close

سوهاج – محور دار السلام: من منازل العمر إلى أكواخ البوص

أسر كاملة في مركز دار السلام بمحافظة سوهاج فقدت منازلها بعد تنفيذ مشروع محور محمد سيد طنطاوي. رغم صرف تعويضات، يعيش المتضررون في أكواخ من البوص بلا تراخيص بناء أو حلول بديلة. تحقيق “زاوية ثالثة” يكشف الوثائق، الشهادات، وردود النواب والمسؤولين
Picture of آية ياسر

آية ياسر

كانت أسرة محمد شيبة تعيش حياة مستقرة في منزلها الواسع بقرية أولاد خلف، التابعة لمركز دار السلام بمحافظة سوهاج، وهو منزل شيّده الأب عام 2011 على مساحة أربعة قراريط، مضافًا إليها حديقة بمساحة قيراطين، وبتكلفة فاقت 3.7 مليون جنيه. غير أن هذه الملكية أُزيلت منذ عامين ضمن 20 منزلًا هُدمت لصالح تنفيذ محور الدكتور محمد سيد طنطاوي (دار السلام)، أحد مشروعات الطرق القومية التي تربط بين محافظتي سوهاج وقنا، بطول 28 كيلومترًا، وتشمل كوبريًا على النيل بطول 1.3 كيلومتر، يهدف إلى تقليص المسافة بين المحاور النيلية وتعزيز التنمية العمرانية والاستثمار والتجارة بين ضفتي النيل.

ورغم صرف الحكومة لتعويضات للسكان آنذاك، إلا أن عشرين أسرة من بينهم أسرة محمد، المكوّنة من أبوين وستة أبناء وابنة، وجدوا أنفسهم في مواجهة معاناة حادة بعد فقدان منازلهم. فقد بات من الصعب العثور على سكن بديل داخل القرية، سواء بالإيجار أو الشراء، بسبب ارتفاع أسعار العقارات إلى مستويات تفوق قيمة التعويضات، فضلًا عن ندرة الأراضي والمنازل التي تتوارثها العائلات جيلاً بعد جيل.

في البداية، لجأت الأسرة للإقامة المؤقتة لدى أحد الأقارب، لكنهم اضطروا لاحقًا لمغادرة المكان، فأنشؤوا كوخًا من البوص فوق قطعة أرض زراعية اشتروها خارج الحيز العمراني للقرية. ومنذ ذلك الحين، تعيش الأسرة في ظروف بالغة القسوة، بلا مياه أو كهرباء أو صرف صحي، وتحت سقف من البوص يتسرب منه المطر شتاءً، وتقتحمه الرياح المحملة بالتراب، فيما تعذر على الابنين الشابين إتمام زواجهما لعدم توافر مسكن ملائم.

ويقول محمد لـ”زاوية ثالثة” إن قيمة التعويضات لا توازي بأي حال القيمة الحقيقية للأرض؛ إذ يبلغ سعر القيراط في قريته نحو 750 ألف جنيه، بينما لم تتجاوز قيمة التعويض 200 ألف جنيه للقيراط. وأضاف أنه اضطر إلى شراء أرض جديدة بسعر 720 ألف جنيه للقيراط، وهو ما حمّله عبئًا ماليًا كبيرًا، انعكس على حياة أسرته. وأشار إلى أن الأهالي تلقوا وعودًا من محافظ سوهاج، اللواء طارق الفقي، بالحصول على تراخيص بناء في مواقع بديلة، ما شجّعهم على هدم منازلهم طواعية. إلا أن هذه الوعود لم تُنفذ حتى اليوم، رغم مرور عامين على الإزالات التي بدأت في الأول من سبتمبر 2023، لتجد عشرات الأسر نفسها بلا مأوى، وتعيش في أكواخ من البوص تحت رحمة الشتاء والمطر.

ويشير شيبة إلى أن محاولاته المتكررة مع نواب البرلمان لم تُفضِ إلى أي حلول، رغم علمهم الكامل بظروف الأهالي ومعاناتهم اليومية. ويؤكد أن كافة المستندات الرسمية، والخرائط، وتقارير اللجان التي عاينت الأراضي البديلة، تثبت صدور وعود رسمية لم يُلتزم بها حتى اليوم.

