في أغسطس الجاري، وقعت حادثتان داميتان خلال ساعات قليلة على طريق الواحات بالجيزة: ثلاث فتيات يُطارَدن فجرًا من قِبل شبان بسيارات، فينتهي الأمر باصطدام سيارتهن بشاحنة وتشويه وجه إحداهن. قبلها بساعات، لاحق سائقا “ربع نقل” و”ميكروباص” سيارة خاصة تقل أمًا وابنتها، للتحرش بهن عمدًا، وانتهى الأمر بصدم السيارة. ورغم إلقاء القبض على الجناة، إلا أن الحادثتين فجرتا غضبًا واسعًا، وطرحتا تساؤلات: إلى أي مدى بات المجال العام في مصر معاديًا للنساء؟ ولماذا تتكرّر جرائم العنف رغم كل ما يُقال عن تمكين المرأة وحمايتها؟
التساؤل لا يأتي من فراغ؛ إذ تُظهر بيانات مرصد إدراك أن عام 2024 شهد تسجيل 1195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات، في أعلى حصيلة منذ خمس سنوات. فهل نحن أمام انفجار بنيوي في واقع النساء؟ أم أن سياسات الحماية والتمكين لم تكن سوى شعارات شكلية في مواجهة منظومة مجتمعية وتشريعية تُكرّس الخطر بدلًا من ردعه؟
شهدت جرائم العنف ضد النساء في مصر تصاعدًا مقلقًا خلال السنوات الأربع الأخيرة، بحسب تقرير مرصد إدراك، إذ ارتفعت بنسبة 96.3% بين عامي 2020 و2021، ثم واصلت التذبذب، مسجلة انخفاضًا طفيفًا بنسبة 5.7% في 2022، قبل أن تعاود الارتفاع مجددًا بنحو 23.7% في 2023، وتصل ذروتها في عام 2024 بزيادة قدرها 25.6% عن العام السابق.
ففي عام 2024 وحده، وثق المرصد 1195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات، مقارنة بـ950 جريمة في 2023، و1006 في 2022، و813 في 2021، و415 فقط في 2020. ويعكس هذا التصاعد المستمر فشل السياسات الوقائية القائمة في الحد من الظاهرة أو محاصرة أسبابها البنيوية.
أما عن تفاصيل العام الأخير، فقد سُجّلت 540 جريمة عنف أسري، وتصدرت جرائم القتل القائمة بإجمالي 363 جريمة، تلتها 153 جريمة اغتصاب، و182 جريمة تحرش جنسي، و100 محاولة قتل، و90 حالة اعتداء جسدي عنيف تسببت في كسور أو عاهات، إضافة إلى 13 حالة منع من الحركة. كما وثق التقرير 97 حالة انتحار لنساء و33 محاولة فاشلة، مما يسلط الضوء على الأثر النفسي العميق للعنف المتواصل ضدهن.

نوصي للقراءة: تضاعف معدلات العنف ضد النساء والقاهرة الكبرى تتصدر خريطة العنف

فضاء ذكوري معادي للنساء
لا يمكن اعتبار حوادث العنف ضد النساء مجرد وقائع فردية أو استثناءات كما يُروّج مجتمعيًا، بل هي جزء من منظومة بنيوية متجذّرة في الثقافة السائدة والوعي الجمعي. وتزامنًا مع تزايد هذه الجرائم، يبرز ما يُعرف عالميًا بـ”المانوسفير” – الفضاء الذكوري المعادي للنساء – الذي يشهد تمددًا لافتًا في مصر، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحوّلت مجموعات على تطبيق “تليجرام” إلى ساحات منظمة للتحريض، والتشهير، والسخرية من النساء.
تقول الناشطة النسوية ميار مكي، مؤسسة مجموعة “برّ أمان”، إن هذه الظاهرة ليست محلية فقط، بل عالمية، غير أن تجلياتها في مصر ترتبط بثقافة تشرعن العنف وتُبرره. وترى أن الخطر الحقيقي يكمن في النظر إلى جرائم قتل النساء باعتبارها حوادث فردية، في حين أنها تعبير عن منظومة ترسّخ “حق الرجل” في تأديب المرأة، سواء كان زوجًا أو أبًا أو أحد الأقارب.
وتضيف: “في هذه الثقافة، لا تُعامل أجساد النساء كملكية شخصية، بل كملكية عامة تخضع لسلطة العائلة والمجتمع، وهو ما يفسّر استمرار العنف الأسري وتكراره”. وتشير إلى أن التحرش في الفضاء العام ليس فعلًا جنسيًا بقدر ما هو استعراض للسلطة وممارسة للهيمنة. “الرسالة التي يريد المتحرش إيصالها بسيطة: المرأة لا تملك الحق في التواجد هنا. وجودها يهدد التصورات الذكورية التقليدية”، مؤكدة أن هذه السلوكيات لا تنحصر في طبقة اجتماعية أو فئة عمرية معينة، بل تمتد إلى مختلف المستويات.
