في أقسام الحضّانات بالمستشفيات الحكومية وبعض المستشفيات الخاصة، تواجه العديد من الأمهات صعوبة يومية في الحصول على حقنة “ألفيوفاكت”، المستخدمة في علاج حالات الضائقة التنفسية لدى الأطفال المبتسرين الذين لم يكتمل نمو رئاتهم. وغالبًا ما يستغرق العثور على أمبول واحد من هذا العقار ساعات طويلة، بسبب نقصه في الأسواق، رغم اعتباره أحد العلاجات الأساسية لتقليل مضاعفات الجهاز التنفسي لدى هذه الفئة من الأطفال.
ويولد في مصر سنويًا نحو 1.9 مليون طفل وفقًا للإحصاءات الرسمية الصادرة عام 2024، فيما تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن المضاعفات المرتبطة بالولادة المبكرة تمثل نحو 20% من إجمالي وفيات الأطفال دون سن الخامسة في مصر، وهو ما يعكس حجم المشكلة وخطورتها، ورغم غياب إحصائية رسمية دقيقة تحدد نسبة المواليد المبتسرين مقارنة بإجمالي الولادات، إلا أنه بالاستناد إلى المعدلات العالمية المعروفة (بين 5% و18%) يمكن تقدير أن ما بين 95 ألفًا و342 ألف طفل يولدون مبكرًا سنويًا في مصر. كما أن نحو 380 ألف طفل يواجهون خطر الوفاة المبكرة حتى سن الخامسة نتيجة المضاعفات الناجمة عن الولادة المبتسرة، بحسب تقديرات المنظمة الدولية.
دواء ألفيوفاكت (Alveofact) هو أحد أهم الأدوية المتاحة في مصر لعلاج متلازمة ضيق التنفس الحاد عند الأطفال المبتسرين، وهي حالة طبية طارئة تهدد حياة الرضع الذين يولدون قبل اكتمال نمو الرئة، في الوضع الطبيعي، تفرز رئة الجنين مادة تُسمى السيرفاكتانت الرئوية تعمل على منع انهيار الحويصلات الهوائية أثناء التنفس، لكن حين يولد الطفل مبكرًا، غالبًا لا يكون هذا الإفراز قد اكتمل بعد، ما يؤدي إلى فشل في التنفس يحتاج معه الرضيع إلى دعم عاجل، والدواء الوحيد القادر على إنقاذه هو حقنة ألفيوفاكت.
شهد سعر حقنة ألفيوفاكت في السوق المصرية قفزات متتالية خلال السنوات الأخيرة، إذ تُباع حاليًا في عدد من الصيدليات بنحو 6,635 جنيهًا للفيال الواحد، بينما تُشير قوائم تسعير أخرى إلى وصولها مؤخرًا إلى 7,400 جنيه بعد آخر تحديث في سبتمبر 2024، في حين أن سجلات سابقة أوضحت أن السعر كان يدور حول 4,400 – 4,700 جنيه فقط قبل عدة أعوام.
وبحسبة بسيطة، يتضح أن الحقنة ارتفع سعرها بما يتراوح بين 50% إلى 57% خلال نحو خمس سنوات، وهو ارتفاع ضخم إذا ما قورن بكونها دواءً منقذًا للحياة لا يوجد له بديل متاح في السوق المصرية، هذا يعني أن أسرة أي طفل مبتسر يحتاج إلى العقار تُجبر على مواجهة تكلفة باهظة في ظل محدودية توفره بالمستشفيات الحكومية.
ويُشار إلى أن الدواء يُعد من العقارات المستوردة المعتمدة على تقنيات إنتاج خارجية (مشتق من رئة الأبقار كمصدر طبيعي لمادة السيرفاكتانت)، ما يزيد من حساسيته للتغيرات في سعر العملة والتكاليف الجمركية، فضلًا عن سياسات الاستيراد والتوزيع، ورغم ذلك، فإن وجود تفاوت في الأسعار بين المستشفيات الحكومية والقطاع الخاص يثير تساؤلات إضافية حول آليات التسعير والتوزيع.