وبحسب إفادته، فقد أرسل محافظ سوهاج أكثر من ستة طلبات استثناء إلى وزير الزراعة، للسماح بالبناء على أراضٍ بديلة تقع خارج الحيز العمراني، إلا أن وزارة الزراعة لا تزال تُعطل إصدار التراخيص، في الوقت الذي كانت وزارة النقل هي الجهة المنفذة لقرارات الإزالة.

ويقول شيبة في حديثه لـ”زاوية ثالثة”: “الأهالي، ومن بينهم أسر تضم أطباء وصيادلة وطلابًا في الجامعات والمدارس الثانوية، يعيشون أوضاعًا غير إنسانية منذ لحظة الإزالة. نطالب بتدخل عاجل لحل الأزمة ومنحنا استثناءً رسميًا للبناء، فوعود المسؤولين لم تُنفذ حتى الآن، واستمرار هذا الوضع يهدد استقرار مئات الأسر في دار السلام”.

 

صورة (يمين) من شكوى قدّمها الأهالي إلى محافظ سوهاج، وأخرى (يسار) موجّهة إلى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، وعدد من المسؤولين، حصلت عليهما “زاوية ثالثة”.

 

بدوره يوضح نجله أسامة محمد، طالب جامعي وأحد المتضررين من إزالات محور دار السلام، أن هذه الإزالات جاءت خلافًا لما أُعلن لهم في البداية بشأن منحهم تصاريح لبناء منازل بديلة، إلا أن التنفيذ تم في اليوم التالي مباشرة بمشاركة قوات من الجيش، ولم تُنفذ أي وعود لاحقة، مؤكدًا أن منزل أسرته كان مقامًا على مساحة أربعة قراريط بالإضافة إلى حديقة بمساحة قيراطين، وبلغت مساحة ممتلكات والده وعمه التي أُزيلت نحو 33 قيراطًا تضم فيلتين، بينما إجمالي التعويض الذي حصلت عليه أسرته لم يتجاوز 850 ألف جنيه – على حد قوله-، وهو مبلغ وصفه بأنه أقل بكثير من تكلفة البناء الفعلية التي تجاوزت 3.7 مليون جنيه عام 2011.

يقول لـ”زاوية ثالثة”: “أسعار العقارات في القرية مرتفعة للغاية ويصعب وجود منازل معروضة للبيع، وقد يصل سعر المنزل إلى أربعة ملايين جنيه. كما أن الأراضي التي نُزعت ملكيتها كانت مسجلة بعقود رسمية، ولم يُصرف لنا تعويض عادل عنها أو عن المحاصيل الزراعية، واكتفوا بتعويضنا عن الإنشاءات”.

ويرى أسامة أن المجلس المحلي ووزارة الزراعة يعرقلان محاولات إعادة البناء، حيث تُزال أي محاولة لوضع أساسات جديدة، رغم أن الأهالي عرضوا تشييد مساكن على نفقتهم الخاصة، مشيرًا إلى أن محاولات الأهالي للاستعانة بنواب دائرتهم في مجلس النواب باءت بالفشل.

صورتان حصلت عليهما “زاوية ثالثة” لطلبي ترخيص بناء مقدّمين من المواطنين أحمد محمود شيبة وعاشور محمد إلى الجهات المحلية في دار السلام

 

المعاناة نفسها تعيشها أسرة عاشور محمد، المقيمة بنجع العاقولة  في قرية أولاد طوق غرب بمركز دار السلام، منذ أُزيل منزلها الذي كان مبنيًا على أرض زراعية، ضمن أعمال التوسعات الخاصة بمحور دار السلام، وتلقت الأسرة وقتئذٍ تعويضًا ماليًا لا يتناسب مع أسعار العقارات والأراضي في المركز، إلاّ أنها وافقت على الإخلاء لتلقيها وعدًا من الجهات المختصة بمنحها رخصة بناء على نفس الأرض الزراعية.