وتُبيّن أن جزءًا أساسيًا من تفشي هذه الظاهرة يعود إلى شعور المعتدين بإفلاتهم من العقاب، حيث لا تزال القوانين الخاصة بمكافحة العنف الأسري غائبة، ورغم وجود تشريعات تُجرّم التحرش، فإن المجتمع غالبًا ما يتعاطف مع المعتدي أو يساعده على الهروب، بينما تعاني النساء من معاملة غير إنسانية داخل أقسام الشرطة، ما يدفع كثيرات للتردد في تقديم البلاغات، معتبرة أن معدلات العنف المعلنة لا تعكس سوى جزء ضئيل من الواقع، إذ إن كثيرًا من الانتهاكات لا يتم توثيقها أو الإفصاح عنها.
ترى الناشطة النسوية آية منير، مؤسسة مبادرة “سوبر وومان”، أن وتيرة العنف ارتفعت في المجتمع، وهو ما ينعكس بقوة على النساء باعتبارهن الفئة الأقل حماية وتمتعًا بالامتيازات، مبينة أن معظم الجرائم ضد النساء تقع بدوافع ذكورية ترتبط بعدم تقبل الرفض، سواء من شريك أو زوج أو خطيب سابق، لافتة إلى أن كلمة “لا” قد تُعرّض النساء للقتل.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “التحرش لم يكن يومًا بدافع جنسي بحت، بل هو شكل من أشكال السيطرة وكراهية النساء، الملاحقة والتتبع أصبحت ظاهرة قوية تؤدي أحيانًا إلى القتل، النساء يدفعن أثمانًا اقتصادية باهظة لحماية أنفسهن، باللجوء إلى سيارات خاصة أو تطبيقات النقل، لكنهن يكتشفن أن حتى هذه الوسائل لم تعد آمنة”.
وتضيف مؤسسة المبادرة: “الشوارع المصرية غير آمنة للنساء على اختلاف وسائل تنقلاتهن، وأن الحل لا يكمن في الإجراءات الأمنية وحدها، بل يحتاج أيضًا إلى خطاب إعلامي يركز على التوعية وتجريم العنف، مع تحسين البنية الأمنية مثل انتشار الدوريات، وتوفير إضاءة وكاميرات مراقبة على الطرق والشوارع، وخاصة في الطرق السريعة التي تفتقر إلى مظاهر الأمان الأساسية”.
وتعتبر الناشطة أن تصاعد العنف له أسباب اقتصادية واجتماعية، إلى جانب وجود خطاب معادٍ لحرية النساء والحركة النسوية، يتزامن مع اتساع وعي النساء بحقوقهن وقدرتهن على الرفض والمطالبة، وهو ما يولّد ردود فعل عنيفة ضدهن، مشيرة إلى أن تسليط الضوء الإعلامي والحقوقي المتزايد على حالات العنف ضد النساء جعل هذه الظاهرة أكثر وضوحًا ورصدًا.
وتتعرض حوالي ثمانية ملايين امرأة وفتاة للعنف، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتحتل محافظة القاهرة المرتبة الأولى في معدلات الجرائم ضد النساء بنسبة 32.7%، تليها محافظة الجيزة بنسبة 23.3%، وبحسب دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في عام 2013، فإن 99.3 بالمئة من النساء في مصر تعرضن للتحرش الجنسي خلال حياتهن.

نوصي للقراءة: “تضاعف جرائم قتلهن”.. النساء يسددن فاتورة الفقر مرتين

قصور تشريعي
ترى مي صالح، الخبيرة في قضايا النوع الاجتماعي، أن غياب العقوبات الرادعة وتجاهل مسألة إعادة تأهيل الجناة المحتملين يمثلان أحد جذور الأزمة. فالمجتمع يضم فئات أقرب لارتكاب العنف بسبب غياب الوعي، وتشوه المفاهيم المرتبطة بالحرية والوصاية والأبوية، وهو ما يغذي خطاب الكراهية والتحريض ضد النساء، خاصة عبر الفضاء الرقمي. وأوضحت أن العنف الإلكتروني أو السيبراني لا يقف عند حدود المنصات، بل يتحول إلى ممارسات جسدية وجنسية في الشارع، إذ يشجع المحرضون أنفسهم وآخرين على الانتقال من الخطاب إلى الفعل.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “النساء كثيرًا ما يُستخدمن كـ “متنفس” لغضب الرجال الناتج عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، في ظل ثقافة ذكورية تبرر أفعال المعتدين وتلقي باللوم على النساء”.
وتنتقد الخبيرة استمرار النصوص القانونية التي تسمح بالإفلات من العقاب، مثل المادتين 17 و60 من قانون العقوبات، اللتين تمنحان القضاة صلاحيات تخفيف العقوبة أو تبريرها باعتبارها “حقًا في التأديب” أو بدافع حسن النية، مؤكدة أن هذه المواد، إلى جانب التصالح أو التنازل في قضايا خطيرة، تسهم في التهاون في حقوق النساء والتسامح مع دمائهن، وهو ما ظهر جليًا في بعض القضايا التي تعاطف فيها الرأي العام مع الجناة بدلاً من الضحايا.
وتضيف: “غياب قواعد بيانات دقيقة، وانخفاض نسب الإبلاغ عن الجرائم التي لا تتعدى 10% من حجم الوقائع الفعلية، يفاقم من ضبابية الصورة، حتى تلك البلاغات القليلة تواجه صعوبات شرطية ونيابية، بينما تنتهي نسبة كبيرة منها دون وصول إلى المحكمة، أما القضايا التي تصل للمحاكم، فإن كثيرًا منها يسقط نتيجة ثغرات إجرائية يستغلها محامو الجناة، ما يؤدي إلى إفلات المعتدين من العقاب”.