ما يزيد من خطورة الأزمة أن هذا الدواء لا يملك بديلًا معتمدًا في السوق المحلي، ولا توجد شركات مصرية تنتج مثيلًا له حتى الآن، ووفق شهادات أطباء أطفال حديثي الولادة، تحدثوا إلينا فإن “كل دقيقة تأخير في إعطاء الحقنة للرضيع قد تعني مضاعفات قاتلة أو فقدان الحياة”.
ويوضح لنا محمود فؤاد -مدير المركز المصري للحق في الدواء-، خريطة بأبرز المستشفيات التي شهدت وفيات للأطفال حديثي الولادة، خلال الفترة الماضية بسبب عدم توافر العقار، وهي: مستشفى الشاطبي الجامعي، مستشفى الدمرداش الجامعي، مستشفى شرق المدينة، مستشفى المنصورة الدولي، ومستشفى الأطفال الجامعي بأسيوط، إلى جانب مستشفى معهد ناصر، ومستشفى ميت غمر بالدقهلية، ومستشفى دمنهور التعليمي. كما ترد استغاثات من مستشفى مسنا أبو حمص للأطفال التخصصي، ومستشفى الأحرار التعليمي، ومستشفى الجلاء التعليمي، فضلًا عن جمعية مرسال الخيرية، ومستشفى جامعة قناة السويس التعليمي، ومستشفى الحياة ببورسعيد.
مصدر مسؤول داخل وزارة الصحة، أقر في حديث مقتضب معنا بالأزمة، لكنه رفض الحديث عنها، فيما طلب مصدر آخر سؤال هيئة الدواء عن الأزمة، بدلًا من توجيه السؤال لوزارة الصحة، وقد تواصلت زاوية ثالثة مع 3 مسؤولين داخل هيئة الدواء للوقوف على تفاصيل الأزمة، لكن لم يتثنى لنا الحصول على توضيح حتى كتابة هذه السطور.
نوصي للقراءة: نقص الأدوية يضاعف معاناة مرضى السرطان والفشل الكلوي
الحقنة لمن يملك ثمنها!
كشف مصدر صيدلي تحدث إلى زاوية ثالثة مفضّلًا عدم ذكر اسمه، أن هذا النوع من الحقن، “لها تركيزان، يبلغ السعر الرسمي للأولى 6500 جنيه تقريبًا، بينما يصل سعر الثانية إلى 7500 جنيه”، مشيرًا إلى أن العقار يشهد حاليًا توافرًا نسبيًا في الأسواق، لكنه يلفت إلى أن “الأزمة بلغت ذروتها قبل شهرين فقط، حينما اختفى الدواء تمامًا، وارتفع سعر الحقنة في السوق السوداء إلى نحو 12 ألف جنيه”.
ويصف الصيدلي أهمية العقار بأنها مسألة “حياة أو موت بكل اختصار”، موضحًا: “وجود الحقنة يعني أن الطفل لديه فرصة للبقاء، بينما غيابها قد يؤدي إلى الوفاة لا قدر الله”. ويوضح أن “السوق الموازي لعب دورًا استثنائيًا خلال الأزمة، رغم عدم قانونيته: “بعض التجار استوردوا العقار من الخارج لإنقاذ حياة الأطفال، وكانوا حريصين على طرحه بأسعار مقبولة، ليست مساوية للسعر الرسمي بالطبع، لكنها أقرب إليه كثيرًا، كانوا يصرّون أن الهدف ليس المكسب بل إنقاذ حياة الصغار”.
ويختم حديثه قائلاً: “ما فعله هؤلاء التجار، رغم أنه خارج الإطار القانوني، ساعد في سد فجوة قاتلة، لو انتظرنا الدولة كي تتحرك عبر قنواتها الرسمية، كان الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا، وخلاله ربما كان كثير من الأطفال فقدوا حياتهم”.

ما أهمية هذه الأدوية؟
توضح الدكتورة سمر رضا، – استشاري طب الأطفال وحديثي الولادة-، في حديث مع زاوية ثالثة أن الأطفال المبتسرين يواجهون عند الميلاد مجموعة من المخاطر الصحية، على رأسها متلازمة الضائقة التنفسية (RDS)، وهي من أكثر المشكلات شيوعًا وخطورة بين هذه الفئة.
