي كل شئ لكي يستطيع الحياة، وأصبح لكل إنسان "عداد" زمني مزروع في يده يبدأ في العد التنازلي بمجرد لحظة ولادته، وأصبح الراتب هو الوقت، والملة هي الوقت، فلكي تؤجر منزل عليك أن تدفع من رصيد الوقت لديك ، من عمرك، ولكي تتعلم أو تركب مواصلات أو تشتري طعام أو تحصل علي العلاج أو تذهب للنادي أو أماكن الترفيه لابد كذلك أن يتم الخصم من وقتك/عمرك في مقابل ذلك،حتي الرشوة يتم دفعها من الوقت والعمر، وبالتالي أصبح هناك من ينفذ رصيد عمره فجأة ويموت في مكانه بسبب زيادة الضرائب أو ارتفاع الأسعار أو بسبب المرض البسيط ، أو بسبب تكاسله أو إهمال العمل أو الانغماس في الملذات، وهناك من ينفذ رصيده ويموت بسبب الإفراط في النوم في أحد الأيام أو تأخره عن الوصول للعمل في الموعد المحدد، وأصبح هناك أيضا عصابات لسرقة الوقت أو أمار الآخرين، عن طريق السطو المسلح أو النصب والتحايل أو عن طريق الابتزاز والاستغلال.


الفيلم لم يكن فقط يصور حياة السرعة وفكرة اللهث من أجل لقمة العيش أو من أجل فقط البقاء علي قيد الحياة من خلال تلك القصة الخيالية، ولكن أيضا كان يحمل رسالة ضمنية لإدانة النظام العالمي وادانة الرأسمالية الجشعة وسياسات النيوليبرالية، فالاغلبية تنتهي حياتهم فجأة بسبب نفاذ الوقت رغم العمل المتواصل والشقاءوالدوران في الساقية مثل الثور، وهناك ايضا غلاء الأسعار وغياب العدالة الاجتماعية وضرائب يتم فضها لمصلحة الأغنياء، في حين أن هناك أقلية من البشر تتراكم ثرواتهم التي تتكون من الأعوام والشهور والدقائق والثواني بدون مجهود يذكر ، رجال اعمال وعائلات يتحكمون في المنظومة والاسعار والتشريعات والضرائب والسياسات الاقتصادية وتتراكم خزانات الوقت لديهم، فيما تنتهي أعمار الفقراء فجأة بسبب العجز عن دفع الضريبة والزيادات المفروضة، انها نظرية فائض القيمة التي تتحدث عنها الماركسية، فقد أدت المنظومة الاستغلالية التي كانت تحكم العالم إلي قيام ثورة اجتماعية ضدهاقامت بإعادة توزيع الثروة/ الوقت ، فثار الفقراء وهاجموا البنوك والقصور لسرقة خزائن الوقت وإعادة توزيع الأعمار مرة اخري بالتساوي بعد وفاة أم بطل الفيلم عندما كانت تملك ساعتين فق في عمرها وفوجئت أن تذكرة الأتوبيس أصبحت تساوي ٣ ساعات من العمر، فماتت في الطريق وهي تجري قبل أن يقابلها ابنها ويعيد شحن رصيدها بثانيتين.



أفكار كثيرة أثارها ذلك الفيلم لدي، ففكرة الهرولة  الدائمة قبل نفاذ الوقت ، والتضحية بأشياء هامة احيانا لتحقيق أشياء ربما تكون اكثر أهمية في الفترة الزمنية المحدودة، قانون المراقبة الذي تم صياغته في أربعينيات القرن الماضي من أجل مراقبة اللصوص والبلطجية ليلا وأصبح يتم استخدامه كسجن مسائي وللتنكيل ببعض المعارضين .


تساؤلات أيضا عن فكرة النظام، حول  أن يتم فرض نظام ما علي مجموعة ما من البشر، قواع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تنظم حياتهم قد تكون جديدة وربما تكون ظالمة، وربما لا، قد يبدأ الناس في الاعتراض والتململ في البداية حتي يصبح هذا النظام أمر واقعا ويتم التأقلم، نظام حكم قد يتم فرضه بالقوة سواء  كانت قوة عسكرية أو روحانية  أو كليهما، أو يأتي بعد نقطة فاصلة مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الثورات، ويظل النظام في استقرار تاملعدة عقود أو قرون ، واذا تحدث أحدهم أنه يمكن تغيير تلك المنظومة لاعتبره الآخرون مجنونا، ثم تحدث الشرارة فجأة بعد تراكمات عديدة وبعد حدث ما.


منذ مائة عام لو كان هناك من زعمأن ثورة ستقوم في روسيا ضد القيصر لأتهمه وقتها بالجنون، وفي عز جبروت هتلر لم يكن هناك من يجرؤ علي مجرد التفكير بأن هتلر سيسقط سقوط مدوي، ومنذ أربعون عاما لو كان هناك من زعم أن الاتحاد السوفيتي سينهار ويتفكك فجأة لضربوه في الشوارع أو اختفي في معتقلات سايبيريا ، وكذلك الحال بالنسبة للممالك والامبراطوريات القديمة والحديثة، والديكتاتوريات كذلك إلي زوال مهما طال الوقت.


دوام الحال من المحال، هذه هي القاعدة الراسخة، مهما طال الوقت.



تسجيل اليميل

شارك وفكر معانا وابعت تدوينتك