وتشدد على أن استمرار هذه العوامل مجتمعة – من الاعتياد على العنف، والتحريض الرقمي، والثقافة الذكورية، وضعف الردع القانوني، وغياب العدالة الفعالة – يجعل النساء أكثر عرضة للعنف في المجال العام والخاص، ويغذي ظاهرة خطيرة تهدد أمنهن وحياتهن.
وفي السياق نفسه تشير نورا محمد، مديرة برنامج مناهضة العنف بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، إلى مفهوم “الميسوجينية” المتعارف عليه عالميًا، والذي يرتبط بكراهية النساء أو توجيه العنف ضدهن لمجرد كونهن إناثًا، بينما يقابله في السياق المصري مصطلحات مثل “التمييز” و”التهميش” و”العنف القائم على النوع الاجتماعي”، مشيرة إلى أن مظاهر الميسوجينية في المجتمع المصري تتجلى في صور متعددة من العنف ضد المرأة، منها العنف الأسري مثل الإكراه على الزواج وزواج القاصرات وختان الإناث والحرمان من التعليم، وكذلك العنف في المجال العام مثل جرائم التحرش والاعتداءات الجنسية والابتزاز الإلكتروني. وأكدت أن هذه الممارسات تهدف إلى إذلال النساء والتقليل من شأنهن وإخضاعهن لهيمنة الذكور، سواء في نطاق الأسرة أو في الفضاء العام.
وتلفت نورا إلى أن العنف ضد المرأة قد يكون فرديًا، مثل اعتداء الزوج أو أحد أفراد العائلة، أو ممتدًا في نطاق أكبر من خلال جرائم مثل ما يُعرف بـ”جرائم الشرف”؛ إذ أن الخطاب العام في المجتمع يساهم في تكريس الظاهرة، حيث يُلقى باللوم على الضحية من خلال التساؤلات حول ملابسها أو مكان وجودها أو وقت خروجها، بدلًا من إدانة الجريمة ورفضها، وهذه التبريرات الاجتماعية والإعلامية تساعد في تغذية العنف وتبريره، مؤكدة أن الميسوجينية ليست مجرد سلوك فردي، بل هي نتاج ثقافة مجتمعية ترسخ فكرة ضعف المرأة وتعطي شرعية للسيطرة عليها، من خلال عبارات مثل “أنا أربيها” أو “أنا أخاف عليها”، لافتة إلى أن توفير بيئة تعليمية آمنة للفتاة، وتنشئتها على المهارات والثقة بالنفس، إلى جانب خلق شارع آمن وآليات حماية فعالة، يمكن أن يسهم في الحد من هذه الظاهرة.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “العوامل الاقتصادية والأزمات المعيشية تلعب دورًا مهمًا في تفاقم العنف ضد النساء، حيث تتحمل المرأة عبء توفير احتياجات الأسرة، ما يضطرها إلى الخروج لسوق العمل في ظل ظروف غير آمنة، فتكون عرضة للاستغلال. كما أن ازدحام الشوارع وانتشار المخدرات يزيدان من معدلات العنف”.
وتشير مديرة برنامج مناهضة العنف إلى أن ضعف الخدمات يعد من أبرز التحديات، رغم وجود خطوط ساخنة وكاميرات مراقبة ووحدات لمناهضة العنف في بعض أقسام الشرطة، إلا أن تفعيلها ما زال محدودًا، مع نقص في عناصر الشرطة النسائية وغياب الدعم النفسي والاجتماعي الكافي للضحايا، موضحة أن هناك تطورات مثل تغليظ عقوبات التحرش والعنف الرقمي، ووجود نيابة إلكترونية لتلقي البلاغات، مؤكدة الحاجة إلى قانون موحد ومتكامل لمناهضة العنف ضد المرأة، لتوحيد الجهود وسد الثغرات التشريعية الحالية التي تؤدي إلى تشتيت القضايا بين قوانين متعددة، على أن يتزامن ذلك مع بذل جهود متكاملة بين الدولة والمجتمع المدني والآليات الوطنية، إضافة إلى دور إعلامي فاعل يركز على فضح الظاهرة وتغيير الخطاب العام، من أجل تقليل جرائم العنف وتوفير بيئة أكثر أمانًا للمرأة المصرية.
فيما تؤكد المحامية انتصار السعيد، رئيسة مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، أن جرائم العنف ضد النساء في مصر ليست ظاهرة جديدة، لكنها أصبحت أكثر علانية وحدّة، حيث باتت تُرتكب في الشوارع ومؤسسات الدولة وأمام الجميع، بعدما كانت في الماضي تقتصر في الغالب على النطاق الأسري أو الخفي، معتبرة أن غياب التربية القائمة على قيم المساواة بين الجنسين في الأسر المصرية يمثل أحد الأسباب الجوهرية للظاهرة، حيث يُكرَّس النظر إلى النساء باعتبارهن “أقل” من الرجال في الحقوق. وأضافت أن التعليم، والدراما، والخطاب الديني السائد يسهمون بدورهم في ترسيخ هذه الصورة النمطية، ما يجعل المجتمع أكثر تقبلاً للعنف ضد النساء والفتيات.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة تفاقم الظاهرة، إذ يفرغ كثير من الرجال غضبهم على النساء والأطفال باعتبارهم الطرف الأضعف، متوقعة زيادة معدلات العنف في المرحلة المقبلة ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة”.