وقبل عامين شرع عاشور في إتمام إجراءات الحصول على ترخيص البناء، وقام بختم الخرائط والمخططات من جميع الجهات المعنية، ولم يتبق أمامه سوى موافقة مديرية الزراعة التي حالت دون منحه الترخيص، وفي ذلك الوقت تفاجئت الأسرة بإزالة منزلها وفقدانها للمأوى، بينما كان العمل في إنشاء محور دار السلام يسير على قدمٍ وساق.

يحكي عاشور لـ”زاوية ثالثة”، أن معاناة الأهالي المتضررين من إزالات محور دار السلام بمحافظة سوهاج، تعود إلى نحو عامين، حينما بدأت أعمال إنشاء المحور، إذ أُبلغوا بأن منازلهم تقع ضمن نطاق التوسعة، مؤكدًا أن الجهات المعنية وعدت المتضررين بتعويضات تشمل توفير بدائل للمباني التي أزيلت، إلى جانب مقابل مادي عن قيمة الإنشاءات، شريطة تقديم أوراق الملكية وعقود الأراضي والخرائط. 

ويوضح أنه وأسرته، شأنهم شأن باقي المتضررين، قاموا بتجهيز الأوراق والخرائط، وتم اعتمادها من جهات عدة بينها المساحة، والصرف والري، والطب البيطري، والكهرباء، ثم أُرسلت إلى وزارة الزراعة بالقاهرة، مشيرًا إلى أن الأسر المتضررة أنفقت مبالغ مالية كبيرة على الإجراءات طوال فترة العمل في المشروع، غير أنهم فوجئوا، بعد انتهاء كل الخطوات، بقرار وزاري بوقف إصدار التراخيص الخاصة بهم.

يقول: “المتضررين هم 17 أسرة من بينهم، 14 عائلة من قرية أولاد خلف، إضافة إلى 3 عائلات من قرية العاقولة، من بينهم: عاشور محمد موسى محمد، وخالد كليب محمد رضوان، ويونس فوزي موسى محمد.. ونحن نقيم حاليًا لدى أقاربنا في انتظار توفير سكن بديل، نظرًا إلى صعوبة استئجار مساكن في القرى والنجوع لانعدام المعروض، وارتفاع الإيجارات في مراكز المدن”.

 

صورتان حصلت عليهما “زاوية ثالثة” لشكوى مقدّمة من زوجة المواطن عاشور محمد إلى مجلس الوزراء، والرد الرسمي عليها.

 

يتذكر عاشور أن إجراءات التعويض بدأت بحضور خبير من وزارة الزراعة لتقدير سعر القيراط، حيث جرت عملية التقييم وفقًا لموقع الأرض دون تدخل من الأهالي. ويشير إلى أن منزله، الذي كان مقامًا على مساحة قيراط، كان من المفترض أن يُعوَّض عنه بمساحة 90 مترًا وفقًا للترخيص، إلا أنه تلقى فقط 60 ألف جنيه كتعويض مادي عن المبنى الطيني (الطوب اللبن) الذي أُزيل. في المقابل، نزعت السلطات ملكية قيراطين و13 سهمًا من أراضيه الزراعية، بينما كان سعر القيراط حينها يُقدّر بنحو 120 ألف جنيه. ورغم أن تعويض الأرض الزراعية كان مقبولًا نسبيًا، فإن الإشكال الأبرز – بحسب قوله – يتمثل في عدم تنفيذ وعود المسؤولين بتوفير تراخيص البناء مجانًا.

ويضيف: “أسعار المنازل ارتفعت بشكل كبير داخل الحيز العمراني للقرى، فمثلًا منزل بمساحة نصف قيراط يصل سعره إلى 400 ألف جنيه، وإذا أردت بناء بيت مماثل لمنزلي الذي أُزيل، أحتاج إلى نحو 800 ألف جنيه. توجهنا إلى المحافظ، ومجالس المدن، ومنصة الشكاوى الحكومية، وخدمة المواطنين في وزارة الزراعة، لكن دون أي استجابة فعلية. بل إن الشكاوى التي قدمناها إلى المحافظ أُحيلت إلى مجلس مدينة مركز دار السلام، وهو جهة غير مختصة، مما زاد تعقيد الأزمة بدلًا من حلها”.

