close

كيف يُفرّغ القطاع الصحي المصري من كفاءاته بصمت؟

الأطباء في مصر، من الاستقالات الجماعية والوفيات المأساوية نتيجة الإجهاد، إلى هجرة الكفاءات بسبب بيئة العمل الطاردة والأجور المتدنية، محذرًا من انهيار وشيك للمنظومة الصحية
Picture of رشا عمار

رشا عمار

في المستشفيات الحكومية المصرية، لا يُكافح الأطباء الأمراض فقط، بل يواجهون كل يوم ضغطًا يفوق طاقاتهم، وإجهادًا يُهدد حياتهم. يعملون لساعات طويلة بلا فواصل، في بيئة تفتقر لأبسط شروط السلامة المهنية، ما يدفع المئات منهم إلى تقديم استقالاتهم أو التفكير في الهجرة. وفي بعض الحالات، تنتهي المعاناة بالموت.

مؤخرًا، استقالت ثماني طبيبات من قسم النساء والتوليد بمستشفى القصر العيني، احتجاجًا على ظروف العمل القاسية. وفي حادثة أخرى، تُوفيت طبيبة أثناء نوبتها بعد ساعات طويلة دون طعام أو راحة، فيما تشير التقديرات الأولية إلى أن الوفاة ناجمة عن هبوط في ضغط الدم بسبب الإجهاد. أعادت هذه الوقائع فتح ملف أزمة الأطباء، وطرحت من جديد سؤالًا صعبًا: إلى أين تتجه المنظومة الصحية في مصر؟

وشهدت مصر ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات استقالات الأطباء من العمل الحكومي خلال الفترة من 2020 إلى 2025، حيث بلغ إجمالي الاستقالات أكثر من 21 ألفًا في سبع سنوات، مع تسجيل 4,261 استقالة في عام 2022 وحده، بمعدل 13.5 استقالة يوميًا. وفي الفترة من 2019 إلى مارس 2022، بلغ عدد الاستقالات 11,536، بما في ذلك 934 في الأشهر الأولى من 2022، واستمرت الاستقالات في الارتفاع، حيث سجل عام 2023 أكثر من 4,300 استقالة، وفي 2025 أعلنت جامعة الإسكندرية عن 117 وظيفة شاغرة بسبب استقالات جماعية، مع معدل يومي يصل إلى 12 طبيبًا.

 

 

نوصي للقراءة: قانون المسؤولية الطبية: طبيب يستقيل كل ساعتين وخمس سنوات سجن تنتظر الباقين

وفاة أثناء العمل واستقالات جماعية

في الثامن من أغسطس الجاري، توفيت الطبيبة سلمى محمد حبيش، وهي طبيبة امتياز في كلية طب قصر العيني بجامعة القاهرة، أثناء أدائها واجبها المهني، إثر هبوط حاد في الدورة الدموية، بعد أن عملت ورديتين متتاليتين دون تناول طعام أو راحة كافية، مما أثار حزناً واسعاً وجدلاً حول سلامة الأطباء. وبينما نفت جامعة القاهرة أن تكون الوفاة مرتبطة بضغط العمل، مشيرة إلى أنها كانت تقضي فترة الامتياز قادمة من جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وأكدت تحريات الأمن عدم وجود شبهة جنائية، لكن مراقبون وأطباء أكدوا أن “الإجهاد الشديد” سبب رئيسي للوفاة، مع شهادات زملاء تتحدث عن “عمل شاق بدون راحة”، ودعوات لتحسين الظروف لمنع تكرار مثل هذه الحوادث.

قسم النساء والتوليد بمستشفى جامعة طنطا شهد أيضًا أزمة كبيرة مطلع الشهر الجاري حيث تقدمت 8 طبيبات مقيمات باستقالات جماعية احتجاجاً على ظروف العمل القاسية، بما في ذلك ساعات العمل الطويلة التي تصل إلى 12 ساعة يومياً، ضعف الأجور، والضغوط النفسية والجسدية الشديدة، مما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الطبية والاجتماعية. أدت هذه الاستقالات إلى نقل وحدة القسم إلى المستشفى التعليمي الفرنساوي، وتقديم بلاغات إلى النيابة العامة للتحقيق في الظروف، مع عودة بعض الطبيبات بعد اتفاق مع عميد الكلية.