وتلفت المحامية الحقوقية إلى وجود قصور في التشريعات وآليات تطبيقها، مؤكدة أن القوانين لا تُفعَّل إلا في القضايا التي تحظى بضوء إعلامي واسع، بينما تبقى جرائم أخرى كثيرة بلا محاسبة، محذرة من الخطاب التحريضي ضد النساء المنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتؤكد أن إقرار القانون الموحد لمكافحة العنف ضد النساء والفتيات خطوة أساسية وضرورية، لكنها غير كافية وحدها، مشددة على أهمية تبني سياسات شاملة للوقاية والحماية، تشمل توفير خطوط ساخنة للدعم النفسي والقانوني، وإنشاء بيوت آمنة للنساء، وتكثيف برامج التوعية، بجانب تطوير العقوبات لتشمل إصلاح وتأهيل الجناة وليس الاقتصار على العقوبات السالبة للحرية، لافتة إلى أن مواجهة الظاهرة تتطلب عملًا متكاملًا على المستويات التشريعية والمجتمعية والتوعوية، محذرة من أن استمرار القصور الحالي يعني مزيدًا من الانتهاكات بحق النساء في المجالين العام والخاص.

نوصي للقراءة: جرحٌ عميقٌ يُدمّر حياة النساء.. العنف الرقمي والتشهير في مصر

اتساع الفجوة بين الجنسين
تزامنًا مع تصاعد معدلات العنف ضد النساء في مصر، تراجعت مصر إلى المرتبة 139 من أصل 148 دولة في تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين لعام 2025، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، لتدخل بذلك قائمة أسوأ عشر دول في العالم من حيث المساواة بين الرجال والنساء. ويأتي هذا التراجع بعد عام واحد فقط من تراجعها إلى المركز 135 من بين 146 دولة في تقرير 2024.
ويكشف التقرير ضعف تمثيل النساء في المناصب القيادية والسياسية، واستمرار تدني معدلات مشاركتهن في سوق العمل، إضافة إلى فجوات في الوصول إلى التعليم والفرص الاقتصادية، وانخفضت نسبة سد الفجوة، المنخفضة بالأساس، إلى 62.5% في النسخة الأخيرة من التقرير، في حين بلغ المتوسط العالمي لسد الفجوة بين الجنسين 68.8%، وهو أفضل تحسّن يُسجّل منذ عام 2020، بزيادة قدرها 0.3 نقطة مئوية مقارنة بعام 2024.
في المقابل، حققت مصر تحسنًا طفيفًا في مؤشر الصحة والبقاء على قيد الحياة، وهو المؤشر الوحيد الذي سجّل تقدمًا نسبيًا، إلا أن أثره ظل محدودًا في ظل التراجع العام في المؤشرات الأخرى.
وتُظهر بيانات تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين لعام 2025 فجوة صارخة في معدلات المشاركة الاقتصادية للنساء في مصر، حيث لا تتجاوز نسبة النساء العاملات 15.9%، مقابل 74.2% من الرجال. أما على مستوى متوسط الدخل، فجاء دخل النساء أقل من ربع دخل الرجال، بينما لم تشغل النساء سوى 7.2% فقط من المناصب الإدارية العليا. ويُعد مؤشر الدخل المتوقع للنساء الأسوأ أداءً على الإطلاق، إذ احتلت مصر فيه المرتبة 145 من بين 148 دولة.
وفي الوقت الذي تُظهر فيه مصر أداءً أفضل نسبيًا في مؤشر التحصيل العلمي – حيث جاءت في المرتبة 111 من أصل 148 دولة، بنسبة سد فجوة بلغت 97.3%.
وجاءت مصر في المرتبة 101 من أصل 148 دولة، بنسبة سد فجوة لا تتجاوز 15.9%، وهي أقل من المتوسط العالمي البالغ 22.9%. وكانت نسبة النساء في البرلمان المؤشر الأفضل ضمن هذا المحور، حيث بلغت 27.7% من إجمالي الأعضاء، إلا أن هذا الرقم لم يكن كافيًا لرفع الترتيب العام بشكل ملحوظ.
أما في محور الصحة والبقاء على قيد الحياة، فجاء أداء مصر هو الأفضل نسبيًا بين المؤشرات الأربعة، حيث احتلت المرتبة 78 من أصل 148 دولة. ويُعزى ذلك جزئيًا إلى ارتفاع متوسط العمر المتوقع للنساء (73.9 سنة) مقارنة بالرجال (70.8 سنة).
في هذا السياق، تقول لبنى درويش، مديرة برنامج حقوق النساء بـالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية لـ«زاوية ثالثة»، إن تدهور أوضاع النساء في مصر لم يأتِ مفاجئًا، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات دعائية شكلية تتجنب الإصلاح الحقيقي، وتُقصي النساء من أولويات التخطيط العام.