تحدث هذه المتلازمة، وفق سمر، نتيجة غياب أو نقص مادة طبيعية تُسمى السيرفاكتانت، التي يبدأ جسم الجنين في إفرازها بين الأسبوع العشرين والرابع والعشرين من الحمل، ويكتمل إنتاجها عادة مع بلوغ الأسبوع الرابع والثلاثين، وتكمن أهميتها في الحفاظ على الحويصلات الهوائية مفتوحة أثناء عملية الزفير عبر تقليل التوتر السطحي، وبالتالي فإن الأطفال الذين يولدون قبل هذا العمر الحملي يكونون أكثر عرضة للإصابة بضيق التنفس وما يترتب عليه من مضاعفات.
وتقول سمر إن عقاقير مثل ألفيوفاكت، وسيرفانتا (Survanta) وكوروسيرف (Curosurf) تُعد حجر الأساس في إنقاذ هؤلاء الرضع، إذ تعمل على تعويض نقص مادة السيرفاكتانت، وتساعد بشكل مباشر على تحسين تبادل الغازات وتقليل الاعتماد على أجهزة التنفس الصناعي. كذلك تقلل هذه العقاقير من خطورة الإصابة بمضاعفات بالغة مثل مرض الرئة المزمن أو النزيف الدماغي الداخلي، إلى جانب مساهمتها في خفض نسب الوفيات المرتبطة بالمتلازمة وفق ما أثبتته دراسات طبية عديدة.
وأكدت استشاري طب الأطفال وحديثي الولادة في حديثها معنا أن هذه العقاقير يمكن أن تُعطى إما بشكل وقائي، مباشرة بعد الولادة للرضع المهددين بالإصابة، أو بشكل علاجي بعد تشخيص المتلازمة عبر الأشعة وظهور الأعراض السريرية.
وتوضح سمر أيضًا أنها في بعض الحالات قد يحتاج الطفل إلى أكثر من جرعة وفقًا لتطور حالته، مؤكدة إلى أن حياة الرضع المبتسرين تكون مهددة بشدة إذا لم يحصلوا على هذه العقاقير، حيث قد يتعرضون لنقص حاد في الأكسجين يؤثر على الدماغ والقلب والكلى، أو لفشل تنفسي كامل، بل وقد يواجهون خطر الوفاة خلال الساعات أو الأيام الأولى بعد الولادة.
نوصي للقراءة: كيف تحولت تجارة الأدوية منتهية الصلاحية إلى سوق مربحة؟
أطفال بمواجهة الموت
تتفق الشهادات التي حصلنا عليها من مواطنين بعدة محافظات، على مضاعفة أسعار الدواء خلال السنوات الماضية، وعدم توافره بشكل شبه كامل في المستشفيات الحكومية، ووحدات التأمين الصحي، بينما تطرحه المستشفيات والمراكز الخاصة بأسعار متفاوتة، عادة لا تتمكن الأسر من توفيرها.
تقول إيمان السيد (32 عامًا) من محافظة الجيزة، إن ابنها وُلد في الشهر السابع، وكان بحاجة عاجلة إلى حقنة لتوسيع رئتيه، كان ذلك في أبريل الماضي. وتضيف: “كنت أظن أن المستشفى الحكومي الكبير الذي وُلد فيه سيؤمّن له العلاج، لكنني فوجئت بأن الحقنة غير متوافرة، ويجب إحضارها من خارج المستشفى.”
تحكي إلينا معاناة الحصول على الدواء، بدأ الزوج رحلة بحث شاقة بين عشرات الصيدليات في القاهرة والجيزة دون جدوى، بعض الصيدليات الخاصة عرضت الحقنة بسعر يقترب من ثمانية آلاف جنيه، بينما السعر الرسمي أقل من ذلك، وهو ما وضع الأسرة أمام معادلة قاسية: إما إنقاذ حياة الرضيع بأي ثمن، أو مواجهة المصير المحتوم.