ويُجبر الأطباء في مصر على العمل لساعات طويلة غير آدمية، غالباً ما تتجاوز 16 ساعة يومياً، خاصة في المستشفيات الحكومية والجامعية، كما أن بعض الأطباء يعملون في أماكن متعددة لتعويض ضعف الدخل، مما يؤدي إلى إرهاق بدني ونفسي يؤثر على كفاءتهم، هذه الساعات الطويلة ناتجة عن نقص الكوادر الطبية وزيادة الإقبال على الخدمات الطبية في المستشفيات العامة، حيث يتعامل الطبيب الواحد مع عشرات المرضى يومياً.

تُعد هجرة الأطباء من مصر إحدى أبرز التحديات الصحية، حيث غادر أكثر من 7 آلاف طبيب في 2023 وحده، ووصل العدد إلى 120 ألف طبيب يعملون خارج البلاد من إجمالي 220 ألف مسجل في النقابة. وفي الفترة من 2020 إلى 2025، انخفض معدل الأطباء لكل 10 آلاف نسمة من 7.6 إلى 6.7، مع هجرة 56% من الأطباء، خاصة إلى بريطانيا حيث ارتفع العدد من 435 في 2017 إلى 1,312 في العام الماضي. ومنذ تفشي كورونا، هاجر 7 آلاف طبيب، مما يمثل 60% من الأطباء المصريين خارج البلاد، مع تفضيل الدول الأوروبية والخليجية لأسباب مهنية ومالية. وفي 2025، أدت القيود الحكومية إلى تفاقم الأزمة، حيث بلغ عدد المهاجرين 110 ألف في ثلاث سنوات، مما يعمق نقص الكوادر الطبية داخليًا.

 

أين يهاجر أطباء مصر؟

تشير البيانات إلى أن الأطباء المصريين يهاجرون بشكل متزايد نحو عدة وجهات رئيسية، أبرزها المملكة المتحدة وألمانيا في أوروبا، والولايات المتحدة وكندا في أمريكا الشمالية، إضافة إلى دول الخليج العربي مثل السعودية والإمارات. هذه الدول توفر بيئة عمل أكثر تنظيمًا، وساعات دوام أقل إرهاقًا، ورواتب مرتفعة بشكل ملحوظ مقارنة بما يحصل عليه الأطباء في مصر.

المملكة المتحدة، على سبيل المثال، شهدت تضاعف عدد الأطباء المصريين المسجلين للعمل فيها عدة مرات خلال السنوات الأخيرة. كما أصبحت ألمانيا وجهة جذابة بفضل نظامها الصحي المتطور وتسهيلات الترخيص. أما الولايات المتحدة وكندا فتقدمان رواتب عالية جدًا وفرصًا للتخصصات الدقيقة، وإن كانت متطلبات المعادلة والعمل فيهما أصعب. وفي الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، يجد الأطباء فرصًا برواتب مرتفعة غالبًا معفاة من الضرائب، إلى جانب مزايا مثل السكن والتأمين الطبي.

على الجانب الآخر، يبقى الراتب في مصر، وخاصة في القطاع الحكومي، ضعيفًا للغاية مقارنة بالمستوى الدولي. الطبيب حديث التخرج أو المقيم قد يتقاضى ما بين 2,000 و7,000 جنيه شهريًا، أي نحو 100–220 دولارًا فقط، وهو ما يقل حتى عن الحد الأدنى للأجور في كثير من الدول. في المقابل، قد يحصل الطبيب في أوروبا الغربية على 55–102 دولار ألف سنويًا، وفي الولايات المتحدة على نحو 220 ألف دولار، بينما تصل الرواتب في سويسرا إلى ما بين 137 و280 ألف دولار. في دول الخليج، مثل السعودية، يمكن أن يصل الراتب السنوي إلى نحو 140ألف دولار، وفي الإمارات إلى ما بين 140 و190 ألف دولار.

 

نوصي للقراءة: ما الذي يدفع أطبّاء مصر إلى الهجرة؟

ارتفاع وفيات الأطباء أثناء العمل: مؤشر خطر

في السنوات الأخيرة، ارتفعت معدلات وفيات الأطباء في مصر بشكل ملحوظ منذ 2020، خاصة بسبب جائحة كورونا. بناءً على البيانات المتاحة من نقابة الأطباء المصرية ومصادر أخرى، يُقدر الإجمالي لوفيات الأطباء أثناء العمل (بما في ذلك الإصابة بكورونا أثناء الخدمة والإجهاد المهني) خلال الفترة من 2020 إلى 2025 بحوالي 800-900 حالة، مع تركيز رئيسي على وفيات كورونا التي بلغت حوالي 700 حالة حتى عام 2022، ووفيات الإجهاد التي تتراوح بين 50-150 حالة إضافية حسب المصادر.