توضح درويش أن التقارير الدولية والإقليمية باتت تُظهر نتائج “مخزية”، تُناقض تمامًا الرواية الرسمية التي تحتفي بما تسميه “إنجازات” في ملف المرأة. وتتابع:”بدلًا من العمل على تحسين واقع النساء، تُفضل الدولة إصدار تصريحات عن نجاحات لا وجود لها، بهدف كسب التقدير الدولي، بينما تُهمَّش السياسات الجادة التي تُحدث فارقًا حقيقيًا في حياة النساء”.
وتضيف أن الاستراتيجيات الحكومية غالبًا ما تكون عشوائية وغير مدروسة، تفتقر إلى بيانات دقيقة وآليات متابعة وتقييم، وغالبًا ما تُستبدل بأخرى جديدة دون مراجعة أو مساءلة. “المهم أن يُقام احتفال إطلاق الاستراتيجية، بغضّ النظر عن فعاليتها أو تأثيرها”، تقول درويش.
تنتقد درويش التعامل الرسمي مع قضايا النساء كملف ثانوي، وليس جزءًا من صميم التخطيط الاقتصادي والمجتمعي، مشيرة إلى أن الدولة تستثمر في قطاعات طاردة للنساء، وتوفر فرص عمل غير ملائمة، ثم تتساءل عن تراجع معدلات مشاركة النساء في سوق العمل.
وفي ما يتعلّق بتوجه الدولة نحو دعم ريادة الأعمال كحل سحري لتمكين النساء اقتصاديًا، تصف درويش هذا المسار بأنه قناعة أيديولوجية غير مدعومة بأي تقييم جاد، وتؤكد أنه لا توجد مؤشرات على فاعلية هذا النموذج، بينما تُتجاهل الأسباب البنيوية لضعف مشاركة النساء، مثل التمييز في القطاعين العام والخاص، وشروط العمل المجحفة.
تشدد درويش على أن بعض أشكال التمييز تصدر عن الدولة نفسها، مثل فرض قيود على سفر النساء، خاصة من الفئات الأفقر، أو التفرقة في فرص العمل بناء على الشكل أو الوزن أو الحالة الإنجابية. “في حين لا تُفرض الإجراءات نفسها على الرجال، ما يجعل من السياسات الحالية وسيلة لخدمة الصورة لا الواقع”، تقول.
وتختم درويش حديثها بالتحذير من خطورة الوضع الراهن: “أنا لا أُعنى بتجميل الصورة، بل يهمّني واقع النساء والفتيات في مصر. ما نواجهه هو خطر مزدوج: الأوضاع تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ولا توجد أي استجابة جادة. والنساء والفتيات هنّ من يدفعن الثمن، باستمرار وبشكل يومي”.

من جهتها، تعتبر منى عزت، الباحثة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة النون لرعاية الأسرة، أن تراجع مصر في تقرير الفجوة بين الجنسين لعام 2025 ليس مجرد انخفاض رقمي، بل انعكاس عميق لمشكلات هيكلية مزمنة في التعامل مع قضايا النساء.
وتضيف في حديثها لـ«زاوية ثالثة»:”عندما نقول إن مصر تراجعت أربع درجات في الترتيب العالمي، لا بد أن نُذكّر بأنها كانت أصلًا في موقع متأخر: المرتبة 135، ومن ثم فالتراجع إلى المرتبة 139 يعني أن المشكلات لم تُعالَج بل تتفاقم”.
وترى منى عزت أن التراجع في مؤشري التمكين الاقتصادي والسياسي يُعد الأخطر في تقرير هذا العام، نظرًا لكونه يمسّ جوهر مشاركة النساء في المجال العام، من سوق العمل إلى النقابات والبرلمان والأحزاب السياسية. وتُشير إلى أن الاستراتيجيات والتعديلات التشريعية لم تنعكس على أرض الواقع، حيث يظل الأثر الفعلي لهذه السياسات محدودًا إن لم يكن غائبًا تمامًا.
وتقول عزت في هذا السياق:”لدينا بالفعل نصوص تشريعية جيدة، لكن التنفيذ ضعيف أو غير موجود، ما يجعل السياسات بلا أثر فعلي، ويُكرّس الفجوة بدلًا من تضييقها”.
وتضرب عزت مثالًا على ذلك بـقانون العمل رقم 12 لسنة 2003، الذي يحظر التمييز في الأجور بين الجنسين، لكن تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء( وهي تقارير رسمية حكومية) تكشف عن فجوة فعلية في الأجور تصل إلى 17.7% لصالح الرجال في القطاع الخاص، ما يعكس قصورًا في التطبيق والرقابة.
وحول التمثيل السياسي، تشير عزت إلى أن زيادة عدد النساء في البرلمان والوزارات لا تعني بالضرورة تمكينًا حقيقيًا، إذ إن النظام المعتمد على “الكوتة” لم يحقق تنوعًا سياسيًا أو اجتماعيًا أو جغرافيًا، كما لم تُتاح فرص متساوية للنساء للترشح والوصول إلى القيادة داخل الأحزاب أو النقابات. “التمكين لا يكون بالأرقام فقط، بل بالبيئة السياسية التي تسمح بالمشاركة الحرة والعادلة”، تضيف عزت.