ويؤكد أنه تواصل مع خدمة المواطنين بوزارة الزراعة في مارس 2025، حيث أخبرته المهندسة حنان حينها أن الخرائط لا تزال لدى هيئة الفتوى والتشريع. وعند تواصله معها لاحقًا، أكدت له أن الخرائط تم اعتمادها من الوزارة، وأن مهندسًا من الزراعة سيزور سوهاج خلال أسبوعين لمقابلة مدير حماية الأراضي وبحث المشكلة. وأبلغته بضرورة متابعة الشكوى بعد 20 يومًا. ويعتبر عاشور أن الأزمة باتت تحتاج إلى تدخل سياسي أو برلماني، متسائلًا عن غياب دور النواب في الدفاع عن حق الأهالي في البناء على الأراضي التي انتفعت بها الدولة أصلًا.

وفي الوقت الذي لا تزال فيه نحو 20 أسرة بمركز دار السلام تعاني تبعات الإزالات المرتبطة بمشروع محور دار السلام، فوجئ عدد من سكان محافظة قنا، خلال الأسابيع الماضية، بصدور قرار جديد من وزير النقل، الفريق كامل الوزير، يقضي بنزع ملكية 194 قطعة أرض أخرى لصالح المشروع ذاته.

فقد نشرت الجريدة الرسمية قرار الفريق مهندس كامل عبد الهادي الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير النقل، رقم 423 لسنة 2025، بنزع ملكية 194 عقارًا وأرضًا بمحافظة قنا، تنفيذًا لمشروع محور دار السلام على النيل. وأوضح القرار أن النزع جاء بعد تعذر التوصل إلى اتفاق بالتراضي مع الملاك، وأن الأراضي المستهدفة تقع في نواحي العمرة، أبو شوشة، والبحري سمهود، ضمن نطاق مديرية المساحة بقنا.

ويأتي هذا القرار تنفيذًا لما نص عليه قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 3873 لسنة 2022، باعتبار المشروع من أعمال المنفعة العامة. كما نص القرار على نشره في “الوقائع المصرية”، وإيداع نسخة منه في الشهر العقاري المختص، على أن يُعمل به بدءًا من تاريخ صدوره في 16 يوليو 2025.

نوصي للقراءة: “مدينة الأمل” تُبنى على أنقاض عزبة الهجانة

أزمة تعويضات أم أزمة تراخيص؟

في تعليقه على الأزمة، يرى النائب البرلماني أحمد عبد السلام قورة أن الدولة صرفت تعويضات “مجزية” للمواطنين المتضررين من أعمال استكمال محور دار السلام، مشيرًا إلى أن هذه التعويضات بلغت ضعف القيمة السوقية للأراضي التي جرى نزع ملكيتها. وأوضح أن عددًا من الأهالي تمكنوا من شراء أراضٍ بديلة، بل أن بعضهم – بحسب قوله – أعرب عن ارتياحه الكامل لما حصل عليه، لدرجة أن هناك من تمنّى إزالة المزيد من ممتلكاته بعد ما لمسه من منفعة.

وبخصوص المنازل التي أُزيلت في قرية أولاد خلف، أوضح قورة في حديثه لـ”زاوية ثالثة” أن أصحاب نحو 17 إلى 20 منزلًا حصلوا بالفعل على تعويضات مالية، إلى جانب تلقيهم وعودًا بالسماح لهم بإعادة البناء على أراضٍ زراعية بنفس المساحات التي فقدوها. وأضاف أن هذا الملف لا يزال قيد المتابعة بين وزارة الزراعة ومجلس الوزراء وجهات أخرى، مؤكدًا أن البرلمان سيعيد طرح القضية مع بداية دورته المقبلة عبر تقديم طلبات إحاطة، قائلاً: “الأهالي ضحوا بمنازلهم من أجل مشروع قومي، ومن حقهم الحصول على مسكن مناسب وسط أهلهم وقراهم”.

وفي ما يتعلق بالمرحلة التالية من المشروع، أوضح قورة أن محور دار السلام لم يكتمل بعد، وأن المرحلة الثانية ستتضمن نزع ملكيات جديدة، سيتم تعويض أصحابها بنفس الآلية السابقة، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، لا سيما في ما يخص أهالي الصعيد، على حد قوله.