وتضيف: “اضطررت للاستدانة من الأقارب حتى أشتري الحقنة عبر وسيط، وحين سلّمتها للطبيب أخبرني أن هذا الدواء يجب أن يكون متاحًا بلا مقابل داخل المستشفيات الحكومية، لإنقاذ الأطفال مثل ابني أحمد، لكن نقص الدواء عمومًا بات أزمة متكررة.”
ومن الجيزة إلى الإسكندرية، وسوهاج والبحيرة ومحافظات أخرى تبقى المعاناة واحدة، تحكي لنا مديحة عزت أن طفلتها وُلدت في الأسبوع الثاني والثلاثين، وأُدخلت إلى حضّانة مستشفى الشاطبي في محافظ الإسكندرية. وبعد الفحوصات الأولية، أُبلغت بأن الرضيعة في حاجة فورية إلى حقنة توسيع الرئة.
تقول: “أخبرتني الممرضة أن الحقنة غير متوافرة، وإن كان لديّ معارف يمكنهم إحضارها من خارج المستشفى فليفعلوا، كنت قد خرجت للتو من عملية قيصرية، غير قادرة على الحركة، بينما زوجي يسعى لجمع المال، ثم بدأت رحلة اتصالات مضنية مع الأصدقاء والمعارف للبحث عن الحقنة، مضيفة: “تراوحت الأسعار بين 7 إلى 7500 جنيه، بحسب كل صيدلية أو وسيط، وبعد يوم كامل من القلق والانهيار، حصلت الأسرة على الحقنة. وتقول الأم: “اليوم بلغت يارا عامها الثاني، لكن تلك التجربة كانت قاسية ولا تنسى”.
كذلك تروي دعاء عبد البر أن ابنها وُلد في مستشفى أبو حمص بمحافظة البحيرة، وكان يعاني من ضائقة تنفسية منذ اللحظة الأولى. “أخبرني الأطباء أن الحل هو حقنة ألفيوفاكت، لكن المستشفى لا يملك أي جرعة متاحة. حاول زوجي الاستفسار من الإدارة فقيل له إن العقار موجود على قوائم هيئة الدواء، لكنه لم يصل بعد إلى المستشفى.”
تضيف دعاء: “كنا أمام خيار مستحيل: إما انتظار التوزيع، أو البحث عن الحقنة خارج المستشفى، وبالتالي نقلنا الطفل بسيارة إسعاف خاصة إلى معهد ناصر في القاهرة مقابل خمسة آلاف جنيه، وخلال الطريق تدهورت حالته بسبب التأخير.”
لكن الصدمة لم تتوقف هناك، فحتى في معهد ناصر، لم تكن الحقنة متوافرة. استمر البحث حتى وجدها الزوج في صيدلية خاصة بمنطقة المهندسين مقابل ستة آلاف وثمانمائة جنيه، أي أعلى من السعر الرسمي. مضيفة: “تمكن الأطباء من إعطاء الحقنة لابني، وتعافى لاحقًا، لكنني خرجت من التجربة بإحساس مرير أن حياة الأطفال الخُدّج معلّقة بمصادفة بحتة: هل تجد الأسرة الدواء في الوقت المناسب أم لا.”
وتقول صفاء البكري، من سوهاج إن طفلها وُلد في الأسبوع الحادي والثلاثين يعاني من ضائقة تنفسية حادة، وأخبرها الأطباء بضرورة إعطائه حقنة إكمال الرئة فورًا، لكنها فوجئت بعدم توافرها في المستشفى الجامعي. اضطر زوجها للبحث بين صيدليات سوهاج وأسيوط دون جدوى، حتى لجأ أحد الأقارب في القاهرة لتوفيرها بسعر تجاوز سبعة آلاف جنيه. وتضيف: “نجا حسن بفضل الحقنة، لكن التجربة كشفت لي أن الحصول على الدواء في الصعيد أصعب بكثير، وكأن حياة أطفالنا أقل أولوية.”