وتنتقد الباحثة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية غياب المجالس المحلية منذ سنوات، معتبرة أن ذلك يُقصي النساء من واحدة من أهم أدوات التمكين السياسي القاعدي. كما ترى أن الدولة تروّج لريادة الأعمال كمدخل لحل مشكلة تمكين النساء اقتصاديًا، دون تقييم حقيقي لفاعلية هذا المسار دون معالجة أسباب التمييز والقصور في سوق العمل.
تختم عزت حديثها بأن”الخلل الحقيقي يكمن في الفجوة بين السياسات على الورق والتطبيق الفعلي”. وتوكد أن هذا النهج هو ما يقود إلى نتائج سلبية متكررة في تقارير المساواة العالمية.
فيما ترى نيفين عبيد، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة الجديدة، أن تراجع مصر في تقرير الفجوة بين الجنسين لعام 2025 يعكس مسارًا هيكليًا ممتدًا من التراجع والإهمال المزمن لقضايا النساء، مشيرة إلى أن هذا التراجع المتكرر هو نتيجة مباشرة لغياب الجدية في معالجة الجذور الحقيقية للفجوة.
وترى عبيد في حديثها لـ«زاوية ثالثة» إن مؤشرات التقرير الأربعة: التمكين الاقتصادي، التحصيل العلمي، المشاركة السياسية، والصحة، تمثل مدخلًا حقيقيًا لتحسين أوضاع النساء، لو تم التعامل معها بمنهجية واضحة، بدلًا من الاكتفاء بالخطاب الرسمي.
وتشير إلى أن النساء في مصر هنّ الأكثر تضررًا من ارتفاع معدلات الفقر، لا سيما وأن الفقر لم يعد يُقاس فقط بالدخل، بل أيضًا بعدم الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم، والصحة، والسكن الآمن. وتضيف عبيد “النسبة الأكبر من النساء يعملن في القطاع غير الرسمي — كالعاملات الزراعيات أو البائعات في الأسواق — دون أي حماية قانونية أو ضمانات تعاقدية، ما يجعلهن خارج المظلة الاجتماعية بالكامل”.
و تَلفِتُ رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة الجديدة، إلى أن غياب تشريعات تحمي فئات مهمشة مثل عاملات المنازل يعكس فشل الدولة في دمج جميع النساء ضمن سياسات الحماية والتأمين والعمل اللائق. كما تنتقد التأخر المزمن في إصدار عدد من القوانين الأساسية، مثل قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء، وقانون عاملات المنازل، وقانون الأحوال الشخصية، فضلًا عن غياب التعديلات الضرورية لقوانين قائمة لا تراعي الأبعاد الجندرية مثل قانون الإجراءات الجنائية، أو المسؤولية الطبية، أو الإيجارات. “حتى برامج الحماية الاجتماعية لا تأخذ في الاعتبار هشاشة النساء، وكونهن الأكثر عرضة للفقر والجوع”، تقول عبيد.
تشير عبيد أيضًا إلى أن ضعف النقابات المستقلة والتضييق عليها أسهم في تراجع الصوت النسوي القاعدي، خاصة في القطاعات غير الرسمية التي تضم عددًا كبيرًا من النساء.
وتؤكد أن غياب التمثيل الحقيقي للنساء داخل التنظيمات النقابية يساهم في تغييب قضاياهن عن أولويات الأجندة الاجتماعية والسياسية. كما توضح أنه بالرغم من أن مصر ليست طرفًا مباشرًا في النزاعات المسلحة الإقليمية، فإن عبيد ترى أنها تعيش حالة “سلام سلبي” – أي هشاشة قابلة للانزلاق نحو اضطرابات – مما يضاعف من هشاشة النساء والفتيات اللواتي يدفعن ثمن السياسات الإقليمية والدولية دون أن يكنّ طرفًا فيها.
تنهي عبيد حديثها بدعوة واضحة إلى إنتاج رؤى نقدية مستقلة من قبل المجتمع المدني والمجموعات النسوية والباحثات والمهتمات والمهتمين بأوضاع النساء بشكل عام، لمساءلة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والضغط من أجل التشريعات الغائبة، وتقديم تقييمات بديلة وشفافة لما يُطرح كحلول حكومية شكلية.
بدورها تكشف الدكتورة ماجدة عدلي– الشريكة المؤسسة لمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، أنه منذ عام 2009، تُقدَّم مشاريع قوانين إلى البرلمان تتعلق بالعنف ضد النساء داخل الأسرة، وكان البرلمان يخشى إقرارها لكونها من القضايا الشائكة، إلا أنه في أواخر عام 2010، قُدِّم مشروع قانون من مركز النديم وقّعت عليه أكثر من مئة منظمة أهلية مصرية، بالإضافة إلى منظمات عربية أخرى، لكن بعد الثورة، وُضعت كل مشاريع القوانين هذه في الأدراج وكأنها لم تكن، ثم قُدِّمت مجدداً بعد الثورة، مصحوبة بمشاريع أخرى تتعلق بالتحرش الجنسي.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “لقد حدث تقدم نسبي في ما يخص التحرش الجنسي في المجال العام، حيث سُنّت قوانين تحدد مفهوم التحرش بدقة وفُرِضت عقوبات عليه، ورغم أن القانون لم يكن مطابقاً للمشروع الأصلي، حيث شهدت بعض مواده نقاشات مطولة مع السلطات كوزارة العدل والأزهر والنيابة والشرطة، وتعثر إقرار بعض المواد، خصوصاً تعريف الاغتصاب، إلا أنه كان خطوة.. أما مشروع قانون العنف الأسري، فحتى الحكومة التي اعتبرناها حكومة الثورة، والتي ضمّت شخصيات نثق بها، أقرت بأنها لن تستطيع تمرير مثل هذا القانون. لقد كانت الذريعة هي الأزهر، ومفهوم القوامة، وتلك النصوص التي يستطيع كلٌّ تفسيرها كما يشاء”.
