بينما ترتفع تكاليف التقاضي وتضيق نوافذ العدالة، ظهر شرط جديد يُهدد بمزيد من العزل القانوني للفئات الهشة: “كشف جنائي” مقابل ورقة من المحكمة. قرار صادر عن النيابة العامة، الأحد 13 يوليو، نشر عبر صفحات تابعة للعاملين بوزارة العدل على مواقع التواصل الاجتماعي، نص على إلزام المواطنين بإجراء كشف جنائي عند طلبهم الحصول على بعض خدمات النيابة، أبرزها استخراج صورة رسمية من محاضر القضايا، أو الأحكام القضائية، أو الشهادات الصادرة من واقع الجدول. القرار يتضمن أيضًا ضرورة إجراء الكشف الجنائي للتأكد من وجود أية مطالبات مالية مستحقة على المواطن من عدمه، قبل السماح له بالحصول على الخدمة المطلوبة.
ويرى حقوقيون ومحامون أن هذا القرار يمثّل انتهاكًا جديد للحق في الوصول إلى العدالة والمعلومات، باعتبار أن هذه الخدمات لا ترتبط بالضرورة بأي خلفية جنائية، وأن اشتراط إجراء “كشف جنائي” قد يفتح الباب لتعقيد الإجراءات أمام المواطنين.
في هذا السياق، يؤكد المحامي خالد الأنصاري في حديثه إلى زاوية ثالثة أن القرار يطعن في صميم حق دستوري أصيل، ويقول: “حق التقاضي من أهم الحقوق التي كفلها الدستور المصري والقوانين المحلية والاتفاقيات الدولية، لأنه أساس الاستقرار المجتمعي، ولا يجوز تقييده بأي صورة.”
ويضيف أن ربط تقديم خدمات للمتقاضين بإجراء كشف جنائي يُعد تقييدًا غير مبرر لحق أساسي، متسائلًا: “كيف يُعقل أن يتوجه مواطن إلى النيابة لتقديم تظلم أو طلب قانوني، فيُفاجأ بإلقاء القبض عليه بسبب حكم غيابي؟”
ويشير الأنصاري إلى أن هذا الإجراء يُطبق فعليًا في بعض المحاكم، مثل المحكمة الاقتصادية، رغم عدم صدور قرار رسمي بذلك، ما أدى إلى حرمان بعض المتقاضين من ممارسة حقوقهم القانونية، وتحولهم إلى محل مساءلة أثناء طلب خدمة عدلية.
ويلفت إلى خطورة مركزية الإجراءات، موضحًا على سبيل المثال: “إذا خضع مواطن للكشف في القاهرة وظهر حكم صادر بحقه في أسوان، يُحتجز ويُرحّل إلى النيابة المختصة بدلًا من تمكينه من الطعن من محل إقامته، وهو ما يناقض مبدأ العدالة.”
ويحذر الأنصاري من الثغرات الفنية في أنظمة الكشف الجنائي، مثل تشابه الأسماء أو تأخر تحديث الأحكام المنفذة، ما قد يعرّض أبرياء لمساءلة قانونية جسيمة. فعلى سبيل المثال إذا صدر لمواطن حكم طرد، فذهب للطعن عليه أمام المحكمة، فجرى توقيفه بسبب تشابه اسمه مع مُدان في محافظة أخرى، ففقد بذلك فرصة الدفاع عن حقه، ونُفّذ الحكم ضده دون أن يُمنح فرصة للطعن.
ويؤكد الأنصاري أن مثل هذه القيود قد تؤدي إلى عواقب اجتماعية خطيرة، من بينها تصاعد الشعور بالظلم وارتفاع معدلات الجريمة نتيجة انسداد سبل العدالة، مشددًا على أن الدستور المصري ينص بوضوح على حماية هذا الحق، في مواده 85، 92، و97.
نوصي للقراءة: حق التقاضي في مصر أمام اختبار الرسوم القضائية: المحامون ينتفضون
حين يتعارض الإجراء مع النص: الفئات الأضعف تدفع الثمن
ينص الدستور المصري في مادته 85 على حق كل فرد في مخاطبة السلطات العامة كتابةً وبتوقيعه، ويؤكد في المادة 92 أن الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا يجوز تعطيلها أو الانتقاص منها. وتُشدد المادة 97 على أن التقاضي حق مصون ومكفول للجميع، وأن الدولة ملتزمة بتقريب جهات التقاضي وضمان سرعة الفصل في القضايا، مع حظر المحاكم الاستثنائية وتحصين أي عمل إداري من رقابة القضاء.
انطلاقًا من هذه الضمانات، ترى المحامية عزيزة الطويل، من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن القرار “يمثل انتهاكًا صريحًا لمبدأ تكافؤ الفرص والحق في الوصول إلى العدالة”. وتوضح في حديثها إلى زاوية ثالثة أن القرار “معيب ومخالف للدستور، لأن الأصل هو تمكين المواطنين جميعًا من حقوقهم بلا تمييز، خاصة حق التقاضي وإنفاذ القانون”. وتشير إلى أن القرار قد يحرم غير القادرين من استخراج أوراق قانونية ضرورية، لمجرد احتمال وجود حكم غيابي ضدهم، وهي أحكام كثيرًا ما تصدر دون إعلان قانوني سليم.
وتضيف الطويل أن مواطنين كثيرين يُفاجأون بوجود قضايا لم يُبلَّغوا بها، من لحظة التبليغ وحتى صدور الحكم، نتيجة ثغرات في نظام الإخطار، ما يؤدي إلى حرمانهم من حقوقهم بسبب إجراءات لم يكونوا على علم بها.