وتتقاطع شهادات الأمهات مع ما رصده بحث ميداني أجرته زاوية ثالثة حول توافر وأسعار حقنة ألفيوفاكت وغيرها من أدوية إكمال الرئة في السوق المصرية. فقد تواصلنا مع 10 صيدليات كبرى في القاهرة والجيزة والإسكندرية والمنصورة وسوهاج، أكد معظمها عدم توافر العقار منذ أشهر، بينما عرضت ثلاث منها إمكانية تدبيره عبر “وسطاء” أو “مخازن خاصة” بأسعار تتجاوز في كل الأحوال السعر الرسمي البالغ 6635 جنيهًا، وقد تراوحت العروض الفعلية التي حصلنا عليها بين 7000 و8000 جنيه للحقنة الواحدة.
هيئة الدواء تقر بأهمية الدواء كـ”منقذ للحياة”
في سبتمبر 2021، أصدرت هيئة الدواء المصرية توجيهًا رسميًا لمقدمي الرعاية الصحية بخصوص عقاقير السيرفاكتانت الرئوي، التي تُستخدم في علاج متلازمة الضائقة التنفسية عند الأطفال المبتسرين، ومن بينها ألفيوفاكت. وشددت الهيئة في بيانها على ضرورة الالتزام الصارم بإجراءات المتابعة والتوثيق عند إعطاء هذه الحقن، نظرًا لحساسيتها البالغة وأثرها المباشر على حياة الأطفال حديثي الولادة.

وطلبت الهيئة من الأطباء ملء نموذج متابعة خاص لكل حالة يُعطى لها السيرفاكتانت، يتضمن بيانات تفصيلية عن العلاج، ونتائج الفحوص الطبية قبل وبعد إعطائه، إضافة إلى متابعة دقيقة لمعدل ضربات القلب وتشبع الأكسجين ومحاولة فصل الطفل عن جهاز التنفس الصناعي بعد الحقن مباشرة.
واستندت الهيئة في توصياتها إلى الإرشادات الأوروبية لعام 2022 الخاصة بعلاج متلازمة الضائقة التنفسية (RDS)، والتي تؤكد أن إعطاء السيرفاكتانت يحسن معدلات البقاء على قيد الحياة ويقلل من المضاعفات مثل استرواح الصدر. كما أوصت باتباع تقنيات حديثة لإدخال العقار، مثل أسلوب IN-SUR-E أو الطرق الأقل تدخلًا (LISA)، بهدف تقليل الأضرار الرئوية المصاحبة للتنبيب.
تكشف هذه التوصيات أن ألفيوفاكت وأشباهه يُصنفون كأدوية منقذة للحياة، لكن التعامل معها في مصر يخضع لضوابط طبية صارمة، تركز على الاستخدام الآمن داخل الحضّانات، بينما لم تُشر الهيئة في بيانها إلى مسألة توافر الدواء أو مدى سهولة حصول المستشفيات عليه، الأمر الذي يترك فجوة بين البروتوكولات والواقع الميداني داخل قطاع الصحة.
نوصي للقراءة: نقص الأدوية النفسية في مصر: صراع يومي من أجل البقاء
فجوة خطيرة في سوق الدواء المصري
يؤكد محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، في حديث إلى زاوية ثالثة، أنه رصد خلال أسبوعين قائمة بأصناف دوائية لا بدائل لها في السوق المصرية، ويصف الأمر بأنه “مصيبة كبرى”، لكون هذه الأدوية منقذة للحياة. ويشير إلى أن القائمة تضم ثلاثة من أهم أدوية القلب غير المتوفرة حاليًا، إلى جانب عقار “ألفيوفاكت” (Alveofact) المخصّص للأطفال المبتسرين، وهو العلاج الوحيد المتاح لمتلازمة الضائقة التنفسية.
ويكشف فؤاد أن ثمن الحقنة يبلغ نحو 6000 جنيه، وأنها تُستورد من ألمانيا، مضيفًا أنه تواصل مع مصادر داخل هيئة الدواء أكدت وجود رصيد فعلي من العقار، لكن صرفه لا يتم إلا بتعليمات مباشرة من رئيس الهيئة أو نائبه، دون توضيح الأسباب. ويعلّق: “قد تكون هناك اعتبارات فنية لا أعرفها، لكن ما أعرفه يقينًا أن هناك مستشفيات تطلق استغاثات فعلية بسبب وفاة أطفال لعدم حصولهم على هذه الحقنة المنقذة للحياة.”