وتضيف مديرة المركز: “الإحصائيات تشير إلى أن مصر ثاني دولة في العالم في معدلات التحرش الجنسي بنسبة تتجاوز 90%، فعن أي شيء نتحدث؟ عندما تُختطف النساء حتى في سيارات تابعة لشركات عالمية، أو تُختطف طفلات في السادسة من العمر ويُعتدى عليهن جنسياً، فماذا نسمي هذا؟ عندما يقتل شاب زميلته في الجامعة لرفضها الزواج منه، وتتكرر الحادثة، فماذا يعني ذلك؟ إلى أي مستوى من العنف وصلنا في شوارعنا؟ هل أستطيع أن أقول للفتيات تحرّكن بأمان؟ هل أستطيع أن أقول لهن اتصلن بالشرطة إن تعرضتن للتحرش؟”.
ولا تفصل عدلي بين سلوك الأفراد وما وصفته بعملية ‘غسل الدماغ’ التي يمارسها الخطاب العام، سواء صدر عن سياسيين، أو إعلاميين، أو الخطاب الديني، والذي يؤسس لمرتبتين للبشر: مرتبة عليا للذكور، ومرتبة دنيا للإناث، ويحدد أدواراً اجتماعية، فيحصر الأعمال القيادية والسياسية وإدارة الأعمال في الذكور، بينما يخصص للنساء إعلانات منتجات الطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال، ويرسّخ لأدوار عليا وأخرى دنيا، هذه للذكور وتلك للإناث، مشيرة إلى أن الأعمال الدرامية والمسلسلات، هي القوة الناعمة، تتسلل بشكل غير مرئي إلى عقول الناس، لترسّخ فكرة ضرب النساء أو التطبيع مع التحرش.
وتوضح أن الصدمات الناتجة عن العنف تترك شروخاً عميقة في النفس، واضطراب ما بعد الصدمة، وفقدان الثقة بالنفس، بينما إعادة بناء الذات بعد هذا التهشم يستغرق سنوات، وهو أمر شبه مستحيل إذا كانت الضحية لا تزال تعيش في نفس البيئة المسيئة، ولا يوجد مكان آمن تلجأ إليه؛ إذ أن هناك بعض الملاجئ الحكومية، لكنها محدودة جداً وشروطها صعبة.
وتختتم حديثها معنا، قائلة: “نحن بحاجة إلى منظومة قوانين عادلة تنظر للمرأة كإنسان كامل الأهلية، مع تمييز إيجابي يعوّض الفجوة التاريخية. نحتاج إلى تدريب حقوقي حقيقي لكل جهات إنفاذ القانون. نحتاج إلى مراجعة شاملة لخطابنا الإعلامي والديني والتعليمي، لتنقية المجتمع من هذه الشرور التي تعيد إنتاج العنف”.
نوصي للقراءة: نساء في سجون مصر.. أجساد بلا حقوق

ثقافة ذكورية متجذرة
يشرح الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، كيف أن العنف ضد النساء في مصر متجذر وله أشكال متعددة، بدءًا من العنف الأسري والاغتصاب الزوجي، وصولًا إلى التحرش في الشوارع والأماكن العامة؛ إذ أن الثقافة الذكورية السائدة تُطبع المجتمع على تقبّل هذا العنف، سواء عبر صمت المحيطين أو تواطؤهم، مشيرًا إلى أن الظاهرة ليست جديدة، لكن ما استجد هو حجم التواطؤ المجتمعي والمؤسسي، خاصة في ظل غياب تدخل فاعل من أصحاب المحال والأمن في مواجهة حوادث التحرش.
يقول لـ”زاوية ثالثة”: “الشارع المصري يُعامل النساء باعتبارهن “غنيمة” أو “صيدة”، وهو ما يفسر سلوكيات التحرش والمعاكسة وفرض الكلام أو الاهتمام غير المرغوب فيه على النساء، ويرجع تفاقم الظاهرة إلى الفوضى العامة والإفلات من العقاب، وللأسف الشرطة توقفت عن الحملات الأمنية التي كانت تُنظم في الخمسينيات والستينيات لمواجهة التحرش، ما جعل النساء يشعرن بانعدام الأمان في الفضاء العام”.
ويضيف أن “ضعف تعامل الدولة والمجتمع مع القضية ساهم في مفاقمتها، حيث يُترك الأمر للتساهل مع الجناة أو الضغط على الضحايا للتنازل، والحل يتطلب على المدى الطويل إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الديني الذي يُحرض أو يسكت عن الانتهاكات، بينما على المدى القصير لا بد من عودة الحملات الأمنية السرية في أماكن الاشتباه، وتشديد العقوبات لتكون رادعة ونافذة بسرعة، مثل مصادرة السيارات المستخدمة في التحرش والحكم بالسجن والغرامات الكبيرة”.