من جانبها، أكدت النائبة البرلمانية عبلة الهواري أنها على اطلاع بتفاصيل الأزمة في قريتي أولاد خلف وأولاد طوق، موضحة أن الأراضي التي يطالب الأهالي بالبناء عليها تقع خارج الزمام الزراعي والنطاق العمراني، وهو ما يجعل منح التراخيص أمرًا غير قانوني. وأشارت إلى أنه في حال طلب الأهالي البناء داخل الكتلة السكنية وضمن الأراضي المخصصة للاستخدام السكني، فإن إصدار التراخيص ممكن ومتاح، لكنها شددت على أن ما يُطالب به حاليًا يتعارض مع القوانين المنظمة.

وفي ما يخص الأسر التي تقيم حاليًا في أكواخ أو لدى أقارب، قالت الهواري لـ”زاوية ثالثة”: “لا توجد مشروعات إسكان حكومي في قرية أولاد خلف يمكن تخصيص وحدات منها. من حصل على التعويض يمكنه شراء أرض تقع داخل الزمام والبناء عليها، بدلًا من المطالبة بالبناء في مناطق زراعية أو خارج النطاق العمراني”. وأكدت أن جوهر المشكلة يكمن في كون الأراضي المطالب بالبناء عليها غير مخصصة للسكن.

وردًا على ما تداوله بعض الأهالي بشأن عدم حصولهم على تعويضات أو إزالة منازل ذات طابع فاخر، نفت الهواري هذه الادعاءات، مؤكدة أن جميع المتضررين حصلوا على تعويضات، وأن ما يقال عن إزالة فيلات لا يمتّ للحقيقة بصلة، مضيفة: “لا توجد فيلات في قرية أولاد خلف”.

وبخصوص القرار الأخير المنشور في الجريدة الرسمية حول نزع ملكية أراضٍ جديدة لاستكمال محور دار السلام بين سوهاج وقنا، أوضحت النائبة أن المشروع لا يزال في طور التنفيذ، وأن نزع الملكيات يتم وفقًا للقانون رقم 10 لسنة 1990، الذي ينص على تعويض المواطنين من خلال لجان مختصة، مؤكدة أن الهدف من النزع هو استكمال المشروع القومي، وليس الاستيلاء على أراضٍ بلا غرض.

مسار محور دار السلام.. الموقع الرسمي للنائب أحمد قورة

 

نوصي للقراءة: جرافات التنمية تقتحم حي الريسة في العريش

النقل تواصل نزع الملكية

 

لم يكن قرار نزع الملكية في محافظة قنا، الذي أصدره وزير النقل الفريق كامل الوزير، القرار الوحيد من نوعه خلال الفترة الأخيرة؛ إذ سبقته أيامًا قليلة موافقة مماثلة نشرتها الجريدة الرسمية بموجب القرار رقم 393 لسنة 2025، لنزع ملكية نحو 85 قطعة أرض وعقار في محافظة الدقهلية، ضمن خطة تطوير طريق المنصورة – جمصة (رافد جمصة)، الذي يمر في نطاق محافظتي الدقهلية ودمياط.

وقد شمل القرار أراضي وعقارات في نواحي المنيل، ميت عنتر، أورمان طلخا، مدينة طلخا، أبو ماضي، كفر دمالش، ميت زنقر، والروضة، وذلك بعد تعذر توقيع الملاك أو ذوي الشأن على نماذج نقل الملكية. ونص القرار الصادر بتاريخ 10 يوليو 2025 على نشره في “الوقائع المصرية”، وإيداع نسخة منه في الشهر العقاري المختص، على أن يدخل حيز التنفيذ من تاريخ صدوره.

ويُعد هذا القرار جزءًا من تنفيذ توجيه رئيس مجلس الوزراء رقم 3877 لسنة 2022، الذي اعتبر المشروع من أعمال المنفعة العامة، ويشمل إنشاء أربع كباري علوية في مواقع جمصة، عمار، دميرة، والروضة، إلى جانب بوابتين للسيطرة الأمنية وتحصيل الرسوم في منطقتي زيان وشرنقاش.