ويتابع: “كيف يمكن لبلد مثل مصر، التي تشهد أكثر من مليون و600 ألف ولادة سنويًا، أن تواجه هذا النقص؟ كثير من هؤلاء المواليد يدخلون الحضانات بسبب الصفراء أو عدم اكتمال الرئة، وحالات عدم اكتمال الرئة تتطلب الحقنة خلال 24 إلى 48 ساعة لإنقاذ حياة الرضيع، واصفًا ما يحدث بأنه مأساة بكل المقاييس.”
ويؤكد مدير المركز، في حديثه معنا أنه أرسل بالفعل شكاوى واستفسارات إلى مستشار رئيس الوزراء بشأن الأزمة ولم يتلق ردًا حتى الآن، مشددًا على أن القضية تمس كل أسرة مصرية، ويضيف أن مصر تحتاج إلى نحو 4000 حقنة سنويًا، بينما الرصيد المتوافر أقل من ذلك بكثير، مشيرًا إلى وجود صنف بديل يُقال إنه سيُطرح قريبًا بسعر يصل إلى 10 آلاف جنيه للحقنة الواحدة، وهو ما يضاعف العبء على الأسر.
ويرى فؤاد أن الأزمة تكشف حجم الاستهانة بالملف الدوائي، ليس فقط في ما يخص الأطفال، بل أيضًا في ما يتعلق بالأدوية المنقذة للحياة بوجه عام، مستشهدًا بأزمة نقص أدوية القلب، ويتساءل: “كيف يمكن لمريض يصاب بأزمة قلبية أو جلطة أو رجفان أن لا يجد دواءه في مصر؟ هذا أمر غير معقول على الإطلاق.”
وينتقد مدير المركز المصري للحق في الدواء أداء هيئة الدواء المصرية، موضحًا أن الهيئة تحقق إيرادات تصل إلى 200 مليون جنيه شهريًا من رسوم تسجيل الأدوية، بينما لا يتجاوز تسجيل دواء جديد بعض الأوراق وتكلفة تقدَّر بمليون جنيه. ويقول: “دور الهيئة يجب أن يكون واضحًا في مواجهة النقص، خصوصًا أنها نجحت في الفترة الأخيرة حتى أبريل الماضي في معالجة أزمات سابقة للنواقص وتوفير أدوية مستوردة عديدة، رغم ما صاحب ذلك من مغالاة غير مسبوقة في الأسعار. لكن أن نصل اليوم إلى استغاثات من مستشفيات كبرى بسبب غياب أدوية منقذة للحياة، فهذا يطرح تساؤلًا وجوديًا: ماذا نفعل إذن؟”
من يحاسب هيئة الدواء؟
يطالب محمود فؤاد في حديثه معنا بضرورة فتح تحقيق عاجل في أزمة نقص الأدوية المنقذة للحياة، ويقول: “من غير المقبول أن نصل في مصر إلى مرحلة يكون فيها رصيد ثلاثة أدوية أساسية لعلاج أمراض القلب صفراً، قبل ساعات تواصل معي أحد كبار أطباء القلب وأكد أنه لا يملك أي معلومة عن موعد توافر هذه الأدوية، وهو ما يضع الأطباء والمرضى معاً في مأزق خطير.”
ويضيف: “عندما جرى إنشاء هيئة الدواء عام 2019، كان الهدف الرئيسي أن تكون لدينا منظومة دقيقة لتتبع حركة الدواء: حجم الإنتاج المحلي، معدلات استهلاك المرضى، حجم الفائض المتوافر، وكذلك المخزون الاستراتيجي في مخازن الإمداد الطبي، هذه البيانات هي التي تُمكّن الدولة من إدارة الأزمات؛ سواء في حالات الحرب أو الجوائح أو أي طارئ آخر، لكن المؤسف أن هذا الدور ما زال غائباً.”
ويؤكد فؤاد أن “أدوية القلب تحديداً لا تحتمل أي تأخير؛ فهناك أمراض يمكن أن ينتظر مريضها أياماً أو حتى أسابيع، أما مريض القلب فإن توقف الدواء لديه قد يعني توقف الحياة نفسها، لذلك فإن اختفاء هذه الأدوية من الأسواق يمثل خطراً مباشراً على حياة آلاف المرضى.”