 

 

سجلت نقابة الأطباء 149 وفاة بسبب الإجهاد في 2022، بينما أشارت مصادر أخرى إلى 18 حالة فقط في نفس العام (حتى سبتمبر)، مع أرقام أقل في السنوات السابقة (7 في 2020، 10 في 2021). أما للأعوام 2023-2025، فلا توجد إحصائيات محدثة شاملة، لكن الحالات الفردية (مثل وفيات الإجهاد) تستمر بمعدل 10-20 سنويًا.

بالإضافة إلى ذلك، يتعرض الأطباء للعنف داخل المستشفيات، فقد كشفت دراسة أجراها باحثون بجامعة الإسكندرية عن ارتفاع معدلات العنف ضد الأطباء في مصر، من منظور الطب الشرعي. وشملت الدراسة، التي نُشرت في دورية “ساينتفك ريبورتس”، استطلاع آراء 250 طبيبًا في 13 محافظة خلال الفترة من يناير إلى أبريل 2023، لتوثيق تجاربهم مع العنف في أماكن العمل. وأظهرت النتائج أن 88% من الأطباء تعرضوا للعنف اللفظي، و42% للعنف الجسدي، و13.2% للتحرش الجنسي، مع استخدام 75.2% من المهاجمين أجسادهم، بينما استُخدمت أدوات حادة في 29.5% وأسلحة نارية في 1.9%. وتركزت الهجمات في مستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية، خاصةً خلال المناوبات الليلية، بسبب قلة الموظفين والإجراءات الأمنية، وكانت الحوادث غالبًا بسبب نقص الإمدادات الطبية وأوقات الانتظار الطويلة، ومع ذلك اتخذ 14.3% فقط من الأطباء إجراءات قانونية.

 

نوصي للقراءة: من الاحتراق الوظيفي إلى الهجرة.. لماذا يترك الأطباء النفسيون مصر؟

ظروف عمل فوق احتمال البشر

يؤكد الدكتور خالد أمين، -الأمين العام لنقابة الأطباء-، في تصريح خاص لمنصة زاوية ثالثة، أن أزمة المنظومة الصحية في مصر تتفاقم بشكل يومي، وأن ما يحدث لا يمكن وصفه إلا بـ”العبث الكامل”، مشيرًا إلى أن “الضغوط المتراكمة التي يتعرض لها الأطباء أصبحت لا تُطاق، وبيئة العمل في المستشفيات والمؤسسات الصحية الحكومية لم تعد تحتمل، وهو ما يدفع الكثير من الأطباء إما للاستقالة أو للهجرة خارج البلاد، أو حتى ترك المهنة تماماً”.

يوضح أمين أن الأطباء يواجهون أوضاعاً اقتصادية شديدة التدهور، إذ “يتقاضى الطبيب أجراً لا يليق إطلاقاً بطبيعة العمل ولا بمستوى المسؤولية، ويتعرض لمعاملة إدارية مهينة، كأن يُجبر على تسجيل بصمة الحضور والانصراف رغم كونه في غرفة العمليات أو وسط إجراء طبي طارئ، هذا لا يحدث في أي مكان بالعالم”.

ويتابع: “في مقابل هذه الظروف المهينة، نجد تصاعداً في ظاهرة ترك الخدمة، بل إن بعض الأطباء يرفضون من الأساس التعيين في المستشفيات الجامعية أو الحكومية، لذلك الوضع تحول إلى ما يشبه المحرقة المهنية. المهام الموكلة لطبيب واحد اليوم كانت موزعة على خمسة في الماضي، وبالتالي أطباء شباب ينفجرون من الضغط، وزملاؤهم يشهدون يومياً على ذلك”.

ويشير إلى أن النسخة الأولية لقانون المسؤولية الطبية خلقت حالة من الذعر بين الأطباء، موضحًا: “نحن نرى كيف يجري تصوير الطبيب اليوم كمتهم جنائي، والتعامل مع الخطأ الطبي كجريمة جنائية مباشرة، دون تحقيق علمي أو حكم قضائي نهائي. الإعلام والسوشيال ميديا يساهمان في التشهير بالأطباء، ولا يوجد حتى الآن قانون يحميهم من ذلك”.