من جانبه، يرى إبراهيم عزالدين، الباحث الأول والشريك المؤسس لـ”ديوان العمران للدراسات العمرانية”، أن وتيرة قرارات نزع الملكية تسارعت منذ عام 2014، وأصبحت تشكل مسارًا منهجيًا للدولة المصرية في الاستيلاء على الأراضي الخاصة بحجة المنفعة العامة، على حد وصفه. ويضيف أن هذه الأداة تُستخدم لتنفيذ مشروعات استثمارية ومحاور مرورية، وسط غياب إطار قانوني واضح لتعريف المنفعة العامة، ما يجعل أي مواطن عرضة لنزع ملكيته دون ضوابط دقيقة.

ويقول عزالدين لـ”زاوية ثالثة”: “تُستخدم عبارة المنفعة العامة كذريعة قانونية، بينما تسيطر الدولة على كامل العملية؛ من إصدار القرار إلى تحديد الشروط وآليات التنفيذ والتعويض. هذا الهيكل المغلق يولّد فقدانًا للثقة ويقوّض ما تبقى من العقد الاجتماعي بين المواطن والحكومة، الذي يفترض أن يحمي مصالح الناس لا أن يتجاهلها”.

ويُحذر عزالدين من التداعيات الاقتصادية لهذه السياسات، مشيرًا إلى حالة نزع 31 فدانًا في حي السلام ثانٍ لصالح مشروع “أهالينا 6″، حيث حددت الدولة تعويضًا يبلغ 7700 جنيه للمتر المربع، في حين تُباع الوحدات ضمن المشروع ذاته بسعر يصل إلى 20 ألف جنيه للمتر. “بهذا الفرق الكبير، لن يتمكن المواطن من شراء وحدة سكنية على الأرض ذاتها التي أُخذت منه”، يقول عزالدين.

على المستوى العمراني والبيئي، ينتقد الباحث توسع الدولة في إنشاء المحاور والكباري، ويرى أن هذه المشاريع تؤدي إلى عزل الأحياء اجتماعيًا وتُنفّذ دون دراسات تخطيطية أو بيئية كافية. ويضيف: “بعض هذه الكباري انهار خلال العام الأول من إنشائه، ما يثير تساؤلات حقيقية حول جدوى تلك المشروعات ومدى استدامتها”.

ويشير إلى وجود بدائل أكثر استدامة أهملت الحكومة تبنيها، كتحسين منظومة النقل العام، وتطوير البنية التحتية للمشاة والدراجات، وبناء مجتمعات عمرانية متكاملة تُوفر فرص عمل وخدمات فعلية، بدلًا من الحلول السريعة القائمة على الإزالات الواسعة.

قانونيًا، يرى عزالدين أن ممارسات الدولة لا تنسجم مع الدستور المصري ولا مع الاتفاقيات الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مؤكدًا غياب إشراك أصحاب الشأن في مراحل اتخاذ القرار، حيث يُكتفى بإعلام المواطنين بعد صدور قرارات النزع.

وبشأن الخيارات المتاحة للمتضررين، يوضح أن القانون يسمح بالاعتراض خلال 15 يومًا من إعلان الخرائط والكشوف، والطعن على تقدير التعويض أمام المحكمة الابتدائية خلال أربعة أشهر. لكنه يضيف: “حين يكون التعويض مجحفًا والسلطة التنفيذية متحكمة بكل التفاصيل، تصبح هذه الحقوق بلا فعالية تُذكر”.

ويختتم عزالدين حديثه بالتأكيد على أن غياب رؤية شاملة للتخطيط العمراني، واعتماد الدولة على المحاور والكباري كحلول سريعة، يحمل آثارًا سلبية عميقة على مستقبل المدن وصلابة بنيتها التحتية، داعيًا إلى إعادة النظر في السياسات العمرانية من جذورها.

وفي سياق متصل، نشرت الجريدة الرسمية قرارًا لوزيرة التنمية المحلية منال عوض بنزع ملكية عدة عقارات بارزة لتطوير مدخل مصر الجديدة، شملت العمارة رقم (85) بشارع الحرية بمنطقة ألماظة، والعمارة والمطعم الكائنين بتقاطع شارعي مهيب وحسين كامل، وقطعة الأرض رقم (2) مكررًا بلوك (435) مكررًا، بشارع فناطيس المياه.