ويتابع: “من هنا أطالب بفتح تحقيق عاجل يحدد كيف وصلنا إلى حالة “صفر رصيد” في أدوية قلب أساسية، وما إذا كانت هناك أخطاء في إدارة المخزون أو في تقدير احتياجات المرضى لأن غياب الخريطة الواضحة لاستهلاك المصريين من الأدوية هو أصل الأزمة؛ فلو كانت الهيئة تملك بيانات دقيقة بعدد المرضى واحتياجاتهم، لكان من السهل تحديد حجم الإنتاج المطلوب وضمان عدم حدوث فجوات قاتلة في التوافر الدوائي”.
وتعاني مصر، في الفترة الأخيرة، أزمة كبرى تتعلق باختفاء عشرات الأصناف الدوائية المستخدمة في علاج الأمراض المزمنة، نتيجة ارتفاع سعر الدولار، تجاوزت نحو ألف صنف، أبرزها أدوية ارتفاع ضغط الدم، السكري، أمراض القلب، المرارة، الغدة الدرقية، الكلى، واضطرابات المعدة، بالإضافة إلى أدوية حمى البحر الأبيض المتوسط، السرطان، نقاط الأنف للرضع والبالغين، وأدوية البرد وأمراض النساء. وتشير تقديرات رئيس غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات، جمال الليثي، في تصريحات إعلامية خلال فبراير الماضي، إلى أن نقص الأدوية في السوق يتراوح بين 30% و40%، من بينها 15% من الأدوية التي لا تتوفر لها بدائل.
وتضم سوق الدواء المصرية نحو 17 ألف مستحضر دوائي تُنتَج من خلال حوالي 170 مصنعًا. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار حوالي 400 صنف دوائي، بنسبة 20 إلى 30% للأدوية المخصصة لعلاج الأمراض المزمنة، وبنسبة تتراوح بين 30 و50% للأدوية غير الأساسية والموسمية، إلا أن مبيعات الأدوية في مصر بلغت نحو 215 مليار جنيه خلال عام 2024، مقارنة بـ 154.7 مليار جنيه في 2023، مما يعكس زيادة تقدر بحوالي 40%، وفقًا لتقديرات رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، علي عوف. كما توقع في تصريحات سابقة أن تقوم هيئة الدواء المصرية برفع أسعار نحو 1000 مستحضر دوائي فقط خلال عام 2025.
بالنسبة لأعداد الصيادلة، فتُقدَّر بنحو 213 ألف صيدلي يعملون داخل 80 ألف صيدلية على مستوى الجمهورية. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن معدل أعداد الصيادلة بالنسبة لعدد السكان في مصر يبلغ صيدليًا لكل 438 مواطنًا، بينما يتراوح المعدل العالمي بين صيدلي لكل 1100-1600 فرد، أو ما يعادل 23 صيدليًا لكل 10,000 مواطن. أما بالنسبة للصيدليات، فهناك صيدلية لكل 1261 مواطنًا في مصر، مقارنة بالمعدل العالمي الذي يتراوح بين صيدلية لكل 3500 – 5000 فرد.
وبالنسبة لأدوية الأطفال فإن الأزمة لم تعد مجرد نقص دواء في سوق مترنح بفعل تقلبات الدولار وسياسات الاستيراد والتسعير، بل صارت سؤالًا أخلاقيًا وإنسانيًا عن قيمة الحياة في مصر.
آلاف الرضع يولدون سنويًا قبل اكتمال رئاتهم، بعضهم ينجو بالصدفة إذا حالف أسرته المال أو المعرفة لتأمين الحقنة، والبعض الآخر يختفي اسمه بهدوء من سجلات الحضّانات نتيجة جرعة غابت أو علبة لم تُفرج عنها.
لذلك فإن غياب دواء منقذ مثل ألفيوفاكت ليس مجرد أزمة دوائية، بل مرآة لخلل أعمق في منظومة الحق في العلاج، حيث يبقى الرضيع المبتسر معلقًا بين أنفاسه الأولى ومصادفة عثور أسرته على أمبول حياة.