وتُحذر من أن القرار سيُقصي تحديدًا الفئات الأكثر فقرًا وتهميشًا، خاصة أولئك الذين لا يملكون أتعاب محاماة ويضطرون للقيام بإجراءاتهم بأنفسهم، وتقول: “هؤلاء قد يُمنعون من دخول النيابات أو المحاكم، التي تتحول بفعل القرار إلى ما يشبه الكمين، ويُعرَّضون للتوقيف أو الترحيل دون أي استعداد قانوني.”
وتؤكد الطويل أن النيابة، بحكم دورها، ليست جهة لتنفيذ الأحكام، بل من المفترض أن تكون أداة لتمكين الحقوق، لا عائقًا أمامها. وتلفت إلى أن تأثير القرار يمتد إلى جهات أخرى، مثل مجلس الدولة، حيث يُمنع بعض المتقاضين من تنفيذ أحكام صادرة لصالحهم بسبب مطالبات مالية سابقة، وغالبًا ما يُطلب منهم سدادها قبل الطعن، وهو ما يُخالف مبدأ العدالة. وتضرب مثالًا بحالة حكم قضى بتعيين شخص، لكنه لم يُنفذ لأن عليه مطالبة مالية قديمة تراكمت عليها فوائد وصلت إلى ملايين الجنيهات، ما جعل سدادها شرطًا للحصول على حقه.
وتختتم الطويل تحذيرها بالإشارة إلى خطورة الكشف الجنائي، مثل التوقيف بسبب تشابه الأسماء، أو الترحيل دون فرصة للاستعانة بمحامٍ، أو إجبار المواطن على معارضة حكم دون تجهيز دفاعه. وتقول: “هذا النوع من القيود يُضعف ثقة المواطنين في منظومة العدالة، ويُفاقم شعورهم بالظلم والتهميش، ما قد يؤدي إلى آثار اجتماعية خطيرة تمس الاستقرار وتزيد من معدلات الجريمة.”
نوصي للقراءة: رفع رسوم التقاضي في مصر.. دعوى قضائية تتهم الحكومة بـ«الغدر»
الكشف الجنائي شرطًا إضافيًا يقيد حق التقاضي
يُضاف قرار النيابة العامة الأخير، بفرض شرط الكشف الجنائي للحصول على خدمات عدلية أساسية، إلى قائمة القيود المتزايدة التي تعيق وصول المواطنين إلى العدالة. ويأتي هذا التطور بينما تخوض نقابة المحامين “معركة سلمية وقانونية” ضد الارتفاعات الحادة في رسوم التقاضي، التي أقرّها مجمع محاكم الاستئناف خلال الأشهر الماضية.
يرى المحامي يسار سعد أن القرار الصادر عن النيابة، رغم تبريره بضبط تنفيذ الأحكام، يُشكّل امتدادًا غير مشروع لما يُعرف بـ”العقوبات التكميلية”؛ وهي عقوبات لا يجوز فرضها إلا بحكم قضائي من المحكمة المختصة، وفق ما ينص عليه قانون العقوبات المصري. ويُشدّد في حديثه إلى زاوية ثالثة على أن النيابة العامة، بوصفها جهة تحقيق لا جهة حكم، ليست مخولة بإصدار قرارات ذات طابع عقابي أو تقييدي: “هذا النوع من العقوبات لا يجوز فرضه من وزارة العدل أو النيابة أو أي سلطة تنفيذية. اختصاصها الوحيد هو التحقيق والإحالة، وليس اتخاذ قرارات تُقيد المواطنين أو تحرمهم من الخدمات العدلية.”
ويضيف سعد أن الربط بين الاطلاع على الأحكام أو استخراج مستندات قانونية، وبين إجراء كشف جنائي، يُعد في جوهره عقوبة إضافية تفرضها الدولة قبل منح المواطن فرصة للطعن أو الدفاع عن نفسه. ويتساءل: “إذا صدر حكم غيابي على شخص، فمن مصلحته الطعن عليه وإعادة النظر فيه، فلماذا نُعامله كمتهم من اللحظة الأولى؟”
ويشير إلى أن هذه الممارسات تتنافى مع ثلاثة مواد دستورية على الأقل، وتخالف أحكام قانون العقوبات الذي يحصر سلطة فرض العقوبات، بما فيها التكميلية، في يد القضاء وحده.
ويُحذّر سعد من أن الهدف المعلن، وهو ضبط الأحكام غير المنفذة، لا يُخفي خللًا أكبر في منظومة تنفيذ الأحكام، التي شهدت منذ عام 2012 تدهورًا حادًا في الأداء. ويقول: “المطلوب ليس فرض مزيد من القيود، بل إعادة تفعيل نظام الربط الإلكتروني بين المحاكم، الذي يضمن تحديث قاعدة بيانات الأحكام لحظة صدورها، بدلًا من مفاجأة المواطنين بتوقيف غير قانوني.”
ويتزامن هذا التطور مع موجة ارتفاع الرسوم القضائية، ما يثير قلقًا واسعًا في الأوساط الحقوقية. إذ يرى مراقبون أن المواطن أصبح يواجه منظومة متشابكة من الأعباء؛ رسوم تقاضي باهظة تُثقل كاهله، وإجراءات شرطية تُهدد حريته في حال وجود أحكام غيابية لم يُبلَّغ بها. وتُضيف اشتراطات الكشف الجنائي حاجزًا جديدًا أمام أبسط الخدمات، مثل استخراج صورة من حكم أو شهادة من واقع الجدول. ويصبح المواطن، خصوصًا من محدودي الدخل، محاطًا بعقبات مالية وإدارية متداخلة؛ فحتى إن أراد الدفاع عن نفسه، قد يجد نفسه موقوفًا بسبب تشابه أسماء أو تأخر تحديث بيانات، ما يُسهم في تقويض ثقته في العدالة ويثنيه عن المطالبة بحقوقه القانونية.