وبحسب مركز “ديوان العمران”، فقد منحت الدولة تعويضًا قدره 7700 جنيه للمتر المربع في حي السلام، بينما نصّت كراسة شروط المشروع على بيع المتر ذاته بسعر يصل إلى 20 ألف جنيه، في مؤشر واضح – وفقًا للمركز – على الفجوة الواسعة بين قيمة التعويض وسعر السوق في المشروعات الحكومية ذاتها.

 

 نوصي للقراءة: ثلاثة أشهر للتنازل عن منزلك: خطة الحكومة تُربك مستأجري الإيجار القديم

نزع الملكية للضرورة القصوى؟

من جانبه، يرى الدكتور عباس الزعفراني، عميد كلية التخطيط الإقليمي والعمراني الأسبق بجامعة القاهرة، أن نزع الملكية لا ينبغي أن يُستخدم إلا في حالات الضرورة القصوى، مشددًا على أهمية أن تكون قيمة التعويض أكثر من عادلة، بحيث تشمل ليس فقط ثمن العقار، بل أيضًا كلفة الانتقال، وما يترتب عليه من انقطاع في الروابط الاجتماعية، وابتعاد عن مواقع العمل. وأكد أن رفع قيمة التعويضات يُجبر الجهات الحكومية على التروي والتدقيق قبل اتخاذ قرارات من هذا النوع.

ويشير الزعفراني إلى أن بعض المشروعات في السنوات الأخيرة أحدثت فارقًا ملموسًا، مثل محور جيهان السادات الذي ساهم في تقليص زمن الانتقال بين مدينة نصر والمناطق الخارجية، واصفًا ذلك بأنه نموذج ناجح. إلا أنه في المقابل، انتقد إنشاء جسور أخرى وصفها بأنها “عديمة الجدوى”، لافتًا إلى غياب المنفعة الفعلية في بعض الحالات.

وقال لـ”زاوية ثالثة”: “لا أرى مبررًا لإزالة مساكن قائمة بهدف إنشاء مشروعات سكنية جديدة. نزع الملكية لا يكون مقبولًا إلا إذا ارتبط بمنفعة عامة حقيقية، كإنشاء محور مروري يخدم حركة النقل. أما إزالة مساكن عمالية في الحي السادس أو مناطق مأهولة غير عشوائية، فهو إجراء غير صائب. ما نشهده في هذه الحالات هو إزالة مساكن الفقراء لبناء وحدات سكنية تستهدف شرائح اقتصادية أعلى”.

ويضيف أن مصر تواجه ما وصفه بـ”تشبع عقاري”، إذ توجد كميات ضخمة من الوحدات السكنية غير المباعة، بينما تحتاج الدولة إلى توجيه استثماراتها نحو قطاعات إنتاجية حيوية مثل الزراعة، الصناعة، التعدين، والطاقة. ودعا في هذا السياق إلى التركيز على مشروعات الطاقة الشمسية لتقليل الاعتماد على الخارج، مؤكدًا أن استصلاح الأراضي الزراعية وزراعتها يُحقق فوائد اقتصادية وغذائية أكثر نفعًا للمجتمع من الاستثمارات العقارية الجامدة.

وفي ختام حديثه، شدد الزعفراني على أن الأولوية اليوم يجب أن تُمنح للتنمية المستدامة في مجالات الغذاء والطاقة، بدلًا من الاستمرار في إطلاق مشروعات سكنية جديدة، أو التوسع غير المبرر في إنشاء الجسور والطرق داخل مناطق مكتظة مثل مدينة نصر.

يرى المهندس محمد عبد الرحمن، الأمين العام لجمعية خبراء التقييم العقاري، أن قرارات نزع الملكية الوزارية الأخيرة ليست استثناءً، بل امتداد لمسار بدأ مع القانون رقم 10 لسنة 1990 بشأن نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة، غير أن التعديلات التي أُدخلت بموجب القانون رقم 187 لسنة 2020 مثّلت تحولًا جوهريًا في آلية إصدار وتنفيذ هذه القرارات.