ويرى أستاذ علم الاجتماع أن الاعتماد على العقوبات وحده لا يكفي، فالثقافة المجتمعية نفسها مريضة وتعكس احتقارًا عميقًا للمرأة، يتجلى في لوم الضحية وتبرير جرائم العنف والفصل في الجرائم عبر “الصلح”، وهو ما وصفه بأنه يتنافى مع أسس الدولة الحديثة، معتبرًا أن ربط التحرش بالأوضاع الاقتصادية أو الفقر ليس إلا تبريرًا، فالمسألة تتعلق بثقافة مترسخة وليست نتاج أزمات اقتصادية فقط.
وينتقد صادق التناقض في تعامل المجتمع مع القضايا المرتبطة بالنساء، حيث يُعاقبن على سلوكيات بسيطة مثل الرقص أو استخدام “تيك توك”، بينما يتجاهل المجتمع والجامعات الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الرجال، ويُحمّل الإعلام جزءًا من المسؤولية عبر خطاب يبرر للجناة أو يلوم الضحايا.
ويعتبر أن جذور الأزمة مرتبطة بترسيخ الثقافة الذكورية التي تحصر النساء في أدوار منزلية وتستبعدهن من سوق العمل، وتُحمّلهن دائمًا مسؤولية العنف الممارس ضدهن، موضحًا أن كراهية النساء (Misogyny) تظهر في صور متعددة، من تفضيل إنجاب الذكور، إلى رفض عمل النساء، وصولًا إلى تصاعد جرائم قتل الزوجات عند طلب الطلاق، مؤكدًا على أن مواجهة الظاهرة تتطلب إرادة سياسية ومجتمعية حقيقية، من خلال فرض الأمن الفاعل، وتشديد العقوبات، ووقف التواطؤ المجتمعي، بالتوازي مع إصلاح طويل المدى للتعليم والثقافة والإعلام، وإلا فإن العنف ضد النساء سيتفاقم أكثر في السنوات المقبلة.
ومن ناحيتها تعتبر الدكتورة سارة النجار، أخصائية الصحة النفسية والطب الأسري، وكاتبة معنية بشؤون المرأة والطفل، أن ظاهرة العنف المتزايد ضد النساء في المجال العام لا ترتبط بالضرورة بكراهية المرأة بقدر ما يرتبط بالاستهانة بها، ومشددة على أن العوامل التكنولوجية والاجتماعية ساهمت في تفاقمها.
وتعزي الأخصائية النفسية الدافع الأساسي وراء معظم حوادث العنف ليس كراهية المرأة بحد ذاتها، بل الاستهانة بها باعتبارها الطرف الأضعف. وأوضحت أن الجناة في الغالب لا تكون لديهم معرفة مسبقة بالضحايا، لكنهم يتصرفون انطلاقًا من قناعة راسخة بأن المرأة ستخشى المواجهة، وستتردد في الإبلاغ خوفًا من التشكيك أو الهجوم المجتمعي الذي يُلقي اللوم عليها بدلاً من المعتدي.
ولا ترى النجار أن الهدف من مضايقة النساء في الشوارع هو دفعهن إلى العودة للمنازل، مشيرة إلى أن المعتدين يسعون في الحقيقة إلى وجود المرأة في المجال العام من أجل ممارسة تسلطهم عليها وتفريغ أزماتهم النفسية، مبينة أن هذه الأفعال تمنح الجاني شعورًا زائفًا بالقوة والرجولة، وأن المرأة تصبح الهدف الأسهل لأنه يُنظر إليها ككائن أضعف يمكن إخضاعه دون عواقب كبيرة.
تقول لـ”زاوية ثالثة”: “الشخص الذي يعتدي على النساء في الشارع قد يظهر نفس السلوك العدواني تجاه الأطفال أو الحيوانات، مؤكدة أن الأمر يرتبط باضطرابات سلوكية أعمق وليس بالضرورة بكره متأصل للنساء”.
وتعتبر سارة أن العنف ضد النساء ظاهرة قديمة، حيث عانت النساء طويلًا من المضايقات في الشوارع ومطاردات السيارات أثناء القيادة، لكن الجديد هو انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كان عاملًا مضاعفًا في إبراز هذه الحوادث، موضحة أن الكثير من الجرائم لم تكن لتُعرف لولا تصويرها وتداولها، مشددة على أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب وعيًا مجتمعيًا ورقابة أسرية فعالة، إلى جانب تطبيق القانون بشكل صارم لحماية النساء وضمان عدم إفلات المعتدين من العقاب.
يكشف تصاعد العنف ضد النساء في مصر عن خلل عميق في البنية الثقافية والقانونية التي تُعيد إنتاج الخطر بدلًا من احتوائه. وفي ظل غياب الردع الفعّال، وضعف آليات الحماية، تستمر النساء في دفع أثمان باهظة لمجرد تواجدهن في الفضاء العام.
ويرى حقوقيون أن الفرصة باتت تضيق أمام أي تقدم حقيقي في ملف العدالة الجندرية، ما لم تُقرّ الدولة قانونًا موحدًا لمناهضة العنف والتمييز، وتُراجع سياساتها القائمة بجدية. فالمشكلة لم تعد في غياب الحلول، بل في غياب الإرادة السياسية لحمايتهن.