ويحذر أمين من خطورة الاستمرار في تجاهل شكاوى الأطباء، مضيفاً: “أي مريض غير راضٍ عن نتيجة علاج أو تدخل جراحي أصبح يملك أداة ترهيب مباشرة للطبيب عبر البلاغات والتشهير، هذا يجعل حتى من يملك عيادة خاصة أو مركزاً طبياً غير قادر على الاستمرار، لأن المطالب الإدارية والضرائبية تنهكه. فواتير إلكترونية، ضرائب مبالغ فيها، مصاريف لا تنتهي، وفي المقابل لا توجد أي تسهيلات تحفزه على البقاء داخل المنظومة”.

ويضيف أن الدول الخليجية والأوروبية باتت تقدم تسهيلات غير مسبوقة لاستقبال الأطباء المصريين، حيث “كانت الهجرة الطبية سابقاً تحتاج إلى ستة أو سبعة أشهر لإنهاء الإجراءات، أما الآن، فالأمر يتم في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر فقط، رغم أن قيمة العقود انخفضت نسبياً هناك، لكنها لا تزال أعلى كثيراً من الداخل، خاصة مع تآكل قيمة الجنيه وصعوبة الحياة في مصر”.

ويؤكد أمين في حديثه معنا أن أصوات الأطباء لا تجد من يستمع إليها، مضيفًا: “حين حاولت طرح هذه الأزمات بشكل مسؤول، فوجئت بتحويلي إلى النيابة العامة، وكأن المطلوب من الطبيب أن يصمت فقط. بدلاً من الحوار، اختارت وزارة الصحة طريق البلاغات الأمنية. وكأن الطبيب أصبح تهديداً أمنياً، لمجرد أنه يطالب بحقوقه أو يعرض معاناة زملائه”.

ويرى أن الطريقة التي تُدار بها المنظومة تعكس غياباً تاماً للرؤية، ويقول: “بدلاً من العمل على تحسين بيئة عمل الطبيب وتوفير الحوافز الكافية، نجد الاتجاه نحو إنشاء جامعات خاصة تُخرج أطباء بأعداد كبيرة دون ضمان للجودة أو الكفاءة. وفي النهاية، هؤلاء أيضاً سيسافرون أو سيتركون المهنة”.

ويتابع: “الطبيب المصري حتى الآن من أفضل الأطباء في العالم، لأنه يمر بتجارب مهنية لا تحدث في أي مكان آخر. الطبيب في مصر قد يعاين 70 حالة يومياً، ويتعامل مع أمراض معقدة في ظل غياب الأجهزة والإمكانيات. لكنه رغم ذلك لا يحظى بأي تقدير”.

ويحذر الأمين العام لنقابة الأطباء: “إذا استمر الوضع بهذا الشكل، لن يبقى في مصر إلا الأطباء الذين لم يحصلوا على فرصة للسفر، والذين قد لا يكونوا الأكفأ دائماً. أما الكفاءات الحقيقية، فستغادر، وستترك فراغاً كارثياً في منظومة الرعاية الصحية. نحن أمام انهيار وشيك، والمسؤولون لا يريدون الاعتراف بذلك. نحن لا نطلب امتيازات، فقط نطالب أن يُعامل الطبيب كإنسان محترف، لا كموظف بلا قيمة. وإذا لم يتحرك من بيدهم القرار الآن، فلن نجد أطباء يعالجوننا بعد سنوات قليلة”.

وفقًا لبيانات وزارة الصحة، يتخرج نحو تسعة آلاف طبيب سنويًا، لكن أكثر من 60% منهم يختارون العمل خارج مصر. في عام 2018، حذرت دراسة حكومية من انخفاض عدد الأطباء العاملين، وأظهرت أن من بين 213 ألف طبيب مرخص لهم مزاولة المهنة، يعمل فقط 82 ألفًا فعليًا في مختلف الجهات الصحية، ما يمثل 38% فقط من القوة الأساسية.

كذلك أفاد الجهاز المركزي للإحصاء بانخفاض عدد الأطباء إلى 97.4 ألف طبيب في عام 2022، مقارنة بـ100.7 ألف في عام 2021، بانخفاض نسبته 3.3%. فيما ذكرت بيانات نقابة الأطباء المصرية، أن نحو 11 ألفًا و536 طبيبًا استقالوا من العمل الحكومي خلال ثلاث سنوات فقط في الفترة من 2019 وحتى مارس 2022.

بحسب تلك البيانات، فإن عام 2022 شهد استقالة أكثر من 4300 طبيب مصري يعملون بالمستشفيات الحكومية، ويمثل العدد الأكبر خلال السنوات السبع الماضية، بمعدل يصل إلى 13.5 طبيب كل يوم، إذ تضاعف أربع مرات من 1044 استقالة عام 2016 إلى 4127 استقالة عام 2021.