من أبرز هذه التعديلات، إلزام الجهة طالبة نزع الملكية بإيداع قيمة التعويض المبدئي في حساب مصرفي حكومي خلال شهر من صدور قرار المنفعة العامة، على أن يُودع المبلغ الكامل خلال ثلاثة أشهر في حساب يدر عائدًا، مع منح الملاك الحق في فوائد التأخير. كما جرى تمديد صلاحية قرار المنفعة العامة من عامين إلى ثلاثة، إلا أنه يُعتبر لاغيًا بالنسبة للعقارات التي لم تُتخذ بشأنها إجراءات خلال هذه المدة.

وفي حديثه لـ”زاوية ثالثة”، يوضح عبد الرحمن أن هذه التعديلات منحت صلاحيات واسعة للمسؤولين التنفيذيين، إذ لم يعد إصدار قرارات نزع الملكية حكرًا على رئيس الجمهورية كما كان في السابق، بل بات بإمكان أي مسؤول إداري اتخاذ القرار مباشرة، وهو ما أدى – بحسب وصفه – إلى استخدام فضفاض لمفهوم “المنفعة العامة”، أحيانًا لأهداف مالية تخص الوزارات أكثر من خدمة المواطنين.

وينتقد عبد الرحمن غياب الوقت الكافي لإخطار المواطنين قبل التنفيذ، فضلًا عن عدم كفاية التعويضات، مؤكدًا أن تقدير القيمة السوقية للعقار مضافًا إليها 20% كتعويض معنوي لا يُطبّق فعليًا في كثير من الحالات، نظرًا لاعتماد الجهات الحكومية على موظفين داخليين بدلًا من خبراء تقييم مستقلين مسجلين لدى الهيئة العامة للرقابة المالية.

ويضيف: “خبراء التقييم العقاري يعملون وفق معايير معتمدة منذ 2015، متوافقة مع المعايير الدولية، وتُلزم بأن يكون التقييم محصورًا بمن هم مقيدون لدى الهيئة، لضمان الحيادية والشفافية”.

كما يلفت إلى ثغرة قانونية خطيرة، تتمثل في عدم أحقية التعويض أو الطعن عليه إلا لمن يمتلك سند ملكية مسجّل في الشهر العقاري، في حين أن العقارات المسجلة لا تتجاوز 10% من إجمالي الممتلكات في مصر، ما يحرم غالبية الملاك من حقوقهم، ويجعلهم خارج دائرة الحماية القانونية. ويؤكد أن صرف التعويضات بالقيمة السوقية العادلة مع إضافة النسبة المعنوية كان سيمنح المواطنين فرصة حقيقية للحصول على سكن بديل ضمن نفس المنطقة أو محيطها، داعيًا إلى تفعيل هذا النص بشكل صارم.

ويختتم عبد الرحمن بالتشديد على أهمية فتح حوار مجتمعي واسع قبل اتخاذ قرارات نزع ملكية كبرى، خاصة تلك التي تمسّ حياة المواطنين أو تُغيّر ملامح مناطق تراثية، مع ضرورة إشراك المتخصصين لتأمين التوازن بين احتياجات التنمية وحقوق السكان والموروث العمراني.

وفي ختام هذا التحقيق، يتجلّى مشروع محور دار السلام بوصفه نموذجًا حادًّا لصراع مركّب: بين أهداف الدولة التنموية، وواقع المواطنين الذين فقدوا منازلهم دون حلول ملموسة.

فرغم تأكيد الجهات الرسمية على التزامها بالقانون وصرف تعويضات تفوق القيمة السوقية، إلا أن شهادات المتضررين تكشف صورة مغايرة: تعويضات لا تكفي لشراء البديل، ووعود لم تُنفّذ منذ عامين، وأسر تعيش في أكواخ مؤقتة بلا ماء أو كهرباء.

وبين تبريرات المسؤولين، ونصوص القانون، وتحليلات الخبراء، تبقى معادلة “المنفعة العامة” مفتوحة على تأويلات واسعة، بينما ينتظر المواطنون – في قراهم، وأكواخهم، وصبرهم الطويل – أن تنحاز الدولة لا للمشروعات فحسب، بل أيضًا لحقهم في السكن، والعدالة، والكرامة.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search