ومن جهته، يرى الدكتور أيمن فتحي، -استشاري إدارة المستشفيات والهيئات والنظم الصحية-، أن “الأزمة الأخيرة التي تشهدها كليات الطب المصرية، من استقالات جماعية ليست حادثًا عابرًا، بل هي امتداد لمسار طويل من الضغوط المتراكمة على الأطباء داخل بيئة العمل، جعلت كثيرين منهم إما يتركون المهنة، أو يهاجرون، أو حتى يتعرضون لمضاعفات صحية قد تصل إلى الوفاة.

ويقول فتحي في حديث إلى زاوية ثالثة: “لو أردنا تشخيص المشكلة علميًا، فنحن نتحدث عن ثلاثة محاور رئيسية: العنصر البشري، وبيئة العمل، وآلية العمل. من حيث العنصر البشري، نحن أمام شباب دخلوا كلية الطب وهم يحلمون بأن يكونوا ضمن هيئة التدريس، حتى لو كان المقابل المادي ضعيفًا جدًا، أقل من الحد الأدنى للأجور، لكنهم قبلوا التضحية بالجانب المادي مقابل التعلم والترقي الأكاديمي. غير أن التعليم لم يعد كما كان، بعد تضخم أعداد الدفعات وتراجع جودة التدريب، فيما الدعم المعنوي غائب، والأطباء يتعرضون لضغوط وإهانات واعتداءات لفظية وجسدية من بعض المرضى أو ذويهم.

ويضيف: “أما بيئة العمل، فهي في كثير من الأحيان غير آمنة وغير مريحة. سكن الأطباء في المستشفيات والجامعات، في معظم الحالات، غير آدمي، يفتقر لأبسط مقومات الراحة والنظافة، ولا يوفر للأطباء وجبات مناسبة أو أماكن لائقة للراحة بعد نوبات عمل طويلة. الأطباء في المستشفيات السياحية أو القرى البعيدة قد يحصلون على معاملة أفضل من حيث السكن والطعام، بينما في المستشفيات الجامعية أو العامة يفتقدون ذلك تمامًا.”

ويتابع في حديثه معنا: “المحور الثالث هو آلية العمل. في معظم دول العالم، ساعات العمل الأسبوعية للطبيب تتراوح بين 36 و42 ساعة، موزعة على فترات معقولة. لكن في المستشفيات المصرية، يمكن أن تصل النوبات المتواصلة إلى 24 أو 36 ساعة، وأحيانًا 48 أو 72 ساعة بلا انقطاع، وهو أمر يناقض الطبيعة البشرية ويؤدي إلى إنهاك جسدي وعقلي خطير. لافتًا إلى أنه لا يوجد قانون يحدد الحد الأقصى لساعات العمل المتواصلة، ما يترك الأمر لاجتهادات مديري الأقسام، وهو ما يفتح الباب لممارسات مرهقة بل وخطيرة على حياة الأطباء والمرضى على حد سواء.”

الحل يبدأ من تشريع قانون واضح يحدد الحد الأقصى لساعات العمل المتواصلة، مع إلزام المستشفيات بتوفير بيئة عمل مريحة وآمنة، تشمل سكنًا لائقًا ووجبات مناسبة. تحسين بيئة العمل لا يقل أهمية عن تحسين الأجور، لأن الطبيب الذي يعمل في ظروف آدمية يمكنه الصبر على ضعف المقابل المادي في سنواته الأولى، لكنه لا يمكنه الصمود أمام بيئة عمل طاردة وساعات عمل مرهقة تتسبب في حوادث مأساوية، مثل وفاة الطبيبة الشابة في القصر العيني بسبب الإرهاق وعدم حصولها على وقت لتناول الطعام.

وأخيرًا.. أزمة الأطباء في مصر لم تعد مجرد قضية مهنية أو مطلبية، بل تحولت إلى تهديد مباشر للأمن الصحي القومي. بين وفيات مأساوية بسبب الإجهاد، واستقالات جماعية، وهجرة كفاءات إلى الخارج، تتسع الفجوة بين احتياجات المرضى والقدرة الفعلية للمستشفيات على تلبيتها. وإذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لتحسين بيئة العمل، ورفع الأجور، وتوفير الحماية القانونية للأطباء، فإن مستقبل الرعاية الصحية في مصر قد يواجه انهيارًا لا رجعة فيه، حيث لن يبقى في الميدان سوى القليل، بينما يتجه البقية إلى حيث تُقدَّر خبراتهم ويحترم جهدهم.